أقسام البيان عند الشافعي في الرسالة
فائدة: أقسام البيان عند الشافعي في الرسالة
الحمد لله، تُعَدُّ مسألة البيان من أهمِّ القضايا التي تناولها الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة”، حيث يُوضِّح من خلالها كيفية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، مع تمييز أنواع البيان المختلفة التي تتفاوت في وضوح الدلالة ودرجات التفصيل.
يَعرض الإمام الشافعي هذه الأقسام بأسلوبٍ منهجيٍّ ودقيق، مُبيِّنًا أصول الشريعة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومُبيِّنًا كيفية انبثاق الفروع منها من خلال الفهم الصحيح للنصوص، سواء كان هذا البيان نصًّا واضحًا، أو من خلال سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالاجتهاد والقياس. قال الشافعي رحمه الله في الرسالة:
53 – والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول متشعِّبةِ الفروع.
55 – فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تَعَبَّدَهم به لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه:
قلت: البيان الأول (56)، وهو ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.
56 – فمنها ما أبانه لخلقه نصًّا مثلُ جُمَلِ فرائضه في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجًّا وصومًا وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصِّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء مع غير ذلك مما بيَّن نصًّا.
قلت: البيان الثاني والثالث (57). البيان الثاني: ما أتى النص فيه على غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله كيف فرْضُهُ وعلى مَنْ فرْضُهُ، ومتى يزول بعضه ويثبت ويجب، مثاله أن تأتي الآية وتحتمل احتمالين فتأتي السنة مرجحة أحدَهما. البيان الثالث: أن يأتي الكتاب بالفرض مجملًا ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، ثم بيَّن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام المتعلقة بهذا الفرض.
57 – ومنه ما أَحكم فرضه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
قلت: البيان الرابع (58)، وهو ما بيَّنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نص كتاب.
58 – ومنه ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.
قلت: البيان الخامس (59)، ومعنى هذا البيان معنى القياس، والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، وموافقته تكون من وجهين: أحدهما أن يكون الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم حرم الشيء منصوصًا أو أحلَّه لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتاب ولا سنة أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام، أو نجد الشيء منه والشيء من غيره، ولا نجد شيئًا أقربَ به شَبَهًا من أحدهما فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهًا به.
59 – ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.
قال الزركشي في “البحر المحيط في أصول الفقه – ط الكتبي” (5/92):
فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ “الرِّسَالَةِ”، وَرَتَّبَهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، بَعْضُهَا أَوْضَحُ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ.
فَأَوَّلُهَا: بَيَانُ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ النَّصُّ الْجَلِيُّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ؛ كَقَوْلِهِ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ، فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ، مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ.
ثَانِيهَا: النَّصُّ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِدَرْكِهِ الْعُلَمَاءُ ” كَالْوَاوِ، وَإِلَى” فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَقْتَضِيَانِ مَعَانِيَ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ.
ثَالِثُهَا: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ فِي الْقُرْآنِ، كَالنَّصِّ عَلَى مَا يَخْرُجُ زَمَنَ الْحَصَادِ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141] وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هَذَا الْحَقِّ.
وَرَابِعُهَا: نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، وَلَا بِالتَّفْسِيرِ وَدَلِيلُ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
خَامِسُهَا: بَيَانُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي، وَقِيسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا اسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ مَعْنًى، وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ، لَا يُقَالُ: لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، بَلْ يَتَنَاوَلهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَشَارَ إلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ؛ كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ فِي بَابِ الرِّبَا بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَالِاجْتِهَادِ، فَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْبَيَانِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ انتهى من كلامه رحمه الله.
بهذا التفصيل العميق، يُظهر الإمام الشافعي كيف أن الشريعة الإسلامية شاملة ومرنة، قادرة على تلبية حاجات المجتمع من خلال قواعد وأصول قوية تُنظم الفروع، وتشكل مَرجعًا لكل مستجدات الحياة. يُؤكد الشافعي أن الاستناد إلى الكتاب والسنة والاجتهاد المدروس يحقق العدل والرشاد في كل أمور الدين والدنيا، ويجعل العلم الشرعي علمًا متكاملًا يَجمع بين النص والاجتهاد، ليبقى الكتاب والسنة مرجعَين أساسيين في فهم أحكام الدين، وحَثّ الناس على الاجتهاد في طلب الحق.