الاهتمام بالتزكية قبل العلم
الاهتمام بالتزكية قبل العلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين؛ أما بعد:
فمن الضوابط المهمة التي تعصم طالب العلم من الانحراف أن يهتم الإنسان قبل طلبه العلمَ بإصلاح نفسه؛ فإنه الطريق إلى الانتفاع بالعلم بعد ذلك، بل هو أهم أسباب التوفيق لتحصيل العلوم والمعارف.
وقد كان من يطلب العلم يبدأ طريقه في ذلك بالتعبُّد وإصلاح النفس، وكان أهل العلم يراعون ذلك في طلابهم، فيبدؤونهم بما يُعينهم على ذلك.
قال سفيان الثوري: “كان الرجل إذا أراد أن يطلب العلم تعبَّد قبل ذلك بعشرين سنة”[1].
ذلك لإدراكهم خطورة وأهمية منصب التصدر لقيادة الأمة، وليس العلم إلا وسيلة للتصدُّر وإمساك زمام قيادة الأمة، وليس العلم وحده هو الذي يحقق الخير في ذلك، إذا لم يقترن معه تقوى وورع وخوف من الله، فكثير هم الذين جعلوا علمهم وسيلةً لتحقيق المآرب، وتحصيل المطالب، وجَنَتِ الأمة منهم شرًّا وبيلًا، وخطرًا كبيرًا، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحاجة تشتد إلى وجوب الإخلاص والصدق في طلب العلم وتحصيله، فإن الإخلاص سرٌّ بين العبد وربِّه، استودعه الله قلوب الصالحين من عباده، وقلوب العباد لا يطَّلع عليها، ولا يعرف حقيقتها إلا خالقها سبحانه وتعالى.
فالواجب على طالب العلم أن يخلص نيته في تحصيل هذه العلوم، قاصدًا بذلك وجه الله تعالى؛ قال سفيان: “ما شيء أخوف عندي منه – يعني الحديث – وما من شيء يعدله لمن أراد الله به”[2].
وقال عبدالعزيز بن أبي رزمة: “… من طلب هذا العلم لله تعالى، شرُف وسعِد في الدنيا والآخرة، ومن لم يطلبه لله، خسِر الدنيا والآخرة”[3].
فعلى طالب العلم ألَّا يكون هدفه من طلب هذا العلم نَيْلُ الأعراض وأخذ الأغراض، بل عليه أن يصحح نيته، وأن يجعل هدفه أن يتعلم لينتفع هو في خاصة نفسه، ثم يبذل هذا النفع لأهله من طلاب العلم والراغبين فيه والباحثين عنه، ثم يبذل ذلك أيضًا لعامة الناس فيما ينفعهم في شؤون دينهم ودنياهم.
ولو لم يكن من وازع عن النيات السيئة في طلب هذا العلم إلا ما ورد من الوعيد على ذلك لكفى؛ فإن النصوص في ذلك كثيرة، وكلها تتوعَّد من يجعل العلم مرقاة[4] لنَيل المآرب، وتحقيق المطالب، واحتلال المناصب، وتصدُّر المجالس، وطريقًا إلى تحقيق الشهوات واللذات، وغيرها من المنافع والمطامع.
وقد كان طلاب العلم يحرِصون على أن يكون شيوخهم على مستوى عالٍ من الإيمان والدين والتقوى، ويجعلون ذلك أول الأسباب التي تدفعهم إلى الجلوس إليهم والأخذ عنهم.
روى البيهقي عن النخعي قال: “كانوا إذا أتَوا إلى الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سَمْتِهِ، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه”[5].
وإن من أعظم ما يُزكِّي هذا العلم في نفس الطالب وينفع به غيره خُلُقَ التواضع والإنصاف، فعلى قدر ما يحوز الطالب القدرَ الوافيَ من ذلك، يمنحه الله القبول عند الناس، وينشر الحكمة على لسانه.
ومن أعظم وأبرز مظاهر التواضع والإنصاف معرفةُ الفضل لأهل الفضل، خاصة السابقين من العلماء الأفذاذ، الذين أضاء الله بهم سماء هذه الأمة عبر قرونها الطويلة، وحفِظ بهم دينه وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقام بهم الحُجَّة على خلقه علمًا والتزامًا، فكانوا وما زالوا يشكِّلون في ضمير المسلمين الحقبة الزاهية، والمرحلة المزدهرة للتطبيق الصحيح لهذا الدين، والنموذج الأمثل الذي يجب أن يُحتذى.
إننا لا ننكر أن يفتح الله لبعض المتأخرين من العلماء وطلاب العلم بابًا من العلم أو الفهم، لم يُفتَح لأحد من المتقدمين، فهذا فضل الله وحكمته الماضية في خلقه، لكن بعض من يحصل لهم ذلك تركبهم موجة من الزهو بأنفسهم، يُنسيهم فضل المتقدمين عليهم؛ لأنه لولا جهود المتقدمين في تقعيدهم لهذه العلوم، وضبط مناهجها وطرائقها، ونقل تفصيلات الاختلاف فيها في الكتب والمؤلَّفات والمصنَّفات، لولا ذلك ما أمكن للمتأخر مهما علا في العلم شأنه، ورسخ في الفهم قدمه أن يصل إلى ما وصل إليه هكذا مرة واحدة.
إنه ما من متأخر إلا وللمتقدمين عليه فضلٌ مُتقدِّم، أدركه أو لم يدركه، والذي يعرِّفه بذلك هو الإنصاف والتواضع.
أما الإنصاف، فهو يُعينه على أن يُنصِفَ الآخرين من نفسه، فلا يغمَطهم حقَّهم، ولا ينسى فضلهم ومكانتهم.
وأما التواضع، فيعرِّفه قيمة نفسه، ويُرشد إلى قلة علمه وبضاعته، فلا يتكبر على الآخرين، ولا يظن أن منازل الفضل والذكر تُدرَك بالانتفاخ والزهو، والاستعلاء على الأقران والإخوان.
إن الإنسان لَيُحِسُّ أحيانًا وهو يصغي إلى بعض طلاب العلم بالاستعلاء والكِبر يتطاير من أفواههم مع كل كلمة يلفِظونها، أو مسألة يتكلمون فيها، وتَلمح في حركاتهم وسكناتهم وتقاسيم وجوههم أثرًا واضحًا من ذلك الكِبر الذي أصابهم، وملأ قلوبهم، حتى أغراهم بالمشاكسة والمعاكسة لأهل العلم – أحياء وأمواتًا – والسعي للانتقاص من فضل الآخرين واحتقارهم والاستعلاء عليهم.
إن من أوجب الواجبات على العلماء أن يحرصوا على تربية تلاميذهم وطلابهم على استشعار الاحترام والتقدير للعلماء، وعليهم ألَّا يجعلوا من اختلاف العلماء في مسألة علمية – مهما كانت أهميتها، وضعف أدلة المخالفين منهم – سببًا لانتقاصهم وتضليلهم أو تفسيقهم.
إن الأُمَّة الحيَّة هي التي تحترم تراثها ورجالها وتاريخها، وتجعل من ذكراهم منارةً تهتدي بها في مستقبلها، وتُربِّي أبناءها على ضَوئِها، وكلما أهانت أمة ماضيها، واحتقرت رجالها، لِحقها الهوان في حاضرها ومستقبلها، وفقدت جملة من عناصر القوة في حياتها، واتجه أبناؤها إلى الانشغال بما يزيد في تمزيق الأمة، ونشر الفرقة بين صفوفها، والقعود بها عن تحقيق دورها الحضاري في الشهود على الأمم الأخرى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.