الفروق بين المتشابهات
الفروق بين المتشابهات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن هناك أفعالًا متشابهة ولكن بينهما فوارق بعضها مذمومٌ وبعضها ممدوح، وقد يخفى ذلك على بعض الناس، فيخلط بين الأمور، مثل المداهنة والمداراة والبخل والاقتصاد والشجاعة، والتهور والحلم والضعف والذلة والتواضع، وهكذا، فعلى سبيل المثال المداهنة وردت النصوص الشرعية بالنهي عنها؛ قال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [القلم: 9]؛ أي توافقهم على بعض ما هم عليه؛ إما بالقول أو بالفعل، أو بالسكوت عما يتعيَّن الكلام فيه.
قال بعضهم: المداهنة: هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصانعة الكفار والعصاة والظلمة من أجل الدنيا، والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين، مثل الاستئناس بأهل المعاصي والكفار، ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم، وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه؛ قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].
أما المداراة فهي درء المفسدة والشر بالقول اللين، أو الأعراض عن صاحب الشر إذا خيف شرُّه، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس له، كالرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تأليفه.
والمداراة لا تتنافى مع الموالاة إذا كان فيها مصلحة راجحة للمسلمين من كف شر الكفار في حال قوتهم، أو تأليفهم في حال قوة المسلمين أو تقليل شرهم؛ قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125]، فالمداراة جائزة؛ لأنها لأجل الدين، أما المداهنة فلا تجوز لأنها لأجل الدنيا.
والبخل والاقتصاد بينهما كذلك فرق كبير، فالبخل وردت النصوص بالنهي عنه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[1]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من البخل كما في الصحيحين[2].
والبخل من أشد الصفات المذمومة، وصاحبها ممقوت عند الله وعند خلقه، والبخل المنهي عنه المذموم صاحبه هو أن يمنع ما يحب عليه من الحقوق، ومن منع الفضل فقط فقد أساء، وإن كان لا يصل إلى درجة مانع الحقوق، وكلاهما درجات متفاوتة.
أما الاقتصاد فهو مأمور به؛ قال تعالى مادحًا عباده المقتصدين: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، قال ابن كثير: والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا؛ أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة ولا بُخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29].
وهذا هو التوسط المأمور به؛ لا بخل ولا إمساك ولا إسراف ولا تبذير، ولكن بين ذلك، قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامًّا للبخل ناهيًا عن الإسراف: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً﴾؛أي لا تكن بخيلًا منوعًا لا تعطي أحدًا شيئًا، ﴿ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾؛ أي ولا تسرف في الإنفاق، فتعطي فوق طاقتك، وتُخرج أكثر من دخلك ﴿ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾؛ أي: فتقعد إن بخلت ملومًا يلومك الناس ويذمونك، ويستغنون عنك؛ كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
وَمَنْ يَكُ ذا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ |
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تُنفقه فتكون كالحسير، وهي الدابة التي عجزت عن السير[3]؛ ا.هـ.
وكذلك هناك فرق بين الشجاعة والتهور، ويجمعهما الإقدام، أما الشجاعة فقال ابن حزم: هي بذل النفس للذود عن الدين والحريم وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعمن هُضِمَ ظلمًا في المال والعرض، وسائر سبل الحق، سواء قل من يعارض أو كثُر[4]، أما التهور فهو الإقدام على ما لا ينبغي الإقدام عليه من المهالك، وهو بذل النفس فيما يمنع منه الشرع والعقل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.