الوقف: آدابه وأحكامه


الوقف: آدابه وأحكامه[1]

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي الحنيف دينٌ يدعو إلى تقوية رابطة الاتحاد بين أفراده، وتقوية علاقات الاجتماع بين أتباعه، ويحذِّر من أسباب التفرق الظاهر والباطن بين المسلمين؛ ولأجل ذلك كان في عقائده وأحكامه وآدابه ما يدعو العمل به إلى ترسيخ الأُخُوَّة والمحبة والتآلف والتكافل داخل المجتمع المسلم.

 

ومن ذلك: أنه شرع الإحسان الماليَّ من المسلم لإخوانه المسلمين، ورتَّب على ذلك أجورًا عظيمة للمحسنين، فليس المسلمون كلهم أغنياء، بل فيهم الغني وفيهم الفقير، لِحِكَمٍ يعلمها ويقدِّرها الحكيم البصير؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 30].

 

ألَا وإنَّ من صور الإحسان المالي – معشر المسلمين – حبس جزء من المال من عقار وغيره، على جهة من الناس لينتفعوا به مع بقائه؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى، وهو ما يسمى في المصطلح الفقهي بـ”الوقف”.

 

أيها المؤمنون، إن الوقف ابتغاءَ مرضاة الله عملٌ صالح من أجَلِّ الأعمال الصالحات، وصدقة جارية من أعظم الصدقات، وقُربة جليلة من خير القُرُبات.

 

قال الله تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، والوقف من أفعال الخير التي يُرجى بها الفلاح.

 

والوقف عملُ بِرٍّ يبقى خيره للإنسان بعد مماته، ويُجري له الحسنات إلى قبره، وعمل نافع يجعل الله به الثناء على صاحبه بعد وفاته، والدعاء له بين خَلْقِهِ.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[2].

 

وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحَقُ المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشَره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته))[3].

 

قال بعض أهل العلم:

 

ومن فضل الوقف – يا عباد الله – أنه عمل صالح فيه طُعْمة لفقير جائع، وسُقيا لمسكين ظمآن، وكُسوة لعارٍ، وتنفيس عن كربات المكروبين، وكفاية حاجة المحتاجين، وإعانة على عبادة الله وتعلم دينه الحنيف.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((… ومن فرَّج عن مسلم كربةً، فرَّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة))[5].

 

وقال عليه الصلاة والسلام: ((في كل كَبِدٍ رَطِبَةٍ أجرٌ))[6].

 

وقال عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس؛ يكشف عنه كربةً، أو يقضي عنه دينًا، أو يطرد عنه جوعًا، ولَأَنْ أمشيَ مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد – مسجد المدينة – شهرًا))[7].

 

والوقف – أيها الأخيار – وضعٌ للمال في كفِّ الرحمن التي لا يضيع خيرٌ أُودع فيها.

 

بل الوقف هو مزرعة خيرات كثيرة الثمرات تجني لصاحبها الحسنات الدائمة ما بقِيَ ذلك الوقف وانتفع الناس به.

 

عن مطرف، عن أبيه رضي الله عنه قال: ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1] قال: يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبِستَ فأبليت، أو تصدقتَ فأمضيت؟ وما سوى ذلك، فهو ذاهب وتاركه للناس))[8].

 

ولما علم الصحابة رضي الله عنهم فضل الوقف وكثرة الخير المترتب عليه، بادر كلُّ مَن له سعة منهم إلى وقف بعض أموالهم في سبيل الله.

 

قال جابر رضي الله عنه: “لم يكن أحدٌ ذو مقدرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقف”[9].

 

قال الشافعي رحمه الله: “بلغني أن ثمانين صحابيًّا من الأنصار تصدقوا بصدقات محرَّمات”، والشافعي يسمي الأوقاف: الصدقات المحرَّمات[10]؛ يعني: الممنوعات التي يحرُم التعدي عليها خلافًا لشرط الواقف.

 

فهذا عمر رضي الله عنه يُوقِف ماله بخيبر؛ فعن ابنه عبدالله ((أن أباه أصاب أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أحب إليَّ ولا أنفس عندي منها، وإني قد أردت أن أتقرب بها إلى الله عز وجل، فما تأمر فيها؟ قال: إن شئت حبستَ أصلها وتصدقت بها، وفي رواية: احبِسْ أصلها وسبِّل ثمرتَها))[11].

 

وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يُوقِف سلاحه في سبيل الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن خالدًا احتبس أدرِاعه في سبيل الله))[12].

 

وهذا أبو طلحة يسابق في الوقف بجود عظيم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كان أبو طلحة أكثرَ الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبِلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب، فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث شئت، فقال: بَخٍ، ذلك مال رائح، ذلك مال رائح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين، قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه))[13].

 

أرأيتم – يا عباد الله – حرصَ الصحابة رضي الله عنهم على الوقف، ومسابقتهم إليه؟

 

أيها الإخوة الكرام، ما الشيء الذي يُوقَف، وما الجهة التي يُوقَف عليها؟

 

إن الشيء الذي يوقف هو: ما فيه نفع مستمر للناس؛ كالعقار من أرض أو مزرعة، أو بيت أو عمارة، أو حانوت، ومنه وقف مصحف أو كتاب مفيد، أو آلة نافعة، أو ريع مال يُنفق على صنف من الناس أو عمومهم؛ ابتغاء وجه الله تعالى، كمن لديه متجر أوقف أرباحه للنفقة على يتامى أو أرامل أو أقارب محتاجين.

 

وأما الجهات التي يُوقَف عليها فهي كثيرة؛ منها: الفقراء، كأن يبني الواقف عمارة ويجعل عوائدها على بعض الفقراء، أو يسكنهم فيها.

 

ومنها: الذرية، كأن يوقف الواقف إلى ما بعد موته أرضًا أو بيوتًا أو محلات تجارية على أولاده وأولادهم أو المحتاجين منهم؛ حتى لا يحتاجوا من بعده.

 

وهذا من صلة الرحم بعد الموت، وقد عمِله عدد من الصحابة وعمِلوا غيره من وجهات الوقف المحمودة؛ قال ابن قدامة المقدسي: “قال الحميدي: تصدَّق أبو بكر رضي الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برُومة، وتصدق عليٌّ بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وتصدق سعد بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده، وعمرو بن العاص بالوهط وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده، فذلك كله إلى اليوم”[14].

 

ومن الجهات أيضًا: عموم المسلمين أو الناس أغنياؤهم وفقراؤهم، كحفر بئر وإصلاح طريق، وبناء مشفى أو عيادة، وبناء مسجد أو دور تعليم كالمدارس والجامعات، وبناء دور لليتامى والعناية بهم، والتبرع بأرض لتكون مقبرة للموتى.

 

ووقف مال يعود رِيعُهُ على المساجد ومصالحها، والقائمين عليها، وطلبة العلم ومعلميهم، والدعوة إلى الإسلام في بلاد المسلمين وخارجها.

 

فهذه ونحوها أبواب خير مفتوحة، فأين أرباب الأموال، الذين يطلبون لأنفسهم الخير يوم المآل؟

 

فيا باغي الخير أقبِلْ، وأنت تقدر قبل أن يُحال بينك وبين قدرتك على هذا الخير.

 

عباد الله، إن الوقف عملُ برٍّ، وعبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى؛ ولذلك لا يكون كذلك إلا بشروط تجعله صحيحًا.

 

فمن تلك الشروط: أن يكون الواقف جائزَ التصرُّف، عاقلًا بالغًا، وأن يكون الوقف مما يُنتفَع به انتفاعًا دائمًا مع بقاء عينه، وأن يكون الوقف على عمل برٍّ ومعروف، فلا يكون في شيء محرم.

 

وإذا تم الوقف بشروطه صار عقدًا لازمًا فلا يجوز حينئذٍ بيع الموقوف ولا هِبتُه، ولا التصرف فيه، على خلاف ما وقف عليه، لا من الواقف ولا من غيره؛ لأنه قد غدا قربة لله تعالى وخرج عن ملك الواقف؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في وقف أبيه وفيه: ((قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يُباع أصلها، ولا يُبتاع، ولا يُورَّث، ولا يُوهَب))[15].

 

غير أنه إذا تعطَّل الوقف، أو خرِب، ولم تعُد فيه المنفعة التي وقفه الواقف لأجلها، فإنه يجوز بيعه واستبداله بوقف آخر باقي المنفعة، أو تحويله إن كان منقولًا إلى حيث تحصل به منفعة؛ لأن المقصد الشرعي أن يبقى في الموقوف النفعُ، ويستمر للواقف الأجرُ.

 

أيها الإخوة الكرام، إن الوقف أمانة من أعظم الأمانات، ومسؤولية من أجل المسؤوليات، فيا شقاء من خان في هذه الأمانة، وقصَّر في حق هذه المسؤولية!

 

فيا من كان ناظرًا على وقف، ومسؤولًا عليه: اتَّقِ الله ربك في أداء هذه الأمانة، وإحسان العمل فيها، والقيام بما تحتاج إليه من الحفظ والتنمية والحراسة.

 

وإياك ثم إياك أن تخون فيها؛ فتأخذ منها لنفسك أو تهبها لغيرك ممن ليس من الموقوف عليهم.

 

وتذكر – أيها المسؤول على الوقف لقريب أو جار أو صاحب أو غيرهم – أن الخيانة في هذه الأمانة خيانة للأحياء والأموات، وليس للأحياء فقط، وإذا كان بمقدورك أن تخون هذه الأمانة لجهل الناس بها، أو قوَّتِك على أخذها، فتذكَّر أن الله سيحاسبك على كل صغير وكبير خُنْتَه في هذه الأمانة، ولن تنفعك يوم القيامة تلك الأموال التي أخذتها بالحرام من ذلك الوقف، ولن يفيدك الاعتذار بين يدي العليم الجبار؛ قال الله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقال: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [الروم: 57].

 

فإن لم تقدر – أيها الناظر والمسؤول على وقف من الأوقاف – أن تؤدي الأمانة في هذا العمل فدعه لغيرك، وسلِّم نفسك ودينك من تَبِعاتِه بين يدي الله.

 

عن عَدِيِّ بن عميرة الكندي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من استعملناه منكم على عمل، فكتَمَنا مِخْيطًا، فما فوقه كان غُلُولًا يأتي به يوم القيامة، قال: فقام إليه رجل أسودُ من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: وما لك؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل، فلْيَجِئْ بقليله وكثيره، فما أُوتيَ منه أخذ، وما نُهِيَ عنه انتهى))[16].

 

نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا، وأن يُحسن خاتمتنا.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

أيها المسلمون، إن الوقف فيما يحب الله تعالى بابُ خيرٍ كبير، ومصدر أجر كثير، فيا من كان قادرًا على الوقف، بادِرْ قبل أن يبادرك الأجل فتتمنى وقتئذٍ أن لو رجعت إلى الدنيا لتعمل صالحًا ولا تُعطى ما تمنيت، واسمع هذا الحديث النبوي الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شِبَعَهُ ورِيَّه ورَوثَه وبَوله في ميزانه يوم القيامة))[17]، يعني: ينقلب كل ذلك حسنات له في ميزانه.

 

هذا في فرس، فكيف بمن أوقف شيئًا أكبر منه، وكيف إذا كان هذا الوقف مما تدوم منفعته ولا يموت؟

 

وانظروا – رحمكم الله – كيف يحرص المنصِّرون وأصحاب الباطل في العالم على الأوقاف التي ينصرون بها باطلهم، ويُخرجون بها المسلمين عن دينهم، أو يفسدونهم أو ينحرفون بهم عن الطريق المستقيم، أليس المسلمون أولى أن يحرصوا مثل ذلك الحرص في نصرة الإسلام ونفع أهله؟

 

ويا من يريد الوقف في طاعة الله، أخْلِصْ عملك لله، ولا تبتغِ به عَرَضًا دنيويًّا من شهرة أو ثناء أو وصول إلى ربح دنيوي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له، وابتُغِيَ به وجهه))[18].

 

ويا من يريد الوقف، تحرَّ في وقفك ما أباح الله وأحب، وإياك والوقفَ المحرم والمخالف لهَدْيِ نبيك عليه الصلاة والسلام، واستَشِرْ أهل العلم الأمناء وأهل الخبرة الصالحين؛ ليرشدوك وينصحوك فيما تريد وقفه، والجهة التي يُوقَف عليها.

 

ويا من يريد الوقف، احذر أن يكون وقفك من مال حرام أو ما فيه شبهة، بل اخْتَرْ من مالك أحلَّه وأطيبه؛ فإن ((الله طيب لا يقبل إلا طيبًا))[19]؛ كما قال رسول الله.

 

واحذر أيضًا أن يكون وقفك بقصد حرمان الوارثين أو بعضهم من حقهم المشروع.

 

فإذا كنت في حال صحتك، فالمال مالك تُوقِف منه وبه ما تشاء لغير وارث، ولكن عند مرض الموت أو الوصية لِما بعد الموت، فلك من مالك في هذا إلى حد الثلث، وما زاد على ذلك فموقوف على إجازة الورثة.

 

ويا من يريد الوقف، أحسِنْ اختيار الناظر لوقفك والقائم عليه – إن كان يحتاج إلى ذلك – بأن يكون من أهل الأمانة والقدرة؛ ليؤدي أمانتك إلى أهلها، ويحميها ممن يريد السطو عليها.

 

أيها الواقف يا من يبغي بوقفه وجه الله وتحصيل ثوابه، إياك أن تمُنَّ على الموقوف عليهم، وتباهي بفضلك وإحسانك إليهم، أو يصير منك منعٌ لبعض الناس من الاستفادة من وقفك لمشكلة جرت بينك وبين مَن منعتَ.

 

عباد الله، ليحذر كل امرئ منا من التعدي على مال الوقف، والتحايل للأخذ منه؛ فإن التعدي عليه عدوان على حق الواقف، وعلى حق الموقوف عليهم؛ ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

 

وأن نحذر من يعتدي على الوقف عاقبة فعله؛ حتى يكُفَّ عن اعتدائه؛ فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

فيا أيها المسلمون، إن الحياة الدنيا فانية، وإن الأوقاف الصالحة من الأعمال الباقية؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾ [يس: 12]، فلنسارع إلى هذا الخير ما استطعنا، ولنجعله في مرضاة ربنا، ونحذر الميل به إلى الحرام، أو إلى ما يُسخِط الله علينا.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا لنا من العمل الصالح الدائم نصيبًا.

 

هذا، وصلوا وسلموا على خير البشرية.


[1] ألقيت في مسجد الشوكاني في: 14/ 7/ 1445هـ، 26/ 1/ 2024م.

[3] رواه ابن ماجه، وهو حسن.

[4] شرح السيوطي على مسلم (4/ 228).

[7] رواه الطبراني في المعجم الصغير، وهو حسن.

[8] رواه مسلم وأحمد وغيرهما.

[9] المبدع في شرح المقنع (5/ 151).

[10] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (3/ 523).

[11] رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.

[14] المغني لابن قدامة (6/ 4).

[17] رواه البخاري.

[18] رواه النسائي، وهو حسن صحيح.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – JUNTOS PUEDEN ALCANZAR EL ÉXITO 🙏 #actitud #frases #estoico #creenti #juntoslolograremos #exito
مكتبه السلطان – 인생에서 운이 좋아질 때 나타나는 5가지 특징 #shorts