أحداث غزة الأخيرة ابتلاء انطوى على دروس وعبر ومواقف وآمال وآلام (خطبة)
أحداث غزة الأخيرة
ابتلاء انطوى على دروس وعبر ومواقف وآمال وآلام
معاشر المسلمين، إن اللسان لَيقف عاجزًا أمام وصف الأحداث الأليمة التي شهدناها في الأيام الماضية، وإن القلب لَيعتصر ألمًا وحزنًا، ولَيتقطَّع حرقة وغضبًا وكَمَدًا، على ما يجري لإخوان لنا في النسب واللغة والدين، وفي الآلام والآمال، في أرض فلسطين، فلسطين الجريحة، وإنه لإحساس يسري في جسد كل مسلم صادق، غيور على دينه وعِرْضِهِ وأرضه، وقضايا أمته، حين يرى قتل الأبرياء، من شيوخ وأطفال ونساء، وحصار ظالم مُنِعَ فيه الغذاء والدواء، وقطع للمياه والاتصال والكهرباء، وقصف غاشم بأطنان من الصواريخ المتفجرة التي دمرت المساكن فوق رؤوس الساكنين، بلا رحمة ولا شفقة ولا هوادة من اليهود المعتدين المغتصبين، بدعم وتكالب من أمم الكفر العالمية، فيعاني إخواننا في قِبلة الإسلام الأولى، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظلم كيان دخيل ماكر، وأذى عدو ذليل غادر، حتى رأينا أجسادًا ذبَلت، وأكبادًا جفَّت، وبطونًا قَرْقَرت، وأجوافًا ظمِئت، من عدوان غاشم، وحصار ظالم، أطفالٌ يبكون ويصرخون، وشيوخ يئِنُّون، ومرضى يتوجُّعون، ورجال حائرون.
رأينا الجنائز متوالية، وشهداء وجرحى في كل آنٍ ولحظة، سمعنا بفناء عائلات كاملة، ودمار أحياء عامرة، وغير ذلك من أشكال العدوان، ما تهتز بأهواله الشنيعة همًّا رفات الفاتحين الأجداد، وتهتز بأخباره غمًّا أفئدة الآملين المتألمين الأحفاد، ولكن ثباتًا ثباتًا يا عباد الله، ها قد أُثلجت الصدور، وأُذهب غيظ القلوب، بما أذاقه الفلسطينيون – ولا يزالون – لإخوان القردة والخنازير أعداءِ الله من الكفرة المحاربين، فدخلوا عليهم في المعسكرات والقواعد والمستعمرات، وأذاقوهم سوء العذاب، وقصفوهم في المدن المغصوبة، فأرعبوهم وقتلوهم، وشلُّوا أركانهم وحركتهم واقتصادهم، وأربكوهم حتى استنجدوا بمن جاء بهم، فكسروا تلك الأوهام التي روَّجها الكِيان الهَشُّ، بأنهم الجيش الذي لا يُقهر، والدولة التي لا تُهزم، فالله أكبر، ببضع مئات، وتدبير قلة، حصل ذلك بساعات محدودة، مع فارق ميزان القوة والهيمنة.
أيها الأحبة الكرام، بغض النظر عن جدوى وفاعلية ما قاموا به وضرورته من عدمه، وبشرعيته من عدمها، وبغض النظر كذلك عن حال الجماعات الإسلامية التي قامت بذلك، فلكل مقام مقال، ولكل حال أحكام، فلا نوافقهم فيما أقدموا عليه، لجرِّه لمفاسد شرعية عظيمة، وأخطار مجهولة أليمة، ولا كذلك على مناهجهم التي يحملونها مما تخالف الشريعة، والكلام في الجماعات المخالفة راجع للمصلحة الشرعية وله وقته، فليس بين أهل السنة مع أحدٍ عداواتٌ شخصية ولا حزبية، إنما بينهم وبين الجميع الكتابُ والسنة، والنصح والدعوة.
وإن الحرب الدائرة اليوم هي حرب بين الإسلام والكفر، وإنه لَمقام يقتضي النُّصرة والتثبيت، ودحر المعتدي الغاصب المحارب، وعدم التخذيل عن نصرة إخواننا في الدين.
إنه لما قصَّر المسلمون – عباد الله – في عناية بعضهم ببعض، وفي النصرة والرعاية، والتثبيت والحماية، نجحت مؤامرات الأعداء، وطمِعوا بهم، فالتضامن والتراحم والتعاطف والتعاون بين المسلمين واجب شرعي ومطلب مرعي، على كل خير، وعلى كل حق، وبه تجتمع الكلمة، وتتحقق الألفة، ويتقوى الصف ويخاف العدو، ولا شكَّ أن تعاطف المسلم مع إخوانه وقضايا أمته موقفٌ منضبط بضوابط الشرع، منطلق من الكتاب والسنة إلى الكتاب والسنة، مقيَّد بالحكمة والرفق والعدل، بعيد عن الانقياد العاطفي الهوائي الأهوج، والتعصب المقيت المنحرف الأعوج، والحق أبلج والباطل لجلج.
إن قضية فلسطين، وتحرير المسجد الأقصى، ليست كغيرها من قضايا الأمة الإسلامية، وتطهير فلسطين والمقدسات، من أعظم الواجبات، وما عظم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عند المسلمين حتى صار ذلك القائد الذي خلَّد التاريخ ذكره، وكان له في الأمة الإسلامية مكانة كبيرة، إلا بتحريره بيت المقدس من أيدي النصارى، وكان من أجل وأشرف أعماله، وما فرح المسلمون كفرحهم باسترداد بيت المقدس والمسجد الأقصى من أعداء الأمة، فتسرُّنا كمسلمين كل خطوة في اتجاه استرداد المسجد الأقصى المبارك، وتحرير فلسطين من نجاسة العدو اليهود، ومن جانب آخر تتقطع أكبادنا مما نراه من مشاهد القتل والدمار والحصار التي يفعلها العدو في إخواننا.
وأقول: أيها الأحبة، إن الخطب الْمُلْهِبة الحماسية الرنَّانة، لا جدوى منها إلا لم تكن واقعًا عمليًّا نطبقه في واقع حياة الأمة، فلن تعدو أن تكون إلهابًا للمشاعر لا ثمرة لها، ونفخًا في الصدور لا فائدة فيها، والمسلم لا يستسلم لعاطفته دون عقله، بل يجمع بينهما، فيدرك الأمور إدراكًا بتصور راشد صحيح، ويضع الخيارات والحلول التي تتوافق مع الكتاب والسنة أولًا، ومع واقع الحال ومقدراته ومعطياته ثانيًا.
إن الاستضعاف والحصار والقتل والتشريد الذي يجري من أعدائنا اليوم ليس هو الأول من نوعه، فكم حدث من ذلك عبر الزمان من قتل وتعذيب وحصار! وفي عهد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، في بداية رسالته، جرى الاضطهاد من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، والقتل والتعذيب لأصحابه؛ ومع ذلك قال: ﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [النساء: 77].
وفي صحيح البخاري يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: ((شَكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو الله لنا؟))، هل كان صلى الله عليه وسلم لا يدعو الله قبل أن يأتوه ويطلبوا منه أن يستنصر لهم ويدعو لهم؟! بل كان يفعل ذلك، لكنه كان يدرك أن لكل شيء عند الله موعدًا، وأن لله حكمة في تأخير النصر.
فعندما وجد عند هؤلاء المستضعفين استبطاءَ النصر، قال لهم: ((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالْمِنشار فيُوضع على رأسه فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه)).
أقسم صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((والله لَيَتِمَنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
فالنصر سيأتي في موعده الذي أراده الله رب العالمين، وما علينا إلا الاستقامة والثبات وأخذ الأسباب، والتوكل والدعاء، والصبر على البلاء، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه، مرفوعًا: ((بشِّر هذه الأمة بالتيسير، والسناء والرفعة بالدين، والتمكين في البلاد، والنصر، فمن عمِل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب)).
إن الله تبارك وتعالى قادر على نصرنا بلا جهاد ولا أخذ بالأسباب؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]، ولكن جعل الله بحكمته للنصر أسبابًا، وأمر المسلمين أن يعملوا بها لينصرهم، فقد جعل الله لكل شيء سببًا: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وله في ذلك حِكَمٌ ولطائف.
عباد الله، إن في أحداث غزة الأخيرة ابتلاءً عظيمًا، انطوى على دروس للأمة ومواقفَ وعِبَرٍ، وآمال وآلام، وإن علينا جميعا ألَّا نرتجل مواقفنا في مثل هذه الأحداث والنوازل ابتداء، وألَّا ننساق وراء العواطف الجارفة، والآراء السائدة، والتحليلات المتناقضة، بل لا بد أن تنطلق مواقفنا من أدلة الشريعة، ونرجع إلى العلماء الراسخين، فالمسلم لا يأخذ مواقفه من المحليين والإعلاميين أو العاطفيين والحماسيين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].
إن التعاطف والتعاون والنصرة للمسلمين من الإيمان الواجب؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، مرفوعًا: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضه بعضًا))، وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالجسد الواحد في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كما في الصحيحين النعمان بن بشير رضي الله عنهما، فالأمة لُحمة واحدة في مواجهة المخاطر والأعداء، وإن من أعظم حقوق المسلم على المسلم الدعاء له، في الصلوات وغيرها من مواطن الدعاء، فتدعو لإخوانك أن يحفظهم ويثبتهم وينصرهم، ويجمعهم على الحق، وأن يُهلِكَ عدوهم، فإذا لم نَدْعُ لإخواننا فأي جسد مريض مقطَّع أصبحنا؟ فأقل حقهم علينا الدعاء لهم وعلى عدوهم، وإنه لَوهن عظيم أن نضَنَّ ونبخل على إخواننا حتى بالدعاء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، قلوبهم واحدة، موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين، وقلوبهم الصادقة، وأدعيتهم الصالحة، هي العسكر الذي لا يُغلَب، والجند الذي لا يُخذَل”.
فتستطيع – أيها المسلم – أن تقدِّم من مكانك وبيتك ومُصلَّاك الدعاء لإخوانك، متحرِّيًا مواطن الإجابة، ولا تظنُّنَّ أن ذلك غير نافع لهم، كلا، فكم من سوء دُفع عنهم بتلك الدعوات! وكم من مخططات أفشلت بتلك التضرعات! وكم من معاناة خففت ورُفعت بتلك الابتهالات! وفي الحديث الصحيح: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم، وإخلاصهم))؛ [أخرجه النسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].
وإن استطعت أن تنصرهم بالوسائل المشروعة، وعبر الطرق الرسمية، فافعل، كالتبرع لهم بسخاء، وحثِّ التجار على التبرع عبر القنوات الموثوقة، وتستطيع التحدث عن معاناتهم، وتوضيح قضيتهم من الجانب الشرعي، ونقل كلام العلماء، في وسائل التواصل وقنوات الإعلام، والصحف والمجلات، بمقال رصين، وقصيدة بليغة، ونقل صحيح.
ومن أعظم ما تقوم به أن توضح لأسرتك وأولادك ومجتمعك مفهومَ الولاء والنصرة والجهاد، لكل مسلم موحِّدٍ مُتَّبِعٍ مُحِبٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وأزواجه.
عباد الله، لا بد أن تترسَّخ حقيقة اليهود في أذهاننا، فهذه الأحداث تنعَش تلك الحقائقَ بعد أن غُيِّبت عنا، فاليهود هم اليهود، مجرمون متغطرسون، اجتمعت فيهم أرذل الصفات وأخَسُّ الأخلاق: الكفر، والكِبْرُ، والوحشية، والعنصرية، والجبن، والخيانة، والخداع، والظلم والوقاحة، وهم شر خلق الله تبارك وتعالى؛ ولهذا استوجبوا المسخَ قردةً وخنازيرَ؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60].
ولقد كشف الله تبارك وتعالى لنا حقيقتهم في كتابه في آيات كثيرة، وبيَّن لنا دسيستهم وطِباعهم، فاليهود أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، أقساهم قلوبًا، وهم قتلة الأنبياء، وأعداء الصالحين والأولياء، واليهود ناقضو المواثيق والعهود، وهم أسوأ المخلوقين أدبًا مع الله تبارك تعالى، ومع أنبيائهم؛ ألم يقولوا لموسى كليم الله عليه السلام بكل سفالة وقلة أدب: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].
واليهود أكثر الناس معرفة بالحق وأحرصُهم على كتمانه وإخفائه، وهم من أبخل الناس، وأجبن الناس؛ لأنهم أحرصهم على حياة، وهم سادة العالم في أكل السُّحت والرِّبا، فلا عجب بمن حاز على هذه الصفات الذميمة الخسيسة، أن يلعنهم الله لعنًا كبيرًا، ويمسخهم قردة وخنازير.
نفعني الله وإياكم بما سمعتم وأستغفر الله…
الخطبة الثانية
أما بعد:
فعلينا – معاشر المسلمين – التمسك بأصول أهل السنة والجماعة، خاصة في القضايا التي أحدثت خللًا في الأمة فأضعفتها وفرَّقتها، وبهذا تصلح أحوال هذه الأمة، وتستقيم أمورها، وتنتصر على أعداها، يهودًا ونصارى ورافضة، وأتباعهم وأنصارهم.
واعلموا أنه ليس من سبيل المؤمنين الطعنُ في حكَّام المسلمين، والذين يريدون زعزعة الأمن والاستقرار في بلاد المسلمين، وإن الواجب الدعاء لحكَّامنا المسلمين بالخير والصلاح، والالتفاف حولهم ونصحهم، فالأعداء يريدون أن تكون هناك فجوة بين الحاكم والمحكوم، وعندها لا تقوم للأمة قائمة، ولا يستقيم لها أمر؛ قال اﻹمام البربهاري رحمه الله في كتابه [شرح السنة ص: 113]: “وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوًى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سُنَّة إن شاء الله؛ لقول فضيل: لو كانت لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان، قيل له: يا أبا عليٍّ، فسٍّر لنا هذا، قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلَح، فصلَح بصلاحه العبادُ والبلاد”.
فأُمِرْنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن ظلموا، وإن جاروا؛ لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين.
وإن أهل السُّنَّة إذ قالوا ذلك، ما قالوه إلا موافقة لكتاب الله وسنة رسوله ومنهج سلفنا الصالح، فلم يقولوه تملُّقًا وجبنًا، وإنما منهجًا وتدينًا، وإن الواقع لَهْوُ خير شاهد وموافقٌ لقولهم، ثم علينا أن نفرق بين الموقف السياسي الرسمي للدول المسلمة، وموقف المسلم الشرعي، فالمسلم تنطلق مواقفه من دينه وأخلاقه وعقيدته، ونكِل المواقف الرسمية لأهلها؛ لأنهم الأقدر على التدبير والتصرف، والأعلم بالأصلح في ظل مُقدَّراتهم ومعطياتهم، وحسابنا وحسابهم على الله تبارك وتعالى.
عباد الله، ولا نغفُل عن مسؤولية عظيمة، إنها مهمة تربية الأولاد والأحفاد على حمل هذه القضية الإسلامية، وأن يعيشوا همَّ أُمَّتِهم، بآمالها وآلامها، وأن يشعروا بترابط المسلمين ووحدتهم ولُحمتهم، وأن يوضِّحوا القضية للأبناء ليحملوا الأمانة عن الآباء، ولا يعتمدوا على غيرهم في توضيح أنها قضية دين وعقيدة، ووجود وتأريخ مجيد، وليست مجرد أرض، فلا نتركهم فريسة لوسائل الإعلام المضلِّلة، والمناهج التاريخية التعلمية المزوَّرة.
احرصوا – أيها الآباء – على صلاحهم، ففرقٌ كبير بين من ينشأ لا يهتم إلا بشهواته وملذاته ورغباته، ومن ينشأ على إيمان راسخ، وعقيدة سليمة، وعبادة صحيحة، وأخلاق حسنة؛ فيعتصر قلبه ألمًا على أحوال أُمَّتِه، فهذا هو من سيقوم بدينه، ويسعى في تقوية أمته، وينهض بإصلاح مجتمعه، والدفاع عن دينه وأرضه، ليخرج لنا أمثال أجدادنا الفاتحين، وعلمائنا الصالحين، وقادتنا المجاهدين، وأخيارنا الزاهدين.
أيها المؤمنون، إنها لَمصيبة حينما نرى اليوم بعد الذي رأيناه وعايشناه من أحداث دامية، من ينادي – من أبناء جِلدتنا – بأفكار الغرب المستوردة، ومن يزعم – مغترًّا – أن بلادهم بلاد الحرية، والعدل، والإنسانية، والشفافية، ألم يدرك هؤلاء أن ذلك مجرد أوهام وأكاذيب؟!
هل يستطيع هؤلاء أن يواجهونا بهذه الشعارات بعد اليوم؟ كلا، لقد اتضح بجلاءٍ زيفُ شعاراتهم المدنية، وكذب دعواتهم التحضرية، فظهرت واضحةً أحقادهم الدفينة، وبرزت ساطعة عداوتهم القديمة، فانكشف وجه الغرب الحقيقي القبيح المظلم، فها هي تلك الدول التي تدعي السلام، ورعايتها للسلم العالمي، ومحاربتها الإرهاب والتطرف والإجرام، تلك الدول التي تنادي بحقوق الإنسان والحيوان، يَرَون اليهود الغاصبين وهم يقصفون ويعتدون، ويقتلون الشيوخ والأطفال والمرضى والنساء، ويشرِّدون ويشتِّتون مدنًا بأكملها، ويدمِّرون دورَ العبادة، ويستهدفون طواقم الإسعاف، ولا تسألهم تلك الدول عن جريمة ارتكبوها، ولا يوجِّهون إليهم حتى مجرد لوم وشجب وعتاب، على ما أحدثوه من قتل وتدمير وخراب، بل رأينا تلك الدول تتوافد لتأييدهم، وتتسابق لدعمهم وتسليحهم وتأمينهم، ورأيناهم وهم يحجبون الأصوات عن شعوبهم، ويحرِّفون الحقائق بكل وقاحة وسفاقة، ورأيناهم وهم يكيلون بمكيالين، فيدعمون أوكرانيا ضد ما يسمونه الاحتلال الروسي، بينما يدعمون الاحتلال الصهيوني اليهودي ضد الفلسطينيين، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء.
انظروا – عباد الله – إلى دول العالم اليوم؛ اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين، وتأملوا فيهم، أليسوا هم أنفسهم من يصنع الحروب المدمرة، والأوبئة المهلكة، وينشرون الانحلال والإلحاد والفساد؟ من الذي يدعم الصراعات في العالم ويغذِّيها؟! ومن هم دعاة المثلية اللوطية اليوم وحماتها؟! أليسوا هم أنفسهم؟!
فلماذا هذا العداء والاتهام بالإرهاب لا يوجه إلا لمنبع السلام والتوحيد والرحمة، والطهارة والوفاء والفطرة؟ ألَا لعنة الله على الكاذبين الظالمين.
فلا يغتر بهم إلا من أعمى الله بصره وبصيرته، إنهم وإن اختلفوا وتصارعوا فيما بينهم وتطاحنوا، إلا أنهم يد واحدة ورأي واحد، إذا تعلق الأمر بالمسلمين، وأما المسلمون اليوم، فقد تفرقوا واختلفوا، وكلٌّ له رأي، رغم أن ربنا حذرنا من ذلك، فلا نستغرب – والحال كذلك – من حالنا، وضعفنا، وتمكُّن هؤلاء الأراذل منا، فهلَّا راجعنا عباد الله، فنتوب إلى الله جميعًا.
إنه لا عزَّ لنا ولا رفعة ولا نصر ولا تمكين، إلا بالاستقامة على الإسلام والإيمان، ظاهرًا وباطنًا، وترك الحزبيات، والاجتماع على الحق؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].
وقال جل وعلا: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].
أيها الصادقون، علينا أن ندرك أن فلسطين الحبيبة، والأقصى المبارك لن يعودا تحت رايات حماسية عاطفية، ولا قومية ولا عربية، ولا رافضية، بل ستعود تحت راية إسلامية صافية، وإيمانية عالية، متلاحمة متآلفة، وبهذا نجزم، وعليه عقيدتنا، المتلقَّاة من الكتاب والسنة؛ في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلمُ، يا عبدَالله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَدَ؛ فإنه من شجر اليهود)).
إن النصر بلا شكٍّ قادمٌ ولو طال أمد اليهود، إذ العاقبة للمتقين؛ فقد رأينا زمرة من المجاهدين الفلسطينيين، استطاعوا أن يذيقوا اليهود مرارة الانهزام، على الرغم من قلة العتاد، وضعف المساندة والإمداد، ووجود المخالفة فيهم وفي الأمة، فكيف لو أن المسلمين كانوا جميعًا على قلب رجل واحد؟ كيف لو اجتمع المسلمون على الحق، وأعَدُّوا العُدَّة؟ إنها آمال نُعِشَتْ، ستتحقق عما قريب إن شاء الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لَيُمْلِي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ [متفق عليه].
اللهم احفظ إخواننا في فلسطين من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونُعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم.
اللهم احفظهم بحفظك، واجعلهم في كنفك، وحُطْهم بعنايتك، واشملهم برعايتك، واحرسهم بعينك التي لا تنام.
اللهم نصرَك المبين لإخواننا في فلسطين، اللهم نجِّهم وأعِنْهم، وعليك بالصهاينة المحتلين، اللهم طهِّر الأقصى من الغاصبين الظالمين.
اللهم أنزل بأسك وغضبك على الصهاينة الأنجاس، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، اللهم احقِنْ دماء المسلمين، واستر عوراتهم، وسُدَّ جوعهم.
اللهم إن إخواننا المستضعفين في غزة لاحول لهم ولا قوة إلا بك يا عظيم، اللهم فانتصر لهم واحقن دماءهم، اللهم عليك بمن طغى واعتدى من يهود ومن عاونهم، اللهم أنْزِلْ عليهم بأسك وعذابك ورِجْزَك يا رب العالمين.