تحقيق النصوص على مذهب المصنف
تحقيق النصوص على مذهب المصنف
من أهمِّ ما ينبغي للمحقِّق مراعاتُه أن يَضْبِط الأصل المخطوط تبعًا لِمَذهب المصنِّف، وليس تبعًا للصَّواب، أو لِمَذهب الجمهور، أو نَحْو ذلك، ثم إنْ أراد أن يُعَلِّق في الهامش بِما يقتضيه المقام فلْيَفعل، وليس ذلك بلازمٍ عليه، وإنَّما الواجب عليه – إن استطاع – أن يضبط الأصل على الصواب عند المصنِّف، لا عند غيره، ولا عند المحقِّق نفسه.
أقول ذلك، مع العلم بأنَّ ذلك في بعض الْمَواطن قد يكون مِن أصعب الأمور إن لم يكن من باب المُحال.
مثال ذلك: أنَّ سيبويه قد أنكر وُرودَ وزن فُعُّول بضم الفاء وتشديد العين، وقال: “سَبُّوح” و”قَدُّوس” بِفَتْح أوَّلِهما، وعلماء اللُّغة على جواز الفَتْح والضمِّ فيهما، وبعضهم على أن الضمَّ أولى، ولا نُطيل في بَحث ذلك، ولكنَّ الخلاصة أنَّنا إذا عَلِمنا أنَّ مذهب سيبويه في كلِّ ما كان على هذا الوزن إيجابُ الفَتْح، وخطأ الضَّم، وجب على المُحقِّق أن يضبط أمثالَ هذه الحروف بالفَتْح إن وردَتْ في كلام سيبويه، حتَّى وإن كان الضمُّ هو المشهورَ فيها؛ لأنَّ المقصود مِن تحقيق المخطوط إيصالُ أقرب ما يكون من مُراد المصنِّف إلى القارئ، وليس المرادُ تَبْصيرَ القارئ بِمَسائلَ معيَّنة، فلا يجوز أنْ أضبط كلامَ المصنِّف على خلافِ مَذْهبه، حتَّى وإن كان مذهبه مُخالِفًا للإجماع، ولكن يبيِّن ذلك في الْهامش مع ترك الأصل على ما هو موافقٌ لقول المصنِّف.
مثالٌ ثانٍ: أنَّك إذا أردتَ ضَبْط الآيات القرآنيَّة مثلاً في مصنَّفٍ ما، فعليك مراعاةُ إيراد المصنِّف لها، فقد يُوردها مُحتجًّا بها على أمر يقتضي أن تكون الآية فيه بقراءة معيَّنة من القراءات كأنْ يَحْتجَّ مثلاً بقوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ ﴾ [المائدة: 6] على الْمَسح على الخُفَّيْن فحينئذٍ هو يَعْني قطعًا قراءة الجرِّ؛ أعنِي كسر اللام من “أرجُلِكم”.
أو يحتجّ مثلاً بقوله تعالى: ﴿ تنْبتُ بِالدُّهْنِ ﴾ [المؤمنون: 20] على زيادة الباء، فحينئذٍ هو يَعْني قطعًا قراءة الضَّم؛ أعنِي ضمَّ التاء وكَسْر الباء من “تُنْبِت”.
أو يَذْكر حديث النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في أنَّ ((من نَسِي صلاةً فليُصَلِّها حين يَذْكرها))، ثم قرأ: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذكري ﴾ [طه: 14] فهو ها هنا يَعْنِي قراءة “لِذِّكْرَى” بتشديد الذَّال وفتح الرَّاء، والياء المقصورة؛ يعني: أقِم الصَّلاة عند الذِّكْرى.
أو يحقِّق كتابًا للكسائيِّ عليِّ بن حَمْزة مثلاً، فحينئذٍ ينبغي له أو يجب عليه – إن استطاع – أن يضبط آيات الكتاب على قراءة الكسائيِّ لا على القراءة المشهورة عند المحقِّق، والكسائيُّ مِن القُرَّاء السبعة الذين حُفِظَت قراءاتُهم ونُقِلَت بالتَّواتر، فالأمر فيه هيِّن، بِخلاف الحسَنِ البصريِّ أو سليمان الأعمش، فقراءَتُهما شاذَّة.
مثالٌ ثالث: إذا حقَّقْت ديوانَ شِعْر مثلاً لشاعر هُذَلي، فيجب عليك أن تَضْبِطه ما استطعْتَ على لغة هُذَيل أو لِحَاتم الطَّائيِّ مثلاً، فيجب عليك ما استطعت أن تضبطه على لغة طيِّئ، وقِسْ عليه بقية الأمور.
فمثلاً الأفعال أمثال نَسِي وفَنِيَ وبقي، تُقال في لغة طيِّئ: نسَى وفنَى وبقَى؛ تخفيفًا، فمِن ثَمَّ يُراعى ذلك في ضَبْط النصوص، وهكذا ينبغي للمحقِّق أن يَعْمل ولا يَرْكن إلى الكسل والدَّعَة، فلا يقدر على التَّحقيق وضَبْط نصوصِ تُراث الأقدَمِين إلاَّ مَن أتعب الجِسْم، وأفْنَى العمر، وأكثر السَّهَر، وأضْنَى النَّظَر في التفتيش في بطون الدَّفاتر، لا كما نرى الآن مِمَّن يُسَمَّون بالمُحقِّقين زُورًا وبُهتانًا، وهم لا يُفَرِّقون بين الكوع والكرسوع، ولا يعرفون هِرًّا من بِرٍّ، ولا كوعًا من بوع!
قال الشيخ أبو الأشبال أحمد محمد شاكر في “تحقيق الرِّسالة”، ص 14:
لَفْظ “قُرَان” ضبَطْناه هنا وفي كلِّ موضع ورَد فيه في “الرِّسالة” بضمِّ القاف وفَتْح الرَّاء مُخفَّفة وتسهيل الهمزة؛ وذلك إتباعًا للإمام الشافعيِّ مؤلِّف “الرسالة” في رأيه وقراءَتِه، قال الخطيب في “تاريخ بغداد”:… الشافعي… قال: قرأتُ على شبل، وأخبَر شبلٌ أنه قرأ على عبدالله بن كثير، وأخبَر عبدُالله بن كثير أنَّه قرأ على مُجاهد، وأخبر مُجاهد أنه قرأ على ابن عبَّاس، وأخبر ابن عبَّاس أنه قرأ على أُبَيٍّ، وقال ابن عبَّاس: وقرأ أُبَيٌّ على النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال الشافعيُّ: وقرأت على إسماعيل بن قُسْطنطين وكان يقول “القُرَان” اسم، وليس بِمَهموز، ولَم يُؤْخَذ من قرَأْت، ولو أخذ من قرأت لكان كلُّ ما قُرِئ قرآنًا، ولكنَّه اسم للقُرَان، مثل التَّوراة والإنجيل، يهمز قرأت، ولا يهمز القُرَان، وإذا قرأت القُرَان يهمز “قرأت” ولا يهمز القران.
وهذا النَّقل عن الشافعيِّ نَقْل رواية للقراءة واللُّغة، ونَقْل رأي ودراية أيضًا، فإنَّ قراءة ابن كثير – قارئِ مكَّة – معروفة أنه يقرأ لفظ (قُرَان) بدون هَمْز، والشافعيُّ ينقل توجيه ذلك من جهة اللُّغة والمعنى، ولا يردُّه، فهو يُعْتبر رأيًا له حين أقرَّه، وهو حُجَّة في اللُّغة درايةً ورواية.
وهذا الذي قُلْنا كلُّه يقوِّي اختيارَنا أنْ نضبط اللَّفظ على ما قرأ الشافعيُّ واختار، ولقد كان الأجْدَرُ بنا في تصحيح كتاب “الرِّسالة” أن نضبط كلَّ آيات القرآن التي يَذْكر الشافعيُّ على قراءة ابن كثير؛ إذْ هي قراءة الشافعي كما ترى، ولكنِّي أحجَمْتُ عن ذلك إذْ كان شاقًّا عليَّ عسيرًا؛ لأنِّي لم أَدْرس علم القراءات دراسةً وافية، والرِّواية أمانة يَجِب فيها التحرُّز والاحتياط.
قال أبو مالك العوضيُّ: قد استعان الشيخُ في تحقيق “الرِّسالة” ببعض أهل اللُّغة كالشَّيخ محمد مُحْيي الدين عبدالحميد والشيخ علي الجارم، واستعان ببعض خُبَراء الخطوط؛ للاسْتِثْبات من خطِّ الربيع، فماذا عليه لو استعان بِخَبير في القراءات – وهم كثيرون بِحَمد الله – لِيَضْبِط له الآياتِ على قراءة ابن كثير – رحمه الله تعالى؟!
في “تهذيب اللغة” (12/ 11) ونَحْوُه في “اللِّسان”:
ويُقال للذُّؤابة: ضفيرة، وكل خصلة من خُصَل الشَّعر تُضْفَر قواها فهي ضفيرة، وجَمْعها ضفائر، وفي حديث أُمِّ سلمة أنَّها قالت للنبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنِّي امرأة أشُدُّ ضفر رأسي، أفأَنْقضه للغُسْل؟ فقال: ((إنَّما يكفيك ثلاثُ حثَيات من الماء))، قال الأصمعيُّ: الضفائر والضَّمائر والجمائر، وهي غدائِرُ المرأة واحدتُها ضَفِيرة وضميرة وجَمِيرة؛ انتهى.
ضُبِط هذا النصُّ في “التَّهذيب” و”اللِّسان” (ضَفْر رأسي) بفتح الضاد وسكون السِّين.
قال ابن بري في “لَحْن الفقهاء” كما في (النووي 4/ 11):
من ذلك قولُهم في حديث أم سلمة: “أشدُّ ضفر رأسي” يقولونه بِفَتح الضاد وإسكان الفاء، وصوابه ضَمُّ الضَّاد والفاء، جَمْع ضفيرة، كسَفِينة وسفُن؛ انتهى.
قال النوويُّ معقِّبًا على قوله:
وهذا الذي أنكرَه – رَحِمه الله تعالى – ليس كما زعَمَه، بل الصواب جوازُ الأَمْرين، ولكلٍّ منهما معنًى صحيح، ولكن يترجَّح ما قدَّمْناه؛ لِكَونه المرويَّ المسموع في الرِّوايات الثابتة المتَّصلة، والله أعلم.
قال أبو مالك: المتأمِّلُ في سياق الكلام في “التَّهذيب” و”اللِّسان” يرى أنَّ المقام يَقْتضي ضَبْط الكلمة بِضَمَّتَيْن؛ لأنَّ إيرادهم للحديث جاء بعد الكلام على أن الضَّفيرة تُجْمَع على ضفائر، فهذا يدلُّ أو يُشير إلى أنَّ الضبط المراد عندهم – بِغَضِّ النَّظر عن صوابه وخطئه – هو ما أشار إليه ابن بَرِّي، ومن ثَمَّ كان ينبغي ضبْطُ نصِّ “التهذيب” و”اللسان” على الضمَّتَيْن، ثم التعليق في الهامش بأنَّ كِلا الأمرَيْن صواب، مع ترجيح رواية الفَتْح، كما قال النوويُّ مثلاً، والله أعلم.
وهناك مثالٌ آخَر قد يختلف فيه النَّاس، وهو أنَّ تَحْقيق النُّصوص الحديثيَّة ينبغي أن يُراعَى فيه اللُّغة الفصيحة ما لم يَثْبت في الرِّواية شيءٌ خلاف ذلك، فإذا وردَتْ مثلاً كلمة (إِصْبَع) في حديثٍ من الأحاديث، فينبغي للمحقِّق أن يضبطها بالضَّبط الفصيح وهو كَسْر الهمزة وفَتْح الباء، مع أنَّ في هذه الكلمة تِسْعَ لغات؛ تثليث الْهَمزة مع تثليث الباء، ولكنَّ العلماء نَصُّوا على أن الفصيحَ هو ما ذكَرْت، فلا يصحُّ أن يُضْبَط كلامُ النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – على خلاف الأفصح، ما لم يَثْبت في الرِّواية ما يُفيد ذلك، والله أعلم.