القرآنيون وفتنة نبذ السُّنَّة (خطبة)


القرآنيون وفتنة نبذ السُّنَّة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

 

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: ما من خيرٍ إلا دلَّنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من شرٍّ إلا حذَّرنا منه، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الفتن ستقع متتابعة، وأن لها أتباعًا هالكين، وأن منها سالمين ناجين، ومن تلك الفتن التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة وصلت إلينا، ووقع في حبائلها بعض إخواننا؛ وهي فتنة إنكار السُّنَّة النبوية، وترك العمل بها، إذا قلت للشخص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لك: دعنا من قال رسول الله، وأعْطِنا من القرآن، يقول لك: اترك السُّنَّة، وخُذِ القرآن، يقول لك: أنا لا أعترف بدليل إلا من القرآن، وأي دليل ليس في القرآن لا أعترف به، حتى السُّنَّة لا أعترف بها، ولو كانت صحيحة، بل لو كانت في أعلى درجات الصحة بأن يتفق على روايتها الإمامان البخاري ومسلم، يقول لك: ذلك المفتون أنا لا أعترف بها، نسأل الله العافية.

هذه الفتنة قديمة، وردَّ عليها أئمة السُّنَّة ودَحَضُوها، لكن تجددت الدعوة إليها هذه الأيام، والداعي إليها منا، ومن بني جِلْدَتِنا، فصارت هذه الفتنة هي الموضة الفكرية، والموجة الطاغية في هذه الفترة، التي ركبها بعض الجهلة المفتونين، نسأل الله العافية والهداية لنا ولهم.

عباد الله، لقد كان الخَلْقُ في جاهلية وظلمات، يعيشون كالأنعام بل أضل، لا يعرفون ربهم، ولا يعرفون كيف يعبدونه، تلبسوا بالشرك والفواحش الظاهرة والباطنة، ومساوئ الأخلاق، ونظر الله إليهم فَمَقَتَهُم وأبغضهم أشدَّ البُغْضِ، عربهم وعجمهم، إلا قليلًا منهم، ثم رحِمَ الله خَلْقَه، فأرسل إليهم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فعرَّفهم بالله تعالى، وكيف يعبدونه، وماذا يـحب، وماذا يُبغِض، وما جزاء الطائعين، وما جزاء العاصين، بيَّن لهم هذا، فأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغَواية إلى الرُّشد، ومن الضلالة إلى الهداية، فكانت بَعثة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة هي أعظم نعمة أنْعَمَ الله بها عليها؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وفرض الله عليهم طاعته، وجعل طاعتهم لرسوله طاعةً له سبحانه، فامتثل الصحابة رضي الله عنهم ومن اتبعهم بإحسان، امتثلوا أمر الله، فامتثلوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر، وصدَّقوه فيما أخبر، وما زال أئمة السُّنَّة على طاعة رسول الله إلى أن تقوم الساعة، وحدث في الأمة مَن تَرَكَ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأنكرها، وزعم أنه لا يعترف إلا بالقرآن، أما السُّنَّة فلا يعترف بها.

فيا للعجب من حال أولئك! ألم يأمرنا الله سبحانه في القرآن بطاعة رسوله فقال: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 131، 132]؟

ألم يقل الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]؟

قال الإمام عطاء بن أبي رباح رحمه الله: “طاعة الرسول اتباع الكتاب والسُّنَّة”.

ألم يقل سبحانه: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92]؟

ألم يقل سبحانه: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]؟

أما قال الله سبحانه: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [التغابن: 12]؟

كيف لنا يا عباد الله أن نترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته طاعة لله؟

قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].

كيف نترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]؟ قال الحسن البصري: “علامة حبِّهم الله: اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم”.

الكفار هم الذين يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارًا، مكابرةً وعنادًا، فكيف يرضى المؤمن أن يتشبَّهَ بالكفار في ذلك؟ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20، 21].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجُرهم عن مخالفته والتشبُّه بالكافرين به، المعاندين له؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ ﴾ [الأنفال: 20]؛ أي: تتركوا طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، ﴿ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]؛ أي: بعدما علمتم ما دعاكم إليه”؛ [انتهى كلامه رحمه الله].

أمَا عَلِمَ تاركُ السُّنَّة أنه عرَّض نفسه للفتنة؟ فإن تارك السُّنَّة الذي لا يعترف بها لا يزال الشيطان يستدرجه، فيترك شرائع الإسلام شيئًا فشيئًا، حتى يُـخرِجه من الإسلام والعياذ بالله، وسمعنا عن بعض أولئك الذين تركوا السُّنَّة، ودعوا إلى ترك السُّنَّة، سمعنا عن بعضهم أنه ترك الصلوات الخمس المفروضات، والعياذ بالله؛ وتحقَّق فيه قول الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].

قال الإمام أحمد: “الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلِك”.

فيكون معنى هذه الآية: فليحذر الذين يخالفون سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، وطريقته، وسنته، وشريعته – أن يُطبَع على قلوبهم، فيقعوا في الشرك والكفر، نسأل الله العافية.

لذلك أمرنا الله بطاعة رسوله؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32].

بل خاف سلف الأمة على من ترك سُنَّةً واحدةً أن يطبع الله على قلبه؛ قال الحسن بن صالح رحمه الله: “إني لَخائف على من تَرَكَ المسح على الخُفَّينِ أن يكون داخلًا في هذه الآية: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]”.

يخاف على من ترك سنة واحدة أن يطبع الله على قلبه، إذًا ما هو حال من ترك السُّنَّة كلها، وزعم أنه لا يعترف إلا بالقرآن؟

هذه عاقبته في الدنيا، طبع على القلب، وضلال، وربما كفر، وشرك، أما في الآخرة فيُخشى عليه من النار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].

عن الإمام مالك رحمه الله قال: “كان عمر بن عبدالعزيز يقول: سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سُنَنًا، الأخذُ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله ما تولَّى، وصَلَاه جهنم وساءت مصيرًا”؛ [انتهى كلامه رحمه الله].

فإذا كان ترك السُّنَّة – يا عباد الله – ضلالةً في الدنيا، وخسارةً في الآخرة، فإن التمسك بالسُّنَّة هداية وفلاح في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 52].

اللهم اجعلنا من المتَّبعين المهتدين الفائزين، ولا تجعلنا من الْمُعْرِضين الضالِّين الخاسرين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى؛ أما بعد:

فيا عباد الله: وقعت قصة في زمن الصحابة، رواها أحمد في المسند، والبخاري ومسلم، فهذا الصحابي العالم الحَبر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يلعن الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والـمتفلِّجات للحسن – أي اللاتي يفرقن بين أسنانهن لأجل التزيُّن – الْمُغَيِّرات خلقَ الله عز وجل، فجاءت إليه امرأة فقالت له: بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ، قال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله – يعني أن من فعلت هذا ملعونة على لسان رسول الله وملعونة في القرآن – فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته – تقول: قرأت القرآن كاملًا ما وجدت فيه أن الله لعن من فعل هذا – فقال ابن مسعود: إن كنتِ قرأتِه فقد وجدتِه؛ أمَا قرأتِ: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ [الحديث]، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يجعل ما حرمه رسول الله في السُّنَّة بمنزلة ما حرَّمه الله في القرآن.

تأملوا – يا عباد الله – قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]؛ قال الإمام البغوي: “أرادبالذكر الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبيِّنًا للوحي، وبيان الكتاب يُطلَب من السُّنَّة”؛ [انتهى كلام البغوي].

فيكون معنى الآية: وأنزلنا إليك القرآن لتوضح للناس ما خفِيَ من معاني القرآن وأحكامه، ولكي يتدبروه ويهتدوا به.

عباد الله: إن الله جل جلاله ذَكَرَ الفرائض والشرائع في القرآن مـجملةً عامةً، وبيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم، بوحيٍ من الله تعالى؛ فمثلًا قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، ولم يبين الله تعالى كيف نصلي، لكن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وبيَّن لنا صلى الله عليه وسلم أن الله فرض الصلوات الخمس، وبيَّن لنا بالتفصيل أوقاتها وشروطها، وفروضها والمنهيات فيها، وأخبرنا أن الفجر ركعتان، والظهر والعصر والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، وشرع لنا الأذان والإقامة، وغير ذلك من أحكام الصلاة، وقال تعالى: ﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، ولم يفصِّل أحكامها، لكن فصَّلها لنا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرنا – مثلًا – أن الزكاة واجبة في الإبل والبقر والغنم السائمة دون الـمعلوفة، وأنه لا زكاة فيما دون خمسة أوسق من الخارج من الأرض، وأن زكاة ما يُسقَى بالمطر العشر، وغير ذلك من الأحكام، وقال تعالى عن صيام شهر رمضان: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وفصَّل لنا النبي صلى الله عليه وسلم جميعَ أحكام الصيام؛ من ذلك: أن من لم يبيِّتِ النية لم يصحَّ صومه، وأن الصائم إذا سابَّه أحد يقول: إني صائم، وغير ذلك من الأحكام.

وقال الله في القرآن: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، لكنه لم يفصِّل لنا الحج، فحجَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((خذوا عني مناسككم))، وأخبرنا بما أوحى الله إليه أن الوقوف بعرفة ركن الحج الأكبر، ولا يجوز الخروج قبل غروب الشمس، وأن المبيت بمنًى واجب، وغير ذلك.

وقال تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، ولم يفصِّل في البيع والربا، وفصَّل في ذلك، وبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، بما أوحاه الله إليه، فنهانا – مثلًا – عن بيع الحصاة، وعن بيعتين في بيعة، ونحو ذلك لا يحل، وأخبرنا أن كل قرض جرَّ نفعًا، فهو ربًا.

وشرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم شرائعَ أخرى كثيرة، أوحاها الله إليه؛ من ذلك أن الأب يعُقُّ عن المولود يوم سابع، وأن تغسيل الميت وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية، وأنه لا يحل الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وأن القاضي لا يقضي وهو غضبان.

وهكذا كل الشريعة أصلها في القرآن، وتفصيلها في السُّنَّة، وربما جاء في السُّنَّة أحكام غير موجودة أصلًا في القرآن الكريم، فإذا تركنا السُّنَّة، فهذا يعني أننا تركنا ديننا.

فاسألوا ذاك الذي يقول: لا أعترف بالسُّنَّة، هل نترك هذه الأحكام التي أوحاها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بحُجَّة أنها غير مذكورة في القرآن؟

أيها المؤمنون: احفظوا هذا الحديث الذي هو من دلائل وعلامات النبوة؛ فعن المقدام بن معديكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألَا إني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه، ألَا يُوشِكُ رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، وإنَّ ما حرم رسول الله كما حرم الله))؛ [الحديث].

أيها الموفَّقون: لقد حضَّنا الله على التأسِّي برسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به؛ فقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، فكيف نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تركنا السُّنَّة النبوية، ولم نحتجَّ بها؟

ختامًا: تذكَّروا – يا عباد الله – أن الله وَعَدَ بحفظ القرآن؛ فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، والسُّنَّة النبوية تابعة للقرآن؛ لأنها بيان وتوضيح له كما تقدم؛ فتكون السُّنَّة بهذا محفوظة، كما حفظ الله أصلها، وهو القرآن.

وقد حقَّق الله هذا الوعد؛ فسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم حفِظها الصحابة في صدورهم، وحفظها بعضهم بكتابتها؛ كما فعل عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وغيره، ثم جاء التابعون فحفِظوا وكتبوا، لكن كانت السُّنَّة المكتوبة متفرقة، وأول من بدأ بجمعها وتدوينها وتصنيفها الإمام الزهري، ثم تتابع بعد ذلك جمعُ السُّنَّة التي كانت أصلًا محفوظة في الصدور والسطور من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاء نصف القرن الثالث إلا والسُّنَّة بكمالها وتمامها مجموعة مصنَّفة بأنواع التصانيف.

وبجانب التدوين برزت علوم الحديث التي تميَّزت بها أمة الإسلام؛ من علم الرجال، والجرح والتعديل، والعلل، ثم مصطلح الحديث؛ وهي علوم تحوي قواعدَ صارمةً لدراسة أسانيد الحديث، وضبط أسماء رجال الإسناد، ومعرفة حالهم، وتمحيص متون الحديث النبوي، فلا يُقبَل أي حديث حتى يتم فحصه، والتفتيش في سنده ومَتْنِهِ، فيُقبل الذي توفَّرت فيه شروط الصحة، ويُرَدُّ ما سوى ذلك، ولا يوجد حديث يُنسَب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد دخل تحت مجهر أئمة الحديث، فصار حكمه معروفًا للأمة، وهذا العلم النقدي التثبُّتي هو من مفاخر أمة الإسلام، ومما تميزت به، واعترف بذلك المفكرون الْمُنْصِفون من غير المسلمين.

فتمسكوا – يا عباد الله – بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها وحيٌ من الله، وهي بيان للقرآن، والمنبع الثاني لأحكام الشريعة؛ ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، فلا يتركها إلا ضالٌّ، نعوذ بالله من الضلالة.

ألَا وصلوا رحمكم الله على من أُمِرْتُم بالصلاة عليه.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
أخبار الخليج | رئيس الجامعة الأهلية يدشن كتابه «بيوت وقرى البحرين القديمة»
كتاب وأقلام – الرأي – صحيفة الجزيرة