أكل ولدك نحلته مثل هذا؟
حديث: أَكُلَّ ولدِك نحلتَه مثل هذا؟
عن النعمان بن بَشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَكُلَّ ولدِك نحلتَه مثل هذا؟))، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأرجِعْه)).
وفي لفظ: “فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليُشهِده على صدقتي، فقال: ((أفعلتَ هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))، فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة”؛ متفق عليه.
وفي رواية لمسلم قال: ((فأشْهِد على هذا غيري))، ثم قال: ((أَيَسرُّك أن يكونوا لك في البِرِّ سواءً؟)) قال: بلى، قال: فلا إذًا.
المفردات:
الهبة: هي – لغةً – العطية، وشرعًا: هي تمليكٌ بلا عِوَض.
قال في الفتح: تطلق بالمعنى الأعمِّ على أنواع الإبراء، وهو هبة الدَّين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحَّض به طلب ثواب الآخرة، والهديَّة وهي ما يكرم به الموهوب له، ومَن خصَّها بالحياة أخرج الوصية، وهي تكون أيضًا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخصِّ على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول مَن عرَّف الهبة بأنها تمليكٌ بلا عِوَض؛ اهـ.
وقد سبق قلم الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار عندما نقل كلام الحافظ هذا، فقال: والهدية وهي ما يلزم له الموهوب له عِوض؛ اهـ.
ولا شك أن هذا خطأ في نقل عبارة الحافظ رحمهما الله.
والعُمْرَى: هي بضم العين وسكون الميم، وحكي فيها ضم الميم أيضًا، كما حكي فيها فتح العين وسكون الميم، مأخوذة من العمر.
قال البخاري في صحيحه: أعمرته الدار فهي عُمْرَى: جعلتها له، استعمركم فيها: جعلكم عمارًا؛ اهـ.
والعُمْرَى في الاصطلاح: هي أن يُعطي الإنسان غيرَه دارًا، ويقول له: أعمرتك إيَّاها؛ أي: أبحتُها لك مدة عمرك، فقيل لها عُمْرَى لذلك.
والرُّقْبَى: وهي مأخوذة من المراقبة، وهي الانتظار، قال في القاموس: والرُّقْبَى كبُشْرَى أن يعطى إنسانًا ملكًا، فأيهما مات رجع الملك لورثته، أو أن يجعله لفلان يسكنه، فإن مات ففلان، وقد أرقبه الرقبى، وأرقبه الدار: جعلها له رقبى؛ اهـ.
وقد أشار الحافظ في الفتح إلى أن العمرى والرقبى قد يطلقان على معنًى واحدٍ في لغة العرب.
وقد روى النسائي بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفًا: العمرى والرقبى سواء، ولا شك أن أصل العمرى مختلف عن الرقبى، وقد كانوا في الجاهلية يتعاملون بالرُّقْبى والعُمْرى، وكانت الرقبى أن يقول أحدُهما لصاحبه: إن مت قبلي فدارك لي، وإن مت قبلك فداري لك، فكان كل واحد منها يرقُب موت صاحبه.
النعمان بن بشير: هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي، أبو عبدالله المدني، له ولأبويه صحبةٌ، وأمه عَمْرة بنت رواحة أخت عبدالله بن رواحة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولد في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد الهجرة، كما أن ابن الزبير هو أول مولود ولد في المهاجرين بعد الهجرة، وقد وَلِي الكوفةَ لمعاوية رضي الله عنه، ثم نقله معاوية رضي الله عنه إلى ولاية حِمص، ولَمَّا مات يزيد بن معاوية بايع النعمان رضي الله عنه لابن الزبير، فلما تمرَّد عليه أهلُ حمص فارقهم، فلحقه خالد بن خلى الكلاعي وقتله رضي الله عنه، وهو ابن ثلاث وستين، وذلك سنة خمس وستين هجرية.
أباه: هو بشير بن سعد رضي الله عنه.
أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نحلتُ؛ أي: أعطيت؛ من النِّحلة بكسر النون، وهي العطيَّة بغير عِوَض.
ابني هذا: يعني النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
غلامًا؛ أي: عبدًا رقيقًا.
أكلَّ ولدِك نحَلْتَه مثل هذا؛ أي: أعطيت سائر أولادك مثل ما أعطيت ولدك النعمان.
فقال: لا؛ أي: لم أعطِ سائر أولادي مثل ما أعطيت ولدي النعمان.
فأرجِعْه؛ أي: فاردُدِ الغلام إلى ملكك، أو لا تُمضِ الهبة المذكورة.
فانطلق أبي؛ أي: فذهب أبي.
ليُشهِده على صدقتي؛ أي: ليثبت لي عطيتي بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها.
أفعلتَ هذا بولدك كلهم؟ أي: أأعطيتَ مثل ما أعطيت النعمان لجميع أولادك؟
واعدِلوا بين أولادكم؛ أي: ساوُوا بينهم في الهبات والهدايا والعطايا.
فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة؛ أي: فاستعاد أبي ملكيةَ الغلام، أو لم يُمضِ الهبة المذكورة بمجرد انصرافه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماع نصيحته ووصيته صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لمسلم؛ أي: من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
فأشهِد على هذا غيري؛ أي: أنا لا أشهَد على هذا؛ لِما فيه من الجَور وعدم العدل بين الأولاد؛ فالأمر ليس للإذنِ بشهادة غيره، بل هو نوعٌ من التأنيب والتأديب.
((أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواءً؟))؛ أي: أتحب وتفرح بأن يكونوا بارِّينَ بك من غير تفاوت في حسن معاملتهم لك وترك عقوقك؟
قال: بلى؛ أي: أنا أحب أن يكون بِرُّهم بي على حد سواء.
قال: فلا إذًا؛ أي: فلا تفاوت بينهم في العطية، أو لا تعطِ أحدًا منهم دون الآخرين.
البحث:
حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أورده البخاري بعدةِ ألفاظ؛ فقد أخرجه في باب الهِبة للولد، من كتاب الهبة، من طريق حميد بن عبدالرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا، فقال: ((أكلَّ ولدِك نحلْتَ مثله؟))، قال: لا، قال: فأرجِعه.
وأروده في باب: الإشهاد في الهبة من طريق عامرٍ، قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما – وهو على المنبر – يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيًّةً فأمرتني أن أُشهِدَك يا رسول الله، قال: ((أعطيتَ سائر ولدِك مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، قال: فرجع فرد عطيته.
وأورده في كتاب الشهادات في باب: “لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهِد”، من طريق الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سألت أمي أبي بعضَ الموهبةِ لي من ماله، ثم بدا له فوهَبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تُشهِد النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأنا غلام، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمَّه بنتَ رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا؟ فقال: ((ألك ولدٌ سواه؟))، قال: نعم، قال: فأراه قال: ((لا تُشهِدني على جور))، وقال أبو حريز عن الشعبي: ((لا أشهد على جور)).
أما مسلم، فقد أورده كذلك من طريق حميد بن عبدالرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير، يحدِّثانه عن النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكلَّ ولدِك نحلْتَه مثل هذا؟))، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأرجعه)).
وفي لفظ من طريقهما عن النعمان بن بشير قال: أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا فقال: ((أَكُلَّ بَنِيك نحلتَ؟))، قال: لا، قال: فاردُدْه.
ثم قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن ابن عيينة، ح/ وحدثنا قتيبة وابن رمح، عن الليث بن سعد، ح/ وحدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، ح/ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبدُ بن حُمَيد قالا: أخبرنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، كلهم عن الزهري بهذا الإسناد، أما يونس ومعمر، ففي حديثهما: ((أَكُلَّ بَنِيك))، وفي حديث الليث وابن عُيَينة: ((أَكُلَّ ولدِك))، ورواية الليث عن محمد بن النعمان وحميد بن عبدالرحمن، أن بشيرًا جاء بالنعمان، حدثنا قتيبة ابن سعيد حدثنا جرير عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: حدثنا النعمان بن بشير قال: وقد أعطاه أبوه غلامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا الغلام؟))، قلت: أعطانيه أبي، قال: ((فكلَّ إخوته أعطيتَه كما أعطيت هذا؟))، قال: لا، قال: ((فردَّه)).
ثم ساقه من طريق الشعبي عن النعمان بن بشير قال: تصدَّق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليُشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعلتَ هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم))؛ فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة.
ثم ساقه من طريق الشعبي أيضًا قال: حدثني النعمان بن بشير أن أمَّه بنت رواحة سألت أباه بعضَ الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة، ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي – وأنا يومئذٍ غلام – فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمَّ هذا بنتَ رواحة أعجبها أن أُشهِدك على الذي وهبتُ لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بَشيرُ، ألك ولدٌ سوى هذا؟))، قال: نعم، فقال: ((أكلَّهم وهبتَ له مثل هذا؟))، قال: لا، قال: ((فلا تُشهِدني إذًا، فإني لا أَشهد على جور)).
وفي لفظ من طريق الشعبي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألك بنونَ سواه؟))، قال: نعم، قال: ((فكلَّهم أعطيت مثل هذا؟))، قال: لا، قال: ((فلا أشهد على جور)).
وفي لفظ من طريق الشعبي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: ((لا تُشهِدني على جور)).
وفي لفظٍ من طريق الشعبي عن النعمان بن بشير قال: انطلق أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أشهَد أني قد نحلتُ النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: ((أكلَّ بَنِيك قد نحلتَ مثل ما نحلت النعمان؟))، قال: لا، قال: ((فأَشهِدْ على هذا غيري))، ثم قال: ((أيسرُّك أن يكونوا إليك في البر سواءً؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذًا)).
وفي لفظ من طريق ابن عون عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: نحلني أبي نِحلًا، ثم أتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُشهده، فقال: ((أكلَّ ولدِك أعطيتَه هذا؟))، قال: لا، قال: ((أليس تريدُ منهم البِرَّ مثل ما تريد مِن ذا؟))، قال: بلى، قال: ((فإني لا أشهَدُ))، قال ابن عون: فحدثت به محمدًا، فقال: إنما تحدثنا أنه قال: ((قاربوا بين أولادكم)).
ثم أورده مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال: قالتِ امرأة بشير: انحَلِ ابنِي غلامَك، وأشهِد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحَلَ ابنها غلامي، وقالت: أشهِد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أَلَهُ إخوةٌ؟))، قال: نعم، قال: ((أفكلَّهم أعطيتَ مثل ما أعطيتَه؟))، قال: لا، قال: ((فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق))؛ اهـ.
وليس بين هذه الألفاظ الكثيرة التي أوردناها عن الشيخين تعارضٌ ولله الحمد والمنة، وكلها تُؤكِّد حقَّ الأولاد في عدل الآباء، ولا شك أن هذا من قواعد الإسلام في تربية الأسر الإسلامية، وغرس المحبة والرحمة والعدالة في نفوس أفرادها، ونزع جميع أسباب الشر وعوامل الفُرقة فيها؛ ليتكون منها المجتمع الصالح المثالي المتعاطف المتكاثف المتراحم.
ويظهر أن عمرة رضي الله عنها لَمَّا طلبَت من بشير رضي الله عنه أن يهَبَ لولدها النعمان رفض إجابتها أولًا وماطلها، ثم طابت نفسُه أن يهَبَ له، وخشِيَتْ من رجوعه، فأرادت تثبيتَ العطية بأن يَشهَد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حفِظ بعض الرواة ما لم يحفظِ البعض الآخر، أو كان النعمان رضي الله عنه يقصُّ بعضَ القصة تارة، ويقص بعضها تارة أخرى، فسمع بعض الرواة ما لم يسمع البعض الآخر، وحدَّث كل واحد منهم بما رواه واقتصر عليه أو رواه بالمعنى، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح، والله أعلم.
ما يفيده الحديث:
1- أنه ينبغي للآباء أن يعدلوا بين أولادهم في العطايا والهبات.
2- أن ينبغي للآباء ألا يعملوا مع بعض أبنائهم عملًا يُنفِّر منهم باقي الأبناء.
3- جواز استرداد الهبة إن وقعت على جور ولو كانت للأقارب.