التوافق بين الزوجين (خطبة)
خطبة: التوافق بين الزوجين
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، أما بعدُ:
التوافق الزوجي هو شعور الزوجين بالانسجام والانتماء العاطفي، والمودَّة والمحبة، والرحمة المتبادلة لكليهما، والشعور بالرِّضا والسعادة، والاتفاق في حياتهما الزوجية، والقدرة على التعامل الناجح مع مشكلات الحياة الزوجية.
يا عباد الله، وللتوافق الزوجي أنواع، من أبرزها:
التوافق النفسي؛ ويعني التوافق في الصفات النفسية والسمات الشخصية، والتوافق الديني؛ وهو التوافق من حيث الاحتكام لشرع الله، والرِّضا به، والتوافق العمري؛ أي: أن يكون الزوجان متقاربين من حيث السِّنِّ، والتوافق المالي، وهو التفاهم حول القضايا المالية والقناعة، والرِّضا بما يتوفر لديهما، والتوافق الاجتماعي والثقافي؛ من احترام العادات والتقاليد والأعراف، والتسامح في القضايا التي يختلفان فيهما، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189]، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمِعتُ النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((الأرواحُ جنودٌ مجنَّدةٌ، فما تعارَفَ منها ائتلفَ، وما تناكَرَ منها اختَلَفَ))؛ رواه البخاري.
يا عباد الله، إن اختيارَ الزَّوجةِ الصَّالحةِ والزَّوجِ الصالِحِ مِن أهمِّ الأُمورِ في الحَياةِ، والكَفاءَةُ في الزَّواجِ ومُراعاةُ فُروقِ الاخْتلافِ بين الناسِ أَمْرٌ مَطْلوبٌ، ويُعينُ على اسْتِقْرارِ البُيوتِ، جاء في صحيح الجامع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تخيَّروا لنُطَفِكم، فانكِحوا الأكْفاءَ وأَنكِحوا إليهم)).
ففي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَخيَّروا لنُطَفِكُم))؛ أي: تخيَّروا مِنَ النِّساءِ ذواتِ الدِّينِ والصَّلاحِ، وذَواتِ النَّسَبِ الشَّريفِ؛ فلَا تَضَعوا نُطَفَكم إلَّا في أصْلٍ طَاهِرٍ، والنُّطْفةُ الماءُ القليلُ؛ ويُريدُ هنا: المَنِيَّ؛ والمُرادُ: تخيُّرُ المناكِحِ، فلا تَخْتاروا إلَّا كُفُؤًا؛ ((فانْكِحوا الأَكْفاءَ))؛ أي: الأَمْثالَ لكم؛ يعني: زَوِّجوا مَنْ هو مِثْلٌ لكم في الدِّينِ، والنَّسَبِ، وَالمَكانَةِ، والمَعيشَةِ، وغيْرِها، وهذا التخيُّرُ مِنَ الولِيِّ لِنُطْفةِ وَلِيَّتِه، ((وأَنْكِحوا إليهم))؛ أي: زَوِّجوا مَن تتوَلَّوْنَهُمْ من البَناتِ والأخَواتِ أيضًا بالأَكْفاءِ، أو اخْطُبُوا بَنَاتِ الأكْفاءِ لكم ولأولادِكم.
يا عباد الله، وللتوافق الزوجي عوامل تؤثر فيه، منها عوامل متعلقة بالزوجين؛ مثل:
• التنشئة الأسرية لهما، فاستقرار الأسرة التي انحدر منها الزوجان له ارتباط وثيق يؤثر غالبًا في التوافق بينهما.
• مدى النضج والرشد في شخصيتهما، وإدراكهما وقدرتهما على تحمُّل المسؤوليات.
وهناك عوامل غير متعلقة بالزوجين؛ مثل:
• علاقتهما بأهل الزوجة وأهل الزوج، ومدى استقلاليتهما في إدارة شؤونهما الأسرية.
• الإعلام وأثره على علاقتهما.
• ظروف العمل وطبيعته لكلا الزوجين، وأثره في علاقتهما.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي نبيه وسنته -صلى الله عليه وسلم- أقول قُولِي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، وَصَلَّى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ))؛ رواه البخاري، أما بعد:
إن اجتماع الزوجين على ما يرضي الله تعالى هو أعظم أساس لبناء السعادة في الأسرة المسلمة، فالله وحده تعالى هو الذي يؤلف بين القلوب ويجمع بينها، وطاعته لها أثر كبير في سيادة الأُلْفة والمحبة، والتوافق بين الزوجين، وتأمل معي في الصورة الرائعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تبين حلاوة هذه العلاقة: ((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت رش في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى رشت في وجهه الماء))؛ رواه أبو داود.
والسؤال هنا يا عباد الله: لماذا لا يشعر الزوج أو الزوجة بالاستمتاع في الحوار أو الجلوس أو السفر كل منهما مع الآخر؟ وللجواب على مثل هذا السؤال علينا الحرص على التوافق بين الزوجين، والسعي في نجاح العلاقة بينهما، ويكون ذلك:
أولًا: مراقبة الله سبحانه في علاقتهما مع بعض، والبعد عن المعاصي فهي طريق كبير للتعاسة وتنافر القلوب.
ثانيًا: من الضروري جدًّا محبة الطرف الآخر لذاته، فإذا تم العثور على أي عيوب أو نقاط ضعف في الشريك الآخر، فإن التوافُقَ يكون بخلق بيئة ممكنة للتعايش معه، وليس التأثير والإجبار على التغيير ضد إرادته.
ثالثًا: وجود ثقة ملموسة بينهما، بينما انعدام الثقة هو نتاج الشك، وسوء الظن في الحب بينهما.
رابعًا: التوافق في تحقيق أهداف مشتركة في التعليم والتربية وبناء البيت، مع الاهتمام بنفس الهوايات والمهارات والمواضيع التي يتبنَّاها الطرف الآخر.
خامسًا: السعي في حل الخلافات وعدم تراكمها، دون تصعيد في النزاعات، أو تسفيه للطرف الآخر، وإن احتاجا إلى مُصلِح أمين فلا مانع من ذلك.
سادسًا: احترام أهل وأسرة كل طرف، والتواصُل معهم بحبٍّ ومودَّة، حتى وإن كان بعضهم سيِّئ الطِّباع.
سابعًا: التضحية هي قمة كل علاقة ناجحة، من حيث تلبية احتياجات الطرف الآخر، وإشباع رغباته.
هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله، على نبيكم؛ استجابة لأمر ربكم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأعلِ بفضلكَ كلمةَ الحق والدين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهم وَفِّقْه لِمَا تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، وإلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهما البطانة الصالحة، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها، وقيادتها، وأمنها، ورخاءها واستقرارها، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم اجعلها دائمًا حائزةً للخيرات والبركات، سالمة من الشرور والآفات، اللهم اصرف عَنَّا شر الأشرار وكيد الفجَّار، وشرَّ طوارق الليل والنهار، رُدَّ عَنَّا كيدَ الكائدين، وعدوانَ المعتدين، ومكرَ الماكرين، وحقدَ الحاقدينَ، وحسدَ الحاسدينَ، حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ.
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف ذات بينهم، وأصلح قلوبهم وأعمالهم، واجمعهم يا حي يا قيوم على العطاء والسنة، يا ذا العطاء والفضل والمنة.
اللهم انصر جنودنا، ورجال أمننا، المرابطين على ثغورنا وحدودنا، اللهم تقبَّل شهداءهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وردهم سالمين غانمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127] ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، والمسلمين والمسلمات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].