الغفلة (خطبة)
الغفلة
الحمد لله الذي أيقظ قلوب المؤمنين بملازمة ذكره، وأنار عقولهم بتحقيق عبادته وشكره، وطمس بصائر الغافلين لإعراضهم عن نهيه وأمره، أحمده حمدَ مستمدٍ لنواله خاضعٍ لجلاله، خائفٍ من عواقب حلمه وإمهاله، وأشكره على جزيل فضله وإحسانه، وسوابغ نعمه وامتنانه.
والصلاة والسلام على من كانت العبودية شعاره، والذكر دثاره، ومراقبة الله معمور بها ليله ونهاره، صلى الله عليه وعلى آله أحباء القلوب، وصحابته الملازمين لذكر علام الغيوب، والتابعين لهم بإحسان على تلك الطرائق والدروب.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تستلزم دوام ذكره ومراقبته، وتنفي عن القلوب الغفلة عن حضرته، وأشهد أن محمدًا عبده الأواب، ورسوله الهادي إلى الحق والصواب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلامًا دائمَين متواليين بغير حساب.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله: إن مرض الغفلة من أخطر الأمراض، ومظهرها من أقبح المظاهر والأعراض، وهي (سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ)، أو هي (متابعة النفس كما تشتهي) وهي من صفة الكافرين لا من صفة المؤمنين، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [النحل: 106 – 108]، بل أن صاحبها ينزل من رتبة الإنسان إلى رتبة الحيوان، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
وهي سبب عظيم من أسباب الضلال والانصراف عن الهداية، قال تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146].
وسبب من أسباب عقوبة الدنيا وسوء الخاتمة، قال تعالى يذكِّر آل فرعون حين ذكّرهم بالآيات فلم يتذكروا بها: ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 136].
وهي كذلك من أهم أسباب دخول النار قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾ [يونس: 7].
وبسببها يتسلط الشيطان على الإنسان، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا دخلَ الرجل بيتَه فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم العشاء»[1].
وهي أيضًا سبب لرد الدعاء وعدم الاستجابة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى من بَعْضٍ، فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ عز وجل أَيُّهَا الناس فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، فإن اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عن ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ »[2].
ولهذه الأضرار والمفاسد وغيرها حذرنا الله تعالى من الغفلة فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، فأمر بالذكر ونهى عن عكسه وهي الغفلة، بل إن الله أمرنا بأن نكون من أهل الذكر و أن نُصبِّر أنفسنا معهم، ونهانا عن مصاحبة أهل الغفلة واستماع قولهم أو اتباع أمرهم فقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
يقول ابن القيم رحمه الله:
(لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد للوصول إلى البيت)[3].
ويقول: (الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشه لا تزول إلا بالذكر)[4].
الخطبة الثانية
الحمد والثناء والوصية…
أسباب الغفلة:
أسباب الغفلة كثيرة، ومنها:
أ) الجهل.
ب) الذنوب: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 14، 15]، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « تُعرض الفتن على القلوبِ كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلبٍ أُشربها نُكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعودَ القلوبُ على قلبين: قلبٍ أسود مُرباد كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه، و قلبٍ أبيضَ فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض”[5].
ج) الانخراط في اللهو واللعب: قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [لقمان: 6، 7].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما اجتمعَ قومٌ فتفرقوا عن غير ذكر الله إلَّا كأنما تفرقوا عن جيفةِ حمارٍ وكان ذلك المجلسُ عليهم حسرةً »[6].
علاج الغفلة:
1) العلم.
2) سماع القرآن.
3) سماع الموعظة.
4) مخالطة الصالحين.