بيان الربح والخسر كما في سورة العصر
بيان الربح والخُسْر كما في سورة العصر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يُقرِّب إلى النار، اللهم آمين.
عباد الله، كثير مِنَّا من يظن أن الخسارة في الأموال والتجارة، أو أن الخسارة في فَقْد الأولاد وذوي القرابة، أو أن الخسارة في فوات منصب أو جاه أو نحو ذلك، وهذا نوع من الخسارة يوشك أن يعوض بالسعي في أسباب الربح الدنيوية، في حين أن الخسارة الحقيقية خسارةُ الآخرة، الخسارة يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة.
وهذه مجموعة من صفات الخاسرين في الدنيا ويوم الدين، منهم من كذَّب بالآخرة، قال سبحانه: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: 45]، ومنهم من والَوا الشياطين، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119].
ومنهم من يقتلون أولادهم، خشية الفقر ونحوه، قال سبحانه: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 140].
ومن يعبدون الله على حرف، عبادة ضعيفة، وإيمان مهلهل، فيتركون عبادته سبحانه عند أدنى فتنة أو مصيبة، قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11].
ومنهم من لم يعبد الله جل جلاله، هذا خسر من؟ خسر نفسه وأهله وماله، قال سبحانه: ﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15].
ومنهم من اتخذ غير الإسلام دينًا، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
إذن فمَنْ هو الرابح؟
والجواب: لا أحدَ رابح إلا من اتَّصَف بصفات أربع، هي المذكورة في سورة العصر، قَالَ سبحانه وتَعَالَى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم* وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 – 3] فدلَّت السورة على أنَّ الْإيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَل.
﴿وَالْعَصْر﴾، ما معنى العَصْر؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنه الدَّهر، وهو الزمن الذي نعيشه، وإنما أقسم بالدهر؛ لأن فيه عبرةً للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم.
والمعنى الثاني: أنه وقت العَشِيِّ، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها.
والثالث: صلاة العصر؛ «زاد المسير في علم التفسير»؛ لابن الجوزي (4/ 487).
ولكن الأشهر من المعاني كما قال ابن كثير رحمه الله أن «الْعَصْر: هو الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ حَرَكَاتُ بَنِي آدَمَ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ»؛ تفسير ابن كثير- ت السلامة» (8/ 480).
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، «والإنسان ها هنا بمعنى الناس،… أي إنَّ الناس كلَّهم في خسر وخسران، والخسر والخسران في اللغة هو هلاك رأس المال أو نقصه، والإنسان إذا لم يستعمل نفسه وعمره فيما يوجب له الربح الدائم، فهو في خسران؛ لأنه عمل في إهلاك نفسه وعمره، وهما أكبر رأس ماله»؛ «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي (4/ 487).
«فَأَقْسَمَ سبحانه وتَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ؛ أَيْ: فِي خَسَارَةٍ وَهَلَاكٍ»؛ «تفسير ابن كثير- ت السلامة» (8/ 480).
ويجوز له سبحانه أن يقسم بما شاء من عظيم خلقه، وعظيم مخلوقاته، لكن لا يجوز لأحد من خلقه أن يحلف بغير الله، أو بغير اسم من أسمائه…
فكل الناس في خسران وضلال ﴿إِلَّا﴾ وهنا استثناء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: آمنوا بالله، فيه إيمان بالله وتوحيد، وإخلاص خالٍ من الكفر والشرك والنفاق.
إيمان بالأركان الستة، وتوحيدُ الله بأسمائه وصفاته، فله الأسماء الحسنى والصفات العلا، فـ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وتوحيده في ربوبيته؛ بخلق الخلق وإيجادهم من العدم، من يخلق غير الله؟ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3].
وتوحيده في ألوهيته وعبوديته، فلا إله غيره، ولا معبود بحقٍّ سواه، ولا إله إلا الله، فلا نشرك بعبادته أحدًا؛ فلا نعبد ولا ندعو ولا نسجد لغيره مهما كان، سواء كان ملكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا صالحًا.
ولا نطوف ولا نصلي عند قبر أو ضريح أو مقام، أو وثنٍ أو صنم أو شجر يقدَّس.
فعباداتنا نؤديها في أرض الله الواسعة، أو في بيوت الله المقدسة، وهي المساجد، ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
والإيمان بملائكة الله، تلك الأجسامُ النورانية، وأولها وعظيمها ورئيسها جبريل عليه السلام، وسائرهم ممن ذكرهم الله؛ كميكائيلَ وإسرافيلَ، وملكِ الموتِ وحملةِ العرش الثمانيةِ، وغيرِهم مما لا يعلم عددهم إلا اللهُ خالقهم سبحانه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، يَدْخُلُهُ” وفي رواية: “يصلي فيه”، “كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»؛ أحمد (12558)، واللفظ له، والبخاري (3207)، انظر الصَّحِيحَة: (477).
وعَنْ عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ”، سبعون ألف مقود ورسن، “مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا“؛ مسلم 29- (2842)، فإذا كان لجهنم هذا العدد؛ فكيف بغيرهم؟ فهل تعلمون عددهم؟ لا والله.
والإيمان بالكتب المنزَّلة من عنده سبحانه، ومنها صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، والقرآن المنزل على محمد، عليهم جميعًا الصلاة والسلام، وغيرها من الكتب مما لا نعلمه.
والإيمان بجميع الأنبياء المائةِ والأربعةِ والعشرين ألفَ نبيٍّ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهو فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاء؟) قَالَ: “مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا“)؛ الطبراني في الكبير (7871)، والحاكم (4166)، المشكاة: (5737)، وهداية الرواة: (5669). (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟)؛ ابن حبان (361)، انظر صحيح موارد الظمآن: (81)، (1745). فالنبي غير الرسول، وكم عدد الرسل من المائة والعشرين ألفًا؟ (قَالَ: “ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا“)؛ أحمد (21552)، (22288)، والطبراني في الكبير (7871)، انظر الصَّحِيحَة: (2668).
ومنهم الثلاثمائة والأربعة عشر رسولًا، عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر الله سبحانه منهم خمسةً وعشرين، منهم ثمانية عشر على التوالي في سورة واحدة وهي الأنعام، قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 83 – 86] وذكر البقية في بقية سائر القرآن.
وهذه صفة المؤمنين المسلمين، أمَّة محمَّدٍ خاتمِ النبيين صلى الله عليه وسلم، شهد لهم الله جل جلاله فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، فإذا سوَّلت لغير المسلمين أنفسُهم سبَّ نبيِّنَا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجرؤ مسلم مؤمنٌ أن يفعلَ ذلك مع كليم الله موسى عليه السلام، أو كلمةِ الله عيسى عليه السلام؛ بل نصلي أو نسلم عليهم، عليهم الصلاة والسلام.
والإيمان باليوم الآخر، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136] ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 162] في أكثر من آيةٍ تدلِّلُ على أهمية الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومرِّه من الله، قال سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 2، 3]، فالماء ينزل من السماء بقدر، وقال سبحانه: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21] والأرزاق توزع علينا وعلى عباد الله بقدر الله، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]، والكون كله يجري بقدر الله، قال سبحانه: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38]، وكل خلق الله بقدر الله، قال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] و﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
ويقضي الله ما شاء، كما يشاء، كيف يشاء، قال سبحانه: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117].
ونحن نعجب! بل نقول مستحيل في نظرنا أن تلدَ امرأةٌ دون زواج أو بغاء، لكن إذا قضى الله ذلك كان، فهذه مريم بنت عمران رضي الله عنها، تفكر مثل تفكيرنا، قال سبحانه: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47]، وفي آية أخرى: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: 20]، فهذه الأسبابُ أسبابُ الولادة والحمل، ومريم البتول حصنها الله وحفظها من هذا وذاك؟ ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 21]. وآجالنا وأعمارنا بقضاء الله، قال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: 2] أجلًا لكم في الدار الدنيا التي نعيشها.
﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: 2] يعني يوم القيامة في الدار الآخرة ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 2] تجادلون وتشكون.
وحتى لا يكونوا من الخاسرين ﴿آمَنُوا﴾ بالله سبحانه، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ والطاعات والعبادات وهذه الصفة الثانية في الذين استثناهم الله من الخسران؛ أي: عملوا بما أمر الله ورسوله، وعبدوا الله بما جاء به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، فما أَمَر به رسولُ الله فيما ثبت عنه في سنته؛ من عبادة الله وطاعته، هو كما أمر به الله في كتابه، قال سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]، وقال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132]، وقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
وقد وردت آيةٌ كريمةٌ لم تذكر: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾؛ بل ذكرت: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ قال سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 56]، فيستنبط منها أنَّ من أطاع الرسولَ في هديه وطريقته وما ثبت من سنته؛ فقد أطاع الله جلَّ جلاله، قال سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].
فمن فرق بين الأوامر والنواهي والزواجر الواردة في كتاب الله، والواردة فيما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من فرق وقال: لا نريد سُنَّةً، نريد قرآنًا فقط، هذا فرق، ففيه صفة من صفات الكافرين الذين يُفرِّقون بين الله وبين ما جاءت به رسل الله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 150 – 152].
فالأعمال الصالحات، والعبادات والطاعات، جاءت في الكتاب على الإجمال، فلم نعرف كيفيةَ الأعمال الصالحاتِ والعباداتِ على التفصيل؛ إلا عن طريق ما ثبت في هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا صلاة ولا زكاة، ولا صيام ولا حجَّ جاء الكلام عنه في القرآن الكريم مفصلًا، وإنما جاء مجملًا، والتفصيل كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فجاء دورهم في الدعوة إلى الله بما آمنوا به وعملوا، قال سبحانه: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، هذه الصفة الثالثة لمن أراد أن يفوز، لمن أراد أن يبتعد عن الخسران؛ أي: دعا بعضهم بعضًا إلى التوحيد، والقرآن، واتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا تكون المعاملة مع الآخرين، والدعوة إلى الله بالرفق واللين، ورغبة الداعي في إسلام الناس وإيمانهم أجمعين.
ولا بُدَّ أن يلاقيَ الدعاةُ إلى الله سبحانه الأذى في سبيل ما يدعون إليه، كما في حال جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين لاقَوا عند دعوتهم من أقوامهم صنوف الأذى والبلاء، فصبروا.
وبدون الصبرِ على الإيمانِ والعبادةِ، والدعوةِ يكون الخسران؛ لذلك لا يكونون من الخاسرين من آمنوا وعملوا الصالحات ودعوا إلى الله ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وهذه هي الصفة الرابعة، تواصوا بالصبر على طاعة الله، والقيامِ بشريعته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ“؛ مسلم (49)، (ت)(2172) «فَاسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ -فيما بينهم- وَهُوَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْأَقْدَارِ، وَأَذَى مَنْ يُؤْذِي مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ»؛ تفسير ابن كثير – ت السلامة» (8/ 480).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمةً مهداةً للعالمين كافة، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، واهتدى بهُداه إلى يوم الدين، أما بعد:
إن موقف الصحابة رضي الله عنهم من القرآن عمومًا، ومن هذه السورة خصوصًا؛ سورة العصر، موقفهم عجيب، يتذاكرونها في كل لحظة، حيث روى الطبراني وغيره عَنْ عبدالله بْنِ حِصْنٍ؛ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ رضي الله عنه -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: (كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا الْتَقَيَا، لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ”؛ المعجم الأوسط (5124)، والبيهقي في شعب الإيمان (9057)، انظر الصَّحِيحَة: (2648).
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ، لَوَسِعَتْهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إلى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ»، وَقَالَ غَيْرُهُ: «إِنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ»؛ التحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 528).
سورة عظيمة جمعت خيرًا كثيرًا، إن قلنا: جمعت القرآن، إن قلنا: جمعت السنة، إن قلنا: جمعت الدين، فهو في هذه الأربع: آمنوا، عملوا الصالحات، تواصوا بالحق، تواصوا بالصبر.
هذه سورة عظيمة فاغتنموا، فهذا هو العصر العجيبُ أمرُه، حيث يفرحُ الإنسانُ بمضيِّه، ينبسطُ ويُسَرُّ متى يأتي الغدُ؛ لأن غدًا فيه شيء ينتظره، يحبه الإنسان من الدنيا، غدًا تنزل الرواتب، يفرح يريد أن يمضي العمر، غدًا يأتيه القبول في دراسة، أو توظيف أو نحو ذلك، هو هذا العصر العجيبُ أمرُه، حيث يفرح الإنسان بمضيه، ينبسط أنه ذهبَ، ولا يدري أن في خسارة هذه الأشياء خسارةً في الوقت والعمر؛ لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدْمٌ لعمره، فاغتنموا هذا العصر في الطاعات، واقضوا بقية العمر في الأعمال الصالحات، وصلوا على النبي الذي صلى الله عليه وملائكته فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لنا في مقامِنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا هَمًّا إلا فرَّجْته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شَفيته، ولا مُبتلًى إلا عافيته، ولا غائبًا أو سجينًا أو أسيرًا أو مهاجرًا؛ إلا رددته إلى أهله سالمًا غانمًا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].