الأمور التي تعين على الصبر عند نزول المصيبة


الأمور التي تعين على الصبر عند نزول المصيبة[1]

 

1- أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

2- أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال.

3- ومما يعين على الصبر: الاستعانة بالله:

ومما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى، ويلجأ إلى حماه، فيشعر بمعيته سبحانه، وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يضام، وفي هذا يقول تعالى في خطاب المؤمنين:

﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46].

 

وفي خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48]، ومن كان بمعية الله مصحوبًا، وكان بعين الله ملحوظًا، فهو أهل لأن يتحمل المتاعب ويصبر على المكاره.

 

وانظر عندما هدد فرعون موسى – عليه السلام – وقومه، أن يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، مستخدمًا سيف القهر والجبروت، قال موسى لقومه: ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف: 128]، ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه، هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 42]، وقوله على ألسنة الرسل: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12].

 

4- ومما يعين على الصبر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا:

فأقرب ما يعين الإنسان على الصبر، وخاصة على النوائب والشدائد – أن يصبح تصوره للحياة التي يعيش فيها، ويعرفها على حقيقتها، فليست جنة نعيم، ولا دار خلود، إنما هي ابتلاء وتكليف، خلق الإنسان فيها ليصقل ويبتلى ليعد لحياة الخلود في الدار الباقية، ومن عرف الحياة على هذا النحو لم يفاجأ بكوارثها، فالشيء من معدنه لا يستغرب.

 

أما من كان من الناس يتصور الحياة طريقًا مفروشًا بالأزهار والرياحين، فإنه إذا نزل به شيء مهما قل وضؤل، كان أشد ما يكون على نفسه؛ لأنه لم يكن يتوقع شيئًا منه.

 

والقرآن الكريم يشير إلى أن حياة الإنسان محفوفة بالمتاعب والمشقة، حين يقول: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4].

كما يشير إلى طبيعة الحياة ودوام تغيرها، وأنها لا تلبث على حال، فيوم لك ويوم عليك: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140).

لقد خلق الله الحياة الدنيا على طبيعة اختلطت فيها اللذائذ بالآلام، والمحاب بالمكاره، فهيهات أن ترى فيها لذة لا يشوبها ألم، أو صحة لا يكدرها سقم، أو سرورًا لا ينغصه حزن، أو راحة لا يخالطها تعب، أو اجتماعًا لا يعقبه افتراق، أو أمانًا لا يلحقه خوف، إن هذا ينافي طبيعة الحياة، ودور الإنسان فيها، وهذا ما أدركه الحكماء والأدباء والشعراء من قديم، فنطقت به ألسنتهم وأقلامهم شعرًا ونثرًا، قيل لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: صف لنا الدنيا، فقال: ماذا أصف لك من دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء؟

 

وما أجمل ما قال في ذلك الشاعر العربي يصف الدنيا:

جبلت على كدر وأنت تريدها
صفوًا من الآلام والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار

(الصبر في القرآن ص 81، 82).

وقد مر بنا كلام ابن القيم في” زاد المعاد” في بيان علاج حر المصيبة وحزنها، فقال: ومن علاجه: أن يطفئَ نار مصيبته بِبَرْدِ التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كلِّ وادٍ بنو سعد، ولينظر يمنةً فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطِفْ يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وإنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلًى: إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظلٍّ زائل، إن أضحكت قليلًا، أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا أساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرَّته بيومِ سُرُورٍ، إلا خبأت له يوم شُرُورٍ؛ (زاد المعاد: 4/ 190).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “لكل فرحة ترحة، وما مُلئ بيت فرحًا، إلا مُلئ ترحًا”.

5- ومما يعين على الصبر: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعندها يستصغر الإنسان أي مصيبة يصاب بها، ففي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا أَيُّها الناسُ، أَيُّما أحدٍ من الناس أو من المؤمنينَ أُصِيبَ بمصيبةٍ فلْيَتَعَزَّ بمصيبتِه بي، عن المصيبةِ التي تُصِيبُه بغيري، فإنَّ أحدًا من أُمَّتي، لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أَشَدَّ عليه من مصيبتي”؛ (الصحيحه:1106).

 

وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد فأرسل إليه وقال:

اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم أن المرء غير مخلد
وإذا ذكرت محمدًا ومصابه
فاذكر مصابك بالنبي محمد

 

6 ومما يعين على الصبر: الوقوف على هذه الحقيقة وهي: أننا جميعًا ملك لله تعالى، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان من عدم، ومنحه الحياة والحس والحركة، ووهب له السمع والبصر والفؤاد، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه، إذا كان لديه صحة وقوة فهي من الله، وإن كان له مال فهو من الله، وإن كان عنده ولد فهو من الله، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53].

 

فإذا نزل بالمرء نازلة سلبت شيئًا مما عنده، فإنما استرد صاحب الملك بعض ما وهب، ولا ينبغي للمودع أو المستعير أن يسخط على المالك إذا استرد يومًا من الدهر وديعته أو عاريته، وقديمًا قال لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع
ولا بد يومًا أن ترد الودائع

ومن ثم علم القرآن الصابرين الذين كتب لهم البشرى والصلوات والهداية والرحمة أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 156].

يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في” زاد المعاد: 3/ 265″: وهذه الكلمة من أبلغ علاج للمصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته: فإنها متضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:

أحدهما: أن العبد وأهله وماله مِلْكٌ لله – عز وجل – وقد جُعِلَ عند العبد عارية، فإذا أخده منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضًا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يُبقي عليه وجوده، فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.

 

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بدايته ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء؛ اهـ.

 

وأيَّد ذلك الحديث النبوي الذي يعلم المصاب أن يقول أيضًا: ” إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى”.

وفي الصحيحين وغيرهما في قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة، حين مات ابن لهما، وأبو طلحة خارج، فقامت الأم إلى الصبي فغسلته وكفنته وحنطته (طيبته بالحنوط) وسجت عليه ثوبًا، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ فقالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، (تعني بالموت)، وظن هو أنه استراح بالنوم لمجيء العافية، ثم تعرضت له فأصاب منها، فلما أراد أن يخرج قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، إن العارية مؤداة إلى أهلها، فقالت: إن الله أعارنا فلانًا (وسمت ابنها)، ثم أخذه منا، فاسترجع، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما”، فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما – أي من ابنهما عبد الله – تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن.

فلا ريب أن الإيمان بهذه الحقيقة يعين على الصبر، ويهون على المصاب ألم المصيبة.

 

ما دام صاحب الوديعة أو العارية قد استرجعها، إنه صاحب الفضل حين يمنح، وصاحب الحق حين يسترد ما منح، وخصوصًا أنه في هذه وتلك لا يصدر إلا عن حكمه؛ اهـ (الصبر في القرآن ص 83-85).

 

7- ومما يعين على الصبر: اليقين بحسن جزاء المصيبة وثوابها في الآخرة:

وهذا من أعظم العلاج الذي يبرد حرارة المصيبة، ويعين على الصبر.

 

والقرآن يشير إلى أن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله تعالى، وذلك حين يرجعون إليه، ويقفون بين يديه، فيعوضهم عن صبرهم أكرم العوض، ويمنحهم أعظم الأجر، وأجزل المثوبة، حتى ورد: “إن أهل العافية يتمنون يوم القيامة لو أن أجسامهم كانت تُقرض بالمقاريض في الدنيا، لما يرون من عظم ثواب الله لأهل البلاء”.

ولا نجد في القرآن الكريم شيئًا ضخُم جزاؤه وعظُم أجره مثل الصبر، فهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتفخيم، فيقول: ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:59،58].

وهو يبيِّن أن الصابرين إنما يجزون أجرهم بأحسن ما عملوا فضلًا من الله ونعمة، حيث يقول تعالى:

﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:96].

وأخيرًا يصرح بأن أجر الصابرين غير معدود بعد، ولا محدود بحد، ولا محسوب بمقدار، وذلك في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10].

قال بعض المفسرين: يغرف لهم غرفًا، ويصب عليهم صبًّا، هذا مع قوله تعالى في جزاء المخلصين من عباده ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 41].

وإذا كان هذا هو جزاء الصابرين عند الله، فالواجب على المؤمن إذا أصابته مصيبة أن يتذكر هذه الحقيقة الكبيرة أن مصيره إلى الله مهما تطل هذه الحياة، وأن أجره عنده لن يضيع، وهذا ما وصف به القرآن الصابرين حين قال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 155-156].

فإذا قالوا: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ تذكروا بها حقيقة أنفسهم، وأنهم ملك لله، وإذا قالوا: ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَتذكروا حسن الجزاء عند ربهم، فدفعهم ذلك إلى حسن الصبر والسلوان.

 

وقد جاء عن عمر رضي الله عنه قوله: “ما أُصبت ببلاء إلا كان لله على فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأني لم أحرم الرضا به، وأني أرجو ثواب الله عليه”.

فكان رجاء ثواب الله على البلاء – في نظر عمر – أحد الأسباب المُلطِّفة له، وإلى حد نقله من دائرة المصائب التي يصبر عليها إلى دائرة النعم التي يشكر عليها.

 

وحدثوا أن امرأة فتح الموصلي – وكانت من الصالحات – عثرت فانقطع ظفرها، وفي هذا من الألم ما فيه، ولكنها حمدت الله وضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

 

إن يقين الإنسان بحسن الجزاء، وعِظم الأجر عند الله، على البلية يخفف مرارتها على النفس، ويهون من شدة وقعها على القلب، وكلما قوى اليقين، ضعف الإحساس بألم المصيبة، حتى تنتقل لدى النفس من المكاره إلى المحاب، كما رأينا فيما جاء عن عمر.

 

ومن دلائل ذلك ما جاء في الحديث من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: “الَّلهمَّ اقْسِم لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تحُولُ بِه بَيْنَنَا وبَينَ مَعْصِيتِك، ومن طَاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِه جَنَّتَكَ، ومِنَ اْليَقيٍن ما تُهِوِّنُ بِه عَلَيْنا مَصَائِبَ الدُّنيَا”؛ (رواه الترمذي والنسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).

وقال أبو طالب المكي – رحمه الله – كما في كتابه “قوت القلوب”: “وأصل قلة الصبر ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له؛ لأنه لو قوى يقينه، كان الآجل من الوعد عاجلًا، إذا كان الواعد صادقًا، فيحسن صبره، لقوة الثقة بالعطاء، ولا يصبر العبد إلا بأحد معنيين: مشاهدة العوض، وهذا مقام أصحاب اليمين، والنظر إلى المعوض، وهو مقام المقربين”؛ اهـ (الصبر في القرآن ص 85-87).

يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه” مدارج السالكين: 2/ 166″: وعلى حسب ملاحظة حسن الجزاء والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض، وهذا يخفف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات؛ اهـ بتصرف.

 

ولعل سائلًا ممن لا يعرف الحكمة من الابتلاء يسأل ويقول: لِمَ أهل الكفر والشرك والعصيان في عافية، ومعهم الجاه والسلطان والمال، وأهل الإيمان دائمًا في ابتلاء، وقد سلط عليهم الأعداء، وحظهم من حظوظ الدنيا قليل، فهم في ضيق من العيش؟ وقد أجاب ابن الجوزي – رحمه الله – على هذا التساؤل فذكر في كتابه صيد الخاطر ص101 “فصل بعنوان “الصبر” قال فيه: “ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضا به، فأما الصبر فهو فرض، وأما الرضا فهو فضل”.

 

وإنما الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر.

 

فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورًا بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه، ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبَّة عليه، ثم ترى خلقًا من أهل الدين وطلاب العلم مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم، فحينئذ يجد الشيطان طريقًا للوسواس، ويبتدئ بالقدح في حكمة القدر، فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من ضرٍّ في الدنيا، وعلى جدال إبليس في ذلك، وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين، ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل، أما النقل فالقرآن والسنة.

 

أما القرآن، فمنقسم إلى قسمين: أحدهما: بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: 33]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا[الإسراء: 16]، وفي القرآن من هذا كثير.

 

والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى؛ كقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: 142]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا[البقرة: 214]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ[التوبة: 16]، وفي القرآن من هذا كثير.

 

وأما السنة، فمنقسمة إلى قول وحال: أما الحال، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه وقال:كسرى وقيصر في الحرير والديباج! فقال صلى الله عليه وسلم: “أفي شك أنت يا عمر؟! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟”؛ (رواه البخاري ومسلم).

وأما القول، فكقوله – عليه الصلاة والسلام -: “لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء”؛ (رواه الترمذي بسند ضعيف، وصححه الألباني في الصحيحة:943).

وأما العقل فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها: أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر، فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللًا، ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى؛ لأن ذلك البسط يوجب عقابًا طويلًا، وهذا القبض يؤثر انبساطًا في الأجر جزيلًا، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب، والمراحل تطوى، والركبان في السير الحثيث، ومنها: أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ، تنظف، ولبس أجود ثيابه، فمن ترفه وقت العمل، ندم وقت تفريق الأجرة، وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوي أزر الصبر، وأزيدها بسطًا فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين؟! أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة[2]؟! وبعلي إلا مثل ابن ملجم[3]؟! أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا – عليهما السلام – إلا جبار كافر؟!

 

ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا، لرأت المسبب لا الأسباب، والمقتدر لا الأقدار، فصبرت على بلائه إيثارًا لما يريد، ومن ها هنا ينشأ الرضا، كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية! فقال: أحبه إليَّ أحبه إلى الله عز وجل!

إن كان رضاكم في سهري
فسلام الله على وسني[4]

ثم ذكر ابن الجوزي – رحمه الله – فصلًا بعنوان “الرضا”، فقال: لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم، هتف بي هاتف من باطني: دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت، وَصِفْ حال الرضا، فإني أجد نسيمًا من ذكره فيه روح للروح!

 

فقلت: أيها الهاتف! اسمع الجواب! وافهم الصواب! إن الرضا من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته، رضيت بقضائه وقد يجري في ضمن القضاء مرارات، يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف، فتقل عنده المرارة لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوة؛ كما قال القائل:

عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب

 

وقال بعض المحبين في هذا المعنى:

ويقبح من سواك الفعل عندي
فتفعله فيحسن منك ذاك

فصاح بي الهاتف: حدثني، بماذا أرضى؟! قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته؟! فبيِّن لي ما الذي يدخل تحت الرضا مما لا يدخل!

 

فقلت له: نعم ما سألت، فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد: ارضَ بما كان منه، فأما الكسل والتخلف، فذاك منسوب إليك، فلا ترضَ به من فعلك، وكن مستوفيًا حقه عليك، مناقشًا نفسك فيما يقربك منه، غير راضٍ منها بالتواني في المجاهدة.

 

فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها، فكن راضيًا بها، كما قالت رابعة رحمة الله عليها، وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟ فقالت: إن الراضي لا يتخير، ومن ذاق طعم المعرفة، وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضا عنده ضرورة، فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة، فقد قال سبحانه وتعالى: “لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به[5]“، فذلك الغنى الأكبر… ووافقراه…! اهـ.

 

وأخيرًا: فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، ومن ثمرات الصبر: الرضا:

فلا بد أن يعلم المبتلى أن حظه من المصيبة ما يحدث له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له رضًا وفرحًا بقضائه كنت في ديوان الراضين.

 

أخرج ابن ماجه والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”.

 

وأخرج ابن ماجه أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ روحَ القدُسِ نفثَ في رَوعي أنَّهُ لَن تموتَ نفسٌ حتَّى تستَكمِلَ رزقَها فاتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”؛ (صحيح الجامع:2081).

 

وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].

 

قال أبو معاوية الأسود – رحمه الله – في تفسير الحياة الطيبة هي: “الرضا والقناعة”.

 

وقال الحسن – رحمه الله –: “من رضي بما قسم له، وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه”.

 

فمن أنفع الأدوية للمبتلى أن يوافق ربه وإلهه فيما قضاه ويرضى به.

 

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى العبد به”.

 

فلا لِلَطْمِ الخدود ولا لشق الجيوب، ولا الدعاء بالويل والثبور والتسخط على المقدور، والجزع على المفقود، فإن هذا لا يرد ما فات.

 

قال بعض السلف وقد عزى مُصابًا: “إن صبرت فهي مصيبة واحدة، وإن لم تصبر فهما مصيبتان”؛ أي: مصيبة على فقد الأحباب، والمصيبة الثانية ضياع الأجر.

 

ومن أمثال العرب: فقد الصبر أدهى المصيبتين”؛ (جنة الرضا:3/ 14).

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله”.

فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.

 

يقول المنبجي – رحمه الله – كما في تسلية أهل المصائب ص45: وليحذر العبد كل الحذر أن يتكلم في حال مُصيبته وبكائه بشيء يُحبط به أجره، ويسخط به ربه، مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عدل لا يجور، وعالم لا يضل ولا يجهل، وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئًا إلا لحكمة، فإنه سبحانه له ما أعطى وله ما أخذ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء له الخلق والأمر، بل إنما يتكلم العبد بكلام يُرضي به ربه، ويكثر به أجره، ويرفع به قدره.

 

وفي سلوة الحزين يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: “يا أبتِ، إن في الله عوضًا عن فقدك، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة.. ثم قالت: ربي لك الحمد، اللهم نزِّل عبدك مفتقرًا من الزاد، مخشوشن المهاد، غنيًّا عما في أيدي العباد، فقيرًا إلى ما في يدك يا جوَّاد، وأنت يا ربي خير من نزل بك المرملون، واستغني بفضلك المقلون، وولج في سعة رحمتك المذنبون، اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك”.

ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.

 

قال بعضهم: “لن يرى في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات”.

 

فالرضا هو باب الله الأعظم وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وأهل الرضا تارة يلاحظون المُبتلى وخيرته لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه، وتارة يلاحظون عظمته وجلاله وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك حتى لا يشعروا بالألم.

 

أصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر كثيرة فقال:

لا والذي أنا عبد في عبادته
لولا شماتة أعداء ذوي إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها
وأن شيئًا قضاه الله لم يكن

 

قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبشر، قال: فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم.

 

وقال أبو عبد الله البراشي – رحمه الله-: “مَن وُهِبَ له الرضا، فقد بلغ أقصى الدرجات”.

 

وقال أيضًا: “لم يرَ في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله عز وجل على كل حال”؛ (انظر هذه الآثار في تسلية أهل المصائب لأبى عبد الله محمد بن محمد المنبجي الحنبلي).

فمن صبر على قضاء الله رزقه الله نعمة الرضا:

يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه “مدارج السالكين: 2/ 214″: “والرضا من أعمال القلوب، وهو نظير الجهاد الذي هو من أعمال الجوارح، وكل واحد منهما ذروه سنام الإيمان”؛ اهـ، وأخرج ابن المبارك بسند صحيح عن سعيد بن مرثد الهمداني أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: “ذروة الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز جل”.

وذكر ابن القيم – رحمه الله – في كتابه “مدارج السالكين: 2/ 227″: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما قدم إلى مكة، وقد كان كف بصره، جاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فرد الله عليك بصرك، فتبسم وقال: يا بنى، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري”.

 

وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – كثيرًا ما يدعو: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته”؛ (مدارج السالكين: 2/ 225).

وفي وصية لقمان لابنه: “أُوصيك بخصال تقرِّبك من الله، وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت”.

 

وقال الحسين بن علي بن يزيد – رحمه الله –: قال رجل لفتح الموصلي: ادع الله، فقال: “اللهم هبنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك، وأرضنا بقضائك”؛ (الرضا عن الله ص115).

وقال وهب بن منبه – رحمه الله -: “وجدت في زبور داود يقول الله تعالى: “يا داود هل تدري من أسرع الناس ممرًّا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة من ذكري”.

 

وها هي أعرابية اسمها أم غسان كما في “عيون الأخبار: ” فقدت جميع أبنائها، وفوق ذلك كُفَّ بصرُها، مصيبة وأي مصيبة؟ كانت تعيش بمفردها وتقول:

لكل اجتماع من خليلين فرقة
وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحدًا بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل

 

الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين بالله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء.

 

ويقول أحد المعزين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ توفيت أمه قال له: “إن كانت وفاتها عظة لك فأعظم الله أجرك على موتها، وإن لم تكن لك عظة فأعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي: أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة ولم يرد عليك أحدٌ حكمًا، فكيف بحكم واحد عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟ فسُرِّي عنه وكشف ما به وقال: تعزيت تعزيت”.

 

وروي ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة – رحمه الله – أنه مات له ابن يقال له يحيى، فلما نزل بقبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟ فلله ما أحسن فهمهم، ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم. وثقتهم بما أعطى الله تعالى من ثواب للصابرين المحتسبين.

 

وصدق القائل حيث قال:

أقول وقد فاضت دموعي غزيرة
أري الأرض تبقي والأخلاء تذهب
أخلائي لو غير الممات أصابكم
جزعت ولكن ما على الموت معتب

 

قال بعض السلف: “ارضَ عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين، فتسقط من عينه”؛ (مدارج السالكين: 2/ 216).

يقول صاحب كتاب “حدائق ذات بهجة ص 78”: “إن الرضا بالله ربًّا يلزمك أن ترضى بأحكامه الشرعية، فترضى بأوامره ممتثلًا، وترضى بنواهيه مجتنبًا، وترضى بأقداره المؤلمة، فترضى بكل نعمة ومصيبة، وكل منع وعطاء، وشدة ورخاء، ترضى عنه سبحانه إذا عافاك وشفاك، ومن كل بلاء حسن أبلاك، وترضى عنه إذا أمرضك وأسقمك، وترضى عنه إذا وضعك في السجن وحيدًا فريدًا، ترضى عنه إذا أغناك وحباك، وترضى عنه إذا أفقرك وأعدمك؛ لأنه سبحانه يحب أن يرضى عنه، فهو حكيم لا يُشك في حسن وصلاح قضائه، وهو مدبر لا يُتهم في جميل تدبيره، وهو يختار الأجمل والأكمل والأفضل لعبده، فلا يعارض اختياره بكرهٍ، ولا يصادم تقديره برفض، ولا يجابه فعله بردٍّ.

ويقبح من سواك الفعل عندي
وتفعله فيحسن منك ذاك

والرضا باب اليقين الأكبر، وبستان العبودية الأخضر وهو مستنزل الرحمة، ومستدر الزيادة، ومستوجب الرضا منه ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[المائدة: ١١٩]، والرضا مطردة للهموم والغموم، مذهبة للأحزان، وهو علاج التردد والحيرة والاضطراب؛ لأنه التسليم بالحكمة، والتصديق بالشرع، والركون إلى اللطف والاطمئنان لحسن الاختيار، من دخل بيت الرضا فهو آمن، ومن استقبل كعبته فهو مخبت، ومن صلى في محراب الرضا فهو حليم أواه منيب؛ اهـ.


[1] انظر ” طريق الهجرتين وباب السعادتين ص448 – 459 ” زاد المعاد: 4/ 188، عدة الصابرين ص 76-86، وجميعها لابن القيم رحمه الله.

وفضل وجزاء المصيبة عظيم، وأجره كبير، فمن أراد أن يقف عليها فليرجع- فضلا لا أمرًا- إلى الرسالة رقم (50) من نفس السلسلة والتي بعنوان: فضل وفوائد الابتلاء ص 56-78.

[2] هو عدو الله أبو لؤلؤة المجوسي؛ فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وكان من سبي نهاوند، وهو الذي قتل أمير المؤمنين في صلاة الفجر. (انظر طبقات ابن سعد:3/ 350)

[3] هو عبد الرحمن بن ملجم المُرادي، وكان من الخوارج، وهو الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حينما خرج لصلاة الفجر. (انظر وفيات الأعيان:7/ 218) (الكامل لابن الأثير:3/ 388)

[4] الوسن: أول النوم، وقال ابن سيده: السِّنةُ والوسنة والوسنُ: ثقلة النوم، وقيل النعاس. (انظر اللسان:13/ 449)

[5] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
خطبة العبور على الصراط والشفاعات
البركة عند السلف الصالح (خطبة)