الوفاء (خطبة)
خطبة: الوفاء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرَضين، أرسل رُسُلَه حُجَّة على العالمين؛ ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلِك من هَلَكَ عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على الْمَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، واستنَّ بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله؛ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].
في زمن انشغل الناس بتعقيدات الحياة اليومية، في سبيل تحصيل الأمور المعيشية، وانقلاب حياتهم إلى حياة مادية، فأصبحت العلاقات الشخصية مبناها على المصالح الدنيوية، فيحسن التذكير بمكارم الأخلاق التي بُعِثَ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث اليوم عن سمة من سمات الأخلاق الكريمة، وصفة من صفات النفوس الأبِيَّة، صفة اتصف الله جل جلاله، ومدح بها إبراهيم خليله وسائر أنبيائه، عليهم الصلاة والسلام، وامتدح بها الصالحين من عباده، إذا انتشرت هذه الصفة بين الناس، امتلأت حياتهم بالصفاء والنقاء، وأظلتهم روح المودة والمحبة والإخاء، وهذه مقاصد شريعتنا الغرَّاء؛ ذلكم الخُلُق – عباد الله – خُلُقُ الوفاء، خلقٌ اتَّصف الله به تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 111]، وامتدح الله به إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، وجعله تبارك وتعالى من أوصاف البر التي تحلى بها المؤمنون؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ [البقرة: 177]، أمر الله بالوفاء في كتابه العزيز؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]، ووعد المتصفين به أكمل الجزاء وأوفاه.
عباد الله: الحديث عن الوفاء حديث شيق، يتصف بعذوبة المعاني وجميل المباني؛ لِما يتصل به من حسن الأدب، فيا سعادة من اتصف به وادَّخره ليوم المعاد، وما أحوجنا للكلام عنه في هذا الزمان، وتذكير الناس به؛ فإنه الطريق إلى البر، والسبيل لكل خير!
وأعظم الوفاء – عباد الله – الوفاء بعهد الله؛ بأن يُعبَد ولا يُجحَد، وأن يُوحَّدَ ولا يُشرَك به، وأن يُشكَر ولا يُكفَر، وأن يُوقَّر دينه ويُلتزم شرعه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40].
ومن ثَمَّ الوفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بصدق محبته، واتباع سنته، والتزام شريعته، والذود عنه، فجزاء من يفعل ذلك وُرُود حوضه صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم الوفاء، الوفاء مع الوالدين؛ فقد قَرَنَ الله حقهما بحقه تبارك وتعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، ومن المقرر عند العقلاء أنه كلما ازداد الإحسان، ازداد الوفاء، فتأمل: تعِب الوالدان لراحتك، وسهِرا لنومك، حملتك أمك وهنًا على وهن، ومع هذا اشتاقت لك، وأحبتك، وكدح الوالد لتحصيل عيشك، فمن الوفاء لهما الدعاء لهما؛ كما علمنا ربنا: ﴿ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، وطاعتهما في غير معصية، وفعل الجميل لهما، وإدخال السرور على نفوسهما، هذا في حياتهما، وبعد وفاتهما الدعاء لهما، وإنفاذ وصيتهما، وإكرام صديقهما؛ جاء رجل من بني سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل بقِيَ من بِرِّ أبويَّ شيء، أبَرُّهما بعد موتهما، قال عليه الصلاة والسلام: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصِلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرام صديقهما)).
وانظر إلى فعل ابن عمر رضي الله عنه، حين مر عليه أعرابي فقال له ابن عمر: ألستَ فلانًا بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه ابن عمر دابة كان يركبها، وقال: اركبها، ثم أعطاه عمامته، وقال: اشدُد بها رأسك، فقال بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي دابة كنت تروح عليها، وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أبر البر صِلَة الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يُولي))، وإن أباه كان صديقًا لعمر؛ [رواه مسلم].
وكلما كثُر الاختلاط بين اثنين، وكثر بذل أحدهما للآخر؛ من أخٍ وزوج وصاحب، لزِم إعطاؤه قدرَه، فلو تأملت في أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وعِظَمِ وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها؛ حيث كان يشكرها في إحسانها، وظل بعد موتها يذكرها؛ قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة، لم يَكَدْ يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها يومًا، فحملتني الغَيرة، فقلت: لقد عوَّضك الله من كبيرة السن، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وقال: كيف قلتِ؟ ثم بدأ يذكر محاسنها ومحامدها، والله لقد آمنت بي إذ كذب الناس بي، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزقت منها الولد))، وكان يتعاهد أصدقاءها بالهدايا، ويَهَشُّ ويَبَشُّ لمقدِمِهن، وقال عن إحداهن: ((كانت تأتينا أيام خديجة))، وكان يجل أختها هالة.
قال النووي رحمه الله: وهذا كله دليل لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب، ولما خُوصم أبو بكر، غضِب النبي عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وذكَّر بحق صاحبه رضي الله عنه وفاءً له، فقال: ((يا أيها الناس، إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي))، فما أُوذِي بعدها.
ومن الوفاء الوفاءُ لأهل العلم عمومًا، ومعلميك خصوصًا؛ فالعلم نور به يميز الإنسان الخطأ من الصواب، ويتعلم فيه المرء كريم الخِلال والخِصال، فكيف يكون الوفاء مع هؤلاء الأفذاذ؟ حقُّهم كبير، والغافل عن حقهم كثير، فالسؤال عنهم وتقبيل رؤوسهم، والسعي في حاجاتهم، والدعاء لهم، وذكر محاسنهم، والذب عن أعراضهم، والإهداء لهم ومراسلتهم – من صور الوفاء لهم ولغيرهم، وحين تقلب سِيَرَ العلماء، تجد أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول: “ما مددت قدمي تجاه بيت حماد وإن بيني وبينع سبع سكك؛ إجلالًا له”، وقال: “والله ما صليت صلاة من أن مات حماد إلا ودعوت له مع والدي؛ برًّا بشيخي”، وكذا الإمام أحمد يقول: “ما بتُّ ليلة منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له”.
عباد الله:
الوفاء لا يكون فيما تحب من الأفعال والأقوال، بل حتى فيما تكره؛ اسمع وفاء أبي بكر رضي الله عنه، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خولة زوجة عثمان بن مظعون لتخطب له عائشة رضي الله عنهم، ثم ذهبت لبيت أبي بكر رضي الله عنه، فقالت: يا أم رُومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عائشة رضي الله عنها، قالت أم رومان: انتظري حتى يأتي أبو بكر، فلما جاء قيل له الخبر، فقال: كيف يخطِبها وأنا أخوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو أخي وابنته تصلح لي))، فرجعت فأخبرت أبا بكر، فقال: انتظري ومضى – وحال خولة: أفي تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظار؟ فقالت أم رومان تجلو الموقف لخولة: إن الْمُطْعِمَ قد ذكر عائشة على ابنه، والله ما وعد أبو بكر وعدًا قط وأخلف، ذهب أبو بكر إلى المطعم، وقال: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ قال: لعلنا إن أنكحنا إليك هذا الفتى، تدخله في الدين الذي أنت عليه، فطار أبو بكر فرحًا بما سمع، فسبحان الله ما أعظم وفاءهم! يتوقف عن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفاءً لكلامه مع مشرك.
الوفاء لا يختص بأهل الإيمان بعضهم مع بعض، بل حتى مع الكفار، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد الطائف، دخل في جوار الْمُطْعِمِ، فما نسِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجميلَ؛ ولذا لما جاءت غزوة بدر قال متذكرًا جميله ومعلمًا صحابته الكرام الوفاءَ؛ كما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسرى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنَى، لَتركتُهم له))؛ [رواه البخاري]، قال تعالى في وصف أهل الإيمان: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، وعلى أصحابه الغر الميامين؛ أما بعد عباد الله:
فمن فضائل الوفاء أنه مُعِين على تجاوز أخطاء الناس ومسامحتهم، فلما خالف حاطبُ بن أبي بلتعة أَمْرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل لإبلاغ كفار قريش بمقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، تكلم الناس في حاطب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بفضله وأنه من أصحاب بدر: ((وما يدريكم لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم)).
عبدَالله:
الوفاء من أعمال البر الصالحة، لا تصرف إلا لله، فلا تعملها لأجل الناس، ولا تتطلع يا صاحب المعروف للوفاء، فالوفاء في الناس قليل؛ وقال الشافعي رحمه الله: “أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدرًا لنفسه، وأكبر الناس فضلًا من لا يرى فضله”، وهذا معين على عدم مؤاخذة الناس.
عبدَالله، يا كريمَ الخلق، كلما ازداد خلقك كرمًا ونبلًا، ازددتَ وفاءً للناس.
عبدَالله: من الخطأ الكبير أن بعض الناس يذكر فضل البعيد والصاحب، وينسى فضل القريب من الوالد والأخ والزوج، فما أعظم هذا الإجحاف! فبقدر الفضل يكون الوفاء، رزقنا الله وإياكم حسن الوفاء.