الاستشراق ووسائل صناعة الكراهية


الاستشراق ووسائل صناعة الكراهية

 

ليس من السهل حصرُ الوسائل التي يمكن عَدُّها مؤثِّرة في صناعة الكراهية بين الشرق والغرب، ويمكن أن تقسَّم “القائمة” إلى وسائلَ قديمة وأخرى حديثة أو معاصرة.

 

كانت إسهامات المستشرقين الأوائل في هذا المجال قد بدأت في الطعون المباشرة، وإثارة الشبهات في الثقافة الإسلامية، حيث شكَّك الاستشراقُ في الإسلام، ومن ثَم شكَّكَ في القرآن الكريم على أنه كتابٌ منزَّل من الله تعالى على عبده ورسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وأنه من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم؛ (جورج سيل 1697 – 1736م نموذجًا)[1]، ومن ثَم التشكيك في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، والتشكيك في الشريعة الإسلامية، وأنها مستمدة من القانون اليوناني أو الإغريقي[2]، ثم لَمْز الصحابة والتابعين والتاريخ الإسلامي والفتوح الإسلامية، والقائمة تطول.

 

يقول حاتمٌ الطحاوي في عرضه لكتاب مُحمد خليفة حسن: “آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية”: “أثار الاستشراقُ الشكوكَ في العقيدة، عبر نظرته للقرآن الكريم والحديث النبوي ومصادر العقيدة الإسلامية على أنها خاضعة للنقد العقلي، وحضَّ المسلمين على ضرورة إخضاع تلك المصادر للرؤية النقدية العقلية، وتاليًا التخفيف من قدسيتها لدى المسلمين، والحض على تركها واستبدال القوانين الوضعية البشرية بها”[3].

 

إلا أن صناعة هذه الطعون والشبهات قد خدمت مرحلةً من مراحل العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، ولم تعُد مما يُسوَّق اليوم، فلجأ المستشرقون إلى بناء شبهات جديدة بمنهجية خاصة في صناعة الشبهات وبنائها؛ لأنَّ المستشرِقين أنفُسَهم قد وقَفوا من الشبهات التقليدية موقف الناقد الفاحص[4]، الذي تبيَّن له أن الزمن قد تجاوز الطعون والشُّبُهات المباشرة، لا سيما مع الْتِفات الباحثين المسلمين لنقد الاستشراق، ونشوء جدل بين الباحثين العرب والمسلمين أنفسِهم حول الموقف من الاستشراق، ومدى خدمته للثقافة الإسلامية، ومن ثمَّ التصدِّي لهذه الأنواع من الطعون والشبهات، والردود عليها من قبل الباحثين المسلمين، وعزوها إلى الأغراض التي قامت من أجله، ومن بينها الأغراض السياسية.

 

الخوف من الإسلام:

ثمَّ تأتي المرحلة المعاصرة التي توهَّمت أن الإسلام يمثل خطرًا يهدد الوجود الغربي بثقافته التي انبنى عليها، رغم تبنِّي المنهج العلماني في الممارسات السياسية ظاهرًا، ونحَت الغربُ مصطلح “الإسلام – فوبيا”، أو الإسلاموفوبيا “Islamophobia، لا سيما بعد انطفاء تأثير المعسكر الشرقي، وخفوت الحرب الباردة ولو إلى حين، والبحث عن عدو جديد يوحِّد الغرب، ويتحالف في التصدي له”[5].

 

يقول محمد علي الخالدي: إن الإسلاموفوبيا “مصطلح أكثر شيوعًا من الاستشراقية.

 

وقد عُرِّب مصطلح الإسلامافوبيا إلى “التخويف من الإسلام والمسلمين”، الذي يُعرَّف بأنَّه “الفزع من الإسلام أو كرهه، والخوف من المسلمين أو كرههم”، ويعتقد كثير من الخبراء أنَّ هذا المصطلح غير دقيق، ولا يعبر بصدق عن أنواع التمييز ضد المسلمين، ووضَعه الأوربيون على غرار مصطلح “اللاسامية”، وهي ظاهرة تمييزية أوربية تختلف تمامًا – في أجواء انبثاقها – عن نوعية العلاقة بين الإسلام والغرب.

 

وعرَّب بعضُ الباحثين الإسلامافوبيا اختصارًا بـ”رُهاب الإسلام”، ضمن ما يُعتقد أنها سياسة حكومية تستهدف إقناع المجتمع الغربي بوجود تناقُض صارخ مع الإسلام، حسب مقولة: إنَّ الإسلام هو الخطر الجديد القادم نحو البلدان الغربية من الشرق، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي؛ كما عبَّر عن ذلك الأمين العامُّ السابق للحلف الأطلسي في بداية التسعينيات[6].

 

لقد تحول هذا الخوف من الإسلام والمسلمين إلى مرض، بحيث يشمل هذا الهاجسُ كلَّ من يَدين بالإسلام وعلى مختلف المستويات الاجتماعية، وهو مرضٌ غير مبرَّر[7]، وكان من نتائجه التضييق على الجاليات المسلمة، وتطاوُل بعض الغربيين على الإسلام وعلى القرآن الكريم، فشبَّهه مذيع قناة فوكس بيل أورايلي بكتاب “كفاحي” لهتلر[8]، رغم أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش من قرَّاء هذا الكتاب.

 

وظهر التنفير من الإسلام – بصفته يشكِّل خطرًا على الوجود البشري – في بعض المؤسَّسات الدينية المسيحية المتصهينة، وعلى لسان قياداتها المعروفة على الساحة الغربية؛ من أمثال: بيلي جراهام وابنه فرانكلين جراهام وجيري فاينز وجيري فالويل وبات روبرتسون[9]، ثمَّ تبعهم القس تيري جونز الذي أراد أنْ يُحرق المصحف سنة 2010م، فأسهم – بإحراقه إيَّاه – في نشره دون أنْ يشعُر!

 

الخوف من الإسلام ليس وليد القرن الحادي والعشرين، وليس وليد أحداث يوم الثلاثاء 22/ 6/ 1422هـ الموافق الحادي عشر من سبتمبر 2001م كما يبدو لأول وهلة، بل يكاد هذا الهاجس يسيطر على المجتمع الغربي بخاصة، والمجتمعات غير الإسلامية بعامة منذ بعثة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ولذا نشأت الأدبيات التي تسعى إلى تنبيه القوم من خطر الإسلام، وقامت الحروب والمناوشات والحوارات العنيفة والأقوال الصادَّة، بدلًا من الحوارات المباشرة القائمة على الحِجَاج والجِدال بالتي هي أحسن.

 

لا يتَّسع المجال لتصيُّد هذه الأقوال والأفعال الصادَّة، التي جاءت على ألسنة السياسيين والمستعمرين، والمنصِّرين والمستشرقين، وغيرِهم، وتناقلتها بعض الإسهامات العربية والإسلامية التي كان لها – دون قصد مباشر منها – أثرٌ في زيادة الفجوة بين الثقافات، ومَن بحَث وجَد[10].

 

يظلُّ الخوف من الإسلام وهمًا من الأوهام التي روَّجَت لها عناصرُ رأت أن الإسلام يهدد مصالحها الخاصة، وأعان على ترسيخ هذا الوهم حجبُ المعلومة الصحيحة عن الإسلام، أحيانًا مِن قِبَل المنتمين إليه، ومن ثمَّ تقديم معلومات مغلوطة ومشوَّهة عن هذا الدين الشمولي، وهنا يأتي أثر الاستشراق الصحفي الذي يميل إلى السياسة، ودوره في ترويج المعلومة المزيفة الموغِلة في التزييف والتضليل[11]، عمدًا في غالب الأحوال، وفي الوقت نفسه إغفال أثر الحضارة الإسلامية والشرقية في بناء الجذور الحضارية الغربية المهيمنة اليوم[12]، انطلاقًا من مكة المكرمة والمدينة المنورة ودمشق وبغداد والقاهرة وطُليطِلَة وإسبانيا عمومًا، وصقلية وجنوب إيطاليا، وجاء ذلك عن طريق النقل والترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية[13]، وتعمُّد تغييب هذا البعد الفعلي في تَلاقي الحضارات، وتطويرها وتطويعها للمعطيات الثقافية، ما يعني وضوح أثر الاستشراق في هذا المجال في صناعة الكراهية بين الثقافات.

 

التصدِّي للخوف من الإسلام:

تصدَّى لهذه النبرة المتجدِّدة “الخوفِ من الإسلام” – رهطٌ من المفكرين الغربيين والمسلمين، ونظَروا إليها على أنها وهمٌ من جملة الأوهام التي يراد من ورائها استمرار حالة التأزُّم القائمة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي[14]، ومن ثم الاستمرار في حال غير مستقرة، تفيد منها عناصرُ جعلت من هذه الحالة مجالًا لجلب مصالح ذاتية محدودةِ النفع، محدودةِ الجغرافيا والزمان، ممتدةِ الضرر في الجغرافيا والتاريخ.

 

تساعد الظروفُ والأحداثُ الآنيَّة في تعميق هذا الوهم، من خلال مؤشرات عدَّة؛ منها: سيطرة المحافظين الجدد على الإدارة الأمريكية، والأحداث المؤسفة التي حصلت يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة 1422هـ الموافق الحادي عشر من سبتمبر 2001م، والتي اشتُبه بتنفيذها في ثلة من الشباب المسلمين، ثمَّ ملاحقة من اتُّهموا بالتخطيط لهذه الأحداث، وهم – في الظاهر – من المسلمين، وغيرها قبلها، وربَّما – لا قدَّر الله – بعدها، في جبال أفغانستان وغيرها، واجتياح العراق بدءًا من يوم الخميس 16/ 1/ 1424هـ الموافق 20/ 3/ 2003م، ثم يوم الأربعاء 6/ 2/ 1424هـ الموافق 9/ 4/ 2003م؛ بحجة أن النظام القائم آنذاك يهدد الاستقرار في المنطقة؛ أي: يهدد الوجود اليهودي في فلسطين المحتلة، دون إغفال غزو النظام البعثي في العراق للكويت يوم الخميس 11/ 1/ 1411هـ الموافق 2/ 8/ 1990م، وما تبع ذلك من أحداث عصفَت بالمجتمع العربي – وما تزال تعصف به – في صورٍ لم يشهَدْها التاريخُ العربي الحديث، واصطلح كثيرون على تسميتها بالربيع العربي، ولكنه اصطلاح مضطرب، لم يحظَ بالاتفاق بين كثير من المهتمين، ممن يرون أنه من صنائع أعداء الأمة، لا مباشرة بالضرورة، ولكن بالاستحواذ، الأمر الذي يستدعي مزيدًا من الموضوعية في النظرة، وقليلًا جدًّا من العاطفة والاندفاع.

 

صهينة الاستشراق:

لا يتحمَّل الاستشراق المعاصر أو الجديد تأجيج هذا الوضع ابتداءً، إلا أنه في بعض جوانبه وجدها فرصةً مواتية لتجديد صناعة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، لا سيما بين المستشرقين المتصهينين (برنارد لويس، نموذجًا)، ويتبعه تلميذه دانييل بايبس (1949)، ومارتن كريمر (1954)، وإن لم يكن الأخيران مستشرقين بالمفهوم التقليدي للاستشراق، وإن عدَّهما فاضل الربيعي مع بيرل ودوغلاس فاث من المستشرقين الاحتلاليين[15].

 

ويُضاف إلى هؤلاء قائمة غير حصرية؛ من أمثال: مورتايمر زُكرمان، وفرجوس بورودريتش، وروبرت ستالوف، وأموس بيرلموتر، ووالتر جودمان، ولسلي جيليب، وديفيد هارتمان، ويهوشفات هركابي، وستيفن هلمز، وروبين رايت[16]، الذين يَعينهم هذا التأجيج؛ وذلك للإسهام في ترسيخ وجود وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلَّة، الأمر الذي يمكن أن يُعزى إليه الوضع السياسي والاجتماعي المتأزِّم بين الشرق الإسلامي والغرب، وهو ما يسعى برنارد لويس إلى التقليل من تأثيره، بما في ذلك وجود هجمات إرهابية يُشتبه بمنفِّذيها أنهم من المسلمين، حتى وصل الأمر إلى نسبة أي عمل إرهابي للمسلمين من أوَّل وهلة.

 

ولعلَّ مِن آخِر استفزازات برنارد لويس حول وجود خطر إسلامي على إسرائيل وأمريكا – قولُه في مؤتمر متأخِّر في القدس المحتلَّة، وقد حضره أكثرُ من ثلاثين منظَّمةً يهودية: “المسلمون شهدوا انهيار الرايخ الثالث، ثم شهدوا انهيار الاتِّحاد السوفياتي، والآن يسعَون إلى انهيار الولايات المتَّحدة”[17].

 

ويريد دانييل بايبس أن يتطرف في عدم استخدام مصطلح “الإرهاب”، والاستعاضة عنه بمصطلحٍ يروِّج له باسم الإسلام المتشدد Militant Isalm[18]؛ فمنطق الاستشراق المعاصر أو الجديد، في بعض جوانبه حول هذا الأحداث المتلاحقة هو تبني مقولة: “لم أُردها ولم تَسُئْنِي”! هذا على أقل تقدير، وإلا فالتأجيج بين المستشرقين السياسيين – أو المسيَّسين – هو المحرِّك لحملة الكراهية ضد العرب والإسلام والمسلمين.

 

يقول مايكل كولينز بايبر: “يُعتبر دانييل بايبس من أخبث الشخصيات المعادية للعرب والمسلمين في أمريكا، ويحظى دائمًا بتغطية إعلامية وُدِّية واسعة، وقد كافأ جورج بوش بايبس على جهوده في إشاعة الكراهية ضد العرب والمسلمين؛ بتعيينه في المعهد الأمريكي للسلام، وبوجود بايبس في ذلك المعهد يجعل مِن تسمية ذلك المعهد من المفارقات العجيبة في هذا الزمان”[19].

 

مع هذا لا يدخل هذا البحثُ في التعرُّض إلى أولئك الرهطِ من صنَّاع الكراهية من غير المستشرقين؛ من أمثال دانييل بايبس صاحب مشروع مراقبة الجامعات لرصد ما يُقال عن اليهودية والصِّهيَونية، وصاحب فصلية الشرق الأوسط، التي يرأس تحريرَها زميلُه في التوجُّه مارتن كريمر، المدير السابق لمركز موشي دايان في الجامعة العبرية في تلِّ أبيب، ويحمل جنسية مزدوجة[20]، وآخرين من مثل مايكل كوك وباتريشيا كرون، وغيرهم ممَّن شاعت نظرياتهم في مجال صُنع الكراهية؛ إذ إنَّ التركيز هنا ينصبُّ على أثر الاستشراق – في وجهٍ من وجوهه – على صُنع الكراهية بين الثقافات.

 

ووَجْهُ ذِكر هذه الشخصيات غير المستشرقة في هذا السياق أنهم تلاميذُ للمستشرق المتصهين “التاريخاني سابقًا، المحلل السياسي في شؤون الشرق الأوسط لاحقًا” برنارد لويس، وأنهم مع آخرين يجسِّدون الكراهية للعرب والمسلمين، ويروِّجون في الوقت نفسِه لأسطورة كراهية العرب والمسلمين للغرب ولأنظمة الغرب وحُرِّياته وديموقراطيته، ويمرِّرونها على الشعوب الغربية[21]، مبتدعين مفهوماتِ التفريق بين الثقافات؛ من خلال إقحام مصطلَحاتٍ ذات مفهومات إنجيلية؛ مثل محور الشرِّ، الذي هو تحويرٌ صاغه ديفيد فروم “الكاتب السابق لخطابات الرئيس” عن مفهوم محور الكراهية؛ ليوافق التوجُّه الإنجيلي للإدارة القائمة، الذي يأتي على حساب الليبرالية التي كانت تظلِّل إدارة البلاد[22]، وكذلك عبارة “من ليس معي فهو ضدي” التي تُنسب لعيسى ابن مريم عليهما السلام[23].

 

تُعيد هذه الفئة من تلاميذ المستشرق برنارد لويس كراهةَ العرب والمسلمين للغرب إلى التأثير الألماني عليهم، وإعجابِ العرب بالفلسفة الألمانية، وموقفها من الحضارة الأمريكية، منزوعةِ الثقافة والروح ذات الهياكل المصطنعة؛ من أمثال إرنست جانغر (1895 – 1998م) ومارتين هايديغر (1889 – 1976م) وراينر ماريا ريلكه (1879 – 1926م)، الذين يرون أنَّ أمريكا حضارة وليست ثقافة، أو حضارة من دون ثقافة، وذات هياكل مصطنعة، وأنَّها نتاج عمليات تجميع وتركيب؛ أي: إنها لم تنمُ نموًّا طبيعيًّا، فتأثَّر العرب بهذا الفكر الألماني المتطرف فصاروا يقلدونه!

 

ويردُّ جميل مطر على هذا الزعم الصادر عن برنارد لويس بردٍّ منطقي ذي علاقة بمحدودية إتقان العرب للغة الألمانية على امتداد قرن من الزمان[24].

 

المؤكَّد أنَّ الألمان أتقنوا اللغة العربية، وترجَموا منها قبل سبعة قرون (1311م)، عندما اشتَغَل المستشرقون الألمانُ بالتراث العربي الإسلامي على مستوى الجامعات الألمانية؛ يقول مصطفى ماهر: “فإذا نظرنا إلى العالم العربي في الفترة نفسِها وجدناه خاليًا من جهود مناظرة؛ لأسباب قد لا تخفى عنا أحيانًا، ولأسباب لا تُرضينا في أحيانٍ أخرى”[25].

 

هذه الأفكار الصدامية الرامية إلى ترسيخ صناعة الكراهية بين الثقافات تُعَدُّ عالةً على المنظِّر المستشرق برنارد لويس، الذي يُعَدُّ من آخر المستشرقين التقليديين أو الكلاسيكيين المتصهينين، كما أنه يُعَدُّ المنظِّر والمرجع الأوَّل لفكرة صدام الحضارات[26]، التي اهتبلها عنه غيرُه، وروَّج لها فراجت، وانقاد لها خلقٌ كثيرٌ من بعض مفكِّري الليبرالية من العرب والمسلمين، رغم ما وُسِمَت به من أكثر من كونها مجرَّد أفكار سطحية[27]، ولا تُنسى جهوده في صهينة الاستشراق الأمريكي، بحيث تحوَّل الفكر الاستشراقي الأمريكي حتى “صار أكثر ارتباطًا بالمشروع الصهيوني وأكثر استعدادًا لخدمته”[28].

 

ويمكن القول بأنَّ هذا المستشرق المخضرِم وتلاميذَه المتَّفقين معه في التوجُّه يُعَدُّون ركيزة قوية من ركائز صناعة الكراهية بين المسلمين والغربيين، ولا يكاد يمرُّ نقاشٌ – حول الاستشراق الجديد أو المتجدِّد، وسيطرة الصهيونية على مراكز الاستشراق المعاصر – إلا ويأتي ذكر برنارد لويس وتلامذته؛ بحيث يمكن أنْ تُجمع هذه الإسهامات في كتاب ضخم يخصَّص لجهود برنارد لويس في تغيير دفَّة الاستشراق السياسي الجديد[29].

 

هذا، مع عدم إغفال الجهد الذي قام به الزميل مازن بن صلاح مطبَّقاني الذي درس المستشرق برنارد لويس دراسة مستفيضة، وجعله موضوع أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الاستشراق[30]، كما هي أطروحة سامي أحمد الزهو من جامعة الموصل (1431هـ/ 2011م)، بعنوان: اتجاهات الاستشراق الأميركي والتأريخ الإسلامي: برنارد لويس أنموذجًا[31]، وغيرهما من البحوث العلمية الرصينة.

 

الاستشراق والإنترنت:

وظهرَت فئةٌ من التلاميذ الغربيين للمستشرقين من صنَّاع الكراهية بين الثقافات، اتَّسمَت باستخدام تقنية الاتصال؛ كالإنترنت والفضائيات، ووسائط الاتصال الاجتماعي، وسائلَ للتواصل مع الآخرين، وهي فئة تحتاج إلى وقفة تقويمية، من حيث عمقُ الطرح؛ نظرًا للفئة المخدومة في هذا النوع من الاتصال السريع.

 

مستشرقو الإنترنت والفضائيات والتواصل الاجتماعي هم من المستشرقين المعاصرين، إنْ صح أن يُدعَوا بالمستشرقين، وستكون لهم سِمات قد تُسهِم في النظرة السطحية المعولمة للقضايا التي كان المستشرقون التقليديون يطرقونها بعمق وبحث وعناء؛ فلم يعُد الاستشراق المعاصر “حكرًا على المستشرقين والسياسيين الأكاديميين المتخصصين في موضوعَيِ الشرق والإسلام؛ بل صار حتى العامةُ من أفراد الشعب الغربي يخوضون بجدية في مسائلَ استشراقية، ويُطلِقون أحكامًا فيها عدائيةٌ نابية ضد الإسلام والمسلمين”[32].

 

وظهرت لذلك مواقعُ وفضائيات وحسابات تُطرح فيها هذه الإساءات، جمعَت بين الاستشراق السياسي المعاصر والتنصير، حيث تزداد القنوات الفضائية العربية التنصيرية الصريحة، مع تكاثر القنوات غير الصريحة، وتأخذ منحى الهجوم على الإسلام والقرآنِ الكريم ورسولِ الله صلى الله عليه وسلم هجومً مباشرًا ومقذعًا؛ مثل قناة الحياة وقناة الشفاء وغيرهما من القنوات، بلُغات مختلفة[33].

 

لا تقلُّ هذه الوسيلة فيما يقال وينشر “خطورةً عن الأفكار الاستشراقية التي كانت ولا زالت تتسرَّب عبر الوسائل التقليدية، كما يُلاحظ أنَّ هذه الأفكار بعيدة كلَّ البعد عن روح الجدِّ والموضوعية في التعامُل مع الآخر ومحاولة معرفته؛ فهي في الحقيقة لا تعدو أنْ تكون مجرَّد أحكام جاهزة وكليشيهات إيديولوجية مليئة بالحقد والكراهية والاحتقار تجاه الإسلام وأهله”[34].

 

تأليف القلوب:

ومع هذا فليس الغربُ – لا سيَّما الغرب الأقصى منه في ضوء التقسيم السابق للغرب – كلُّه برنارد لويس وتلاميذَه؛ فهناك آخرون يدخلون في ساحة الإنصاف المصحوب بالإعجاب بالشرق وثقافته؛ من أمثال واشنجتون إرفنج (1783 – 1859م) ورالف والدو إمرسون (1803 – 1882م)، ومَن حذا حذوَهما ممن سعَوا إلى استبعاد التأثير السياسي عن دراساتهم الاستشراقية[35]، وأمثالهم الآن موجودون ممن يسعَون بدراساتهم إلى التقارُب بين الثقافات، وتأليف القلوب بينها.

 

يرى الباحث علَّال سيناصر أنَّ للمستشرقين أثرًا واضحًا في تأليف القلوب، فالدور الذي يقوم به المستشرقون في مجال البحث العلمي المتخصِّص ينبغي الوقوفُ عنده وكشفُه؛ لأنه هو الذي يهتمُّ حِرْفيًّا (من الحِرْفة) بالعالم العربي، ويملك المستشرقون معرفة جيدة بدقائق الثقافة العربية، ويجب ألا ننسى أننا إذا أردنا أن نستفيد من الدول الأوربية فلن نجد غير المستشرقين؛ لأنهم بما يَملِكون يمكن أن نقوم معهم بعملٍ يكون من شأنه “التأليفُ بين القلوب”[36].


[1] انظر: علي بن إبراهيم النملة. المنهج الاستشراقي في دراسة القرآن الكريم وترجمة معانيه – بحث مقدَّم إلى مجلة الجمعية السعودية للدراسات القرآنية (تبيان) – 1436هـ/ 2015م – ص 122.

[2] انظر: علي بن إبراهيم النملة. موقف المستشرقين من الحضارة الإسلامية بين الاستمداد والتأصيل – الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1433هـ/ 2012م – ص 87.

[3] انظر: حاتم الطحاوي. الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية (محمد خليفة حسن) – الاجتهاد – مرجع سابق، ص 32 – 335 – والنص من ص 322 – 323.

[4] انظر: محمد خليفة حسن. أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر – مرجع سابق، ص 386 – 388.

[5] انظر: مصطفى الدبَّاغ. الإسلام فوبيا: ISLAMOPHOBIA عقدة الخوف من الإسلام – ط 2 – عمَّان: دار الفرقان، 2001م/ 1422هـ – ص 149 – وانظر، أيضًا: ألان جريش. الإسلام فوبيا/ ترجمة وتعليق إدريس هاني – الكلمة – مج 10 ع 40 (صيف 2003م/ 1424هـ)، ص 104 – 120.

[6] انظر: محمد علي الخالدي. إنسان بأصوات متعددة – مرجع سابق.

[7] انظر: سعيد اللاوندي. الإسلاموفوبيا: لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ – مرجع سابق – ص 318.

[8] انظر: صالح بن عبدالرحمن الحصيِّن. التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب – الرياض: مؤسسة الوقف الإسلامي، 1429هـ، ص 11.

[9] انظر: أكبر أحمد. الإسلام تحت الحصار – مرجع سابق، ص 67.

[10] انظر: جودت سعيد. لم هذا الرعب كله من الإسلام، وكيف بدأ؟! – دمشق: دار الفكر، 1427هـ/ 2006م – ص 64.

[11] انظر: ظاهرة «الاستشراق الصحفي»، ص 41 – 46 – في: حسن عزُّوزي. الغرب وسياسة التخويف من الإسلام – مرجع سابق – ص 69.

[12] انظر: جون إم. هوبسون. الجذور الشرقية للحضارة الغربية/ ترجمة منال قابيل – القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1427هـ/ 2006 – ص 411.

[13] انظر: عبدالرحمن بدوي. دور العرب في تكوين الفكر الأوربي – مرجع سابق – ص 256.

[14] انظر: أحمد شاهين. صناع الشر – بالقاهرة: دار المعارف، 2004م – ص 208 – (سلسلة اقرأ؛ 695).

[15] انظر: فاضل الربيعي. ما بعد الاستشراق: الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء – مرجع سابق، ص 13.

[16] خلف الجراد. أبعاد الاستهداف الأمريكي – مرجع سابق، ص 106.

[17] نقلته عنه صحيفة الشرق الأوسط في عددها 10130 (الاثنين 1/ 2/ 1428هـ الموافق 19/ 2/ 2007م)، ص 20.

[18] انظر: جميل مطر. الكراهية الأمريكية للعرب صناعة جديدة، ص 263 – 287 – في: بهجت قرني، وآخرين. صناعة الكراهية في العلاقات العربية – الأمريكية – مرجع سابق – ص 406.

[19] انظر: مايكل كولينز بايبر. كهنة الحرب الكبار: التاريخ السردي لوصول «المحافظين الجدد» التروتسكيين إلى السلطة في الولايات المتَّحدة وتدبيرهم الحرب ضدَّ العراق كخطوة أولى في سعيهم نحو تحقيق إمبراطورية عالمية/ نقله إلى العربية عبداللطيف أبو البصل – الرياض: مكتبة العبيكان، 1427هـ/ 2006م، ص 253.

[20] انظر: عبدالله بن فهد النفيسي. هل يشكِّل الإسلام خطرًا على الغرب؟/ تحرير ساجد العبدلي المطيري – بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 52.

[21] انظر: جميل مطر. الكراهية الأمريكية للعرب صناعة جديدة. ص 263 – 287 – في: بهجت قرني، وآخرين. صناعة الكراهية في العلاقات العربية – الأمريكية – مرجع سابق – ص 406.

[22] انظر: David Frum. The man: The Surpirse Presidency of George W. Bush – .Newyork: RqndomHouse، 2003. – [.272

نقلًا عن بنجامين ر. باربر. إمبراطورية الخوف: الحرب والإرهاب والديموقراطية/ ترجمة عمر الأيوي – بيروت: دار الكتاب العربي، 2005م، ص 25 – 26.

[23] العبارة الأخيرة مقتبسة من إنجيل متَّى: الإصحاح 30: 12. وعبارتها: «من ليس معي فهو عليَّ ومن لا يجمع معي فهو يفرِّق». وسبقت الإشارة إليه.

[24] انظر: جميل مطر. الكراهية الأمريكية للعرب صناعة جديدة، ص 263 – 287 – في: بهجت قرني، وآخرين. صناعة الكراهية في العلاقات العربية – الأمريكية – مرجع سابق – ص 406.

[25] انظر: مصطفى ماهر. علاقات على طريق الترجمة من الألمانية إلى العربية، ص 62 – 78 – والنص من ص 64 – في: مصطفى ماهر، معد. حوار بين الألمان والعرب: سجلُّ الأسبوع الثقافي العربي الألماني الذي أقسم في (توبينجن) عام 1974م – القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976م – ص 306.

[26] انظر: حسن عزُّوزي. الإسلام وتهمة الإرهاب – ط 2 – فاس: المؤلف، 2006م، ص 61 – 68.

[27] انظر: زكي الميلاد. من حوار الحضارات إلى تعارف الحضارات، ص 47 – في: زكي الميلاد، معد. تعارف الحضارات – بمرجع سابق – ص 226.

[28] انظر: محمد الكوش. الثابت والمتحوِّل في الخطاب الاستشراقي بعد أحداث 11 شتنبر، ص 53 – 72 – في: مصطفى سلوي. الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة: يوم دراسي – مرجع سابق – ص 166.

[29] انظر: جلال أمين. برنارد لويس، أو دليل الرجل الذكي إلى التشهير بالمسلمين – الميثاق – ع 13 (18 تشرين الثاني 2003م) – ونشرها في كتابه: عصر التشهير بالعرب والمسلمين: نحن والعالم بعد 11 سبتمبر 2001 – القاهرة: دار الشروق، 1424هـ/ 2004م، ص 72 – 87 – وأفاد خلف الجراد من جلال أمين في هذا في الفصل الثاني: الاستشراق وصناعة الكراهية من كتابه: أبعاد الاستهداف الأمريكي – بمرجع سابق، ص 67 – 114.

[30] مازن بن صلاح مطبقاني. الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس – الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416هـ/ 1995م – ص 614.

[31] انظر: سامي أحمد الزهو. اتجاهات الاستشراق الأمريكي والتأريخ الإسلامي: برنارد لويس أنموذجًا – الموصل: كلية التربية، جامعة الموصل، 1431هـ/ 2001م، (رسالة علمية، دكتوراه).

[32] انظر: محمد الكوش. الثابت والمتحوِّل في الخطاب الاستشراقي بعد أحداث 11 شتنبر، ص 53 – 72 – والنصُّ من ص 66 – في: مصطفى سلوي. الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة: يوم دراسي – مرجع سابق – ص 166.

[33] انظر: تركي بن خالد الظفيري. الفضائيات العربية التنصيرية: أهدافها – وسائلها – سبُل مقاومتها – الرياض: مجلة البيان، 1428هـ/ 2007م – ص 414.

[34] انظر: محمد الكوش. الثابت والمتحول في الخطاب الاستشراقي بعد أحداث 11 شتنبر، ص 53 – 72 – والنصُّ من ص 68 – في: مصطفى سلوي. الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة: يوم دراسي. مرجع سابق – ص 166.

[35] انظر: كوامن الرغبة في تأنيث الشرق، ص 85 – 108 – في: محمد الدعمي. الاستشراق: الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي – مرجع سابق، ص 193 – 178.

[36] انظر: سعيد اللاوندي. الإسلاموفوبيا: لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ – مرجع سابق، ص 282.



Source link

أترك تعليقا
مشاركة
إشكالات في ترجمة دلالات الأصوات المشاكلة للمعنى في القرآن الكريم (دراسة نقدية تحليلية)
الحج عبر وعظات (المحاضرة السادسة)