تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية) المفاصلة مع الشرك والمشركين ظاهرًا وباطنًا
تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية)
المفاصلة مع الشرك والمشركين ظاهرًا وباطنًا
قال الله تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 1 – 5].
مَن هذا الفتى الألمعي على العَضْباءِ ترغو وتَضْبَح، لا تَلوِي إلا على أمر راكبها ورسالة نبيها المحمولة عليها، تأخذ الطريق يمنة ويسرةً بين التلال والتلاع، تجُذُّ[1] في عَدْوِها مرة، وتحذ[2] أخرى، تقارب الخطوَ مسرعة كأنها عفريتٌ يحمل عرش سبأ إلى سليمان عليه السلام؟
ومن هذا الشيخ الحكيم يسمع رُغاء العضباء من بعيد، فيعرفها به ويستوقف رَكْبَه إلى مكةَ، في انتظار القادم راكب العضباء، فإذا تبادلا السلام، سأل الشيخ الحكيم الفتى المتوثِّب: أمير أم مأمور؟ أي: أمير على الحج أم مأمور بتبليغ رسالة، فيجيبه: بل مأمور.
أما الفتى المأمور، فكان أول مؤمني آل البيت الهاشمي بعد أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كان أبا الحسن عليًّا رضي الله عنه، لم يسجد لصنم قط، ولا عَبَدَ وثنًا أبدًا، وأول استشهادي عرَّض نفسه للقتل؛ فداءً لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ بات على سريره، وقد ائتمرت قريش على اغتياله، وربض له مجرموها قبضًا قعودًا.
وأما الشيخ الوقور، فكان الصديق أبا بكر عبدالله بن أبي قحافة التيمي القرشيرضي الله عنه، أول من آمن ونصر من الرجال، وذكره تعالى في القرآن صاحبًا، وأمينَ سرٍّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بقوله تعالى: ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
وأما الرسالة العاجلة التي تعدو بها العضباء فرحةً جَذْلى بمن فوقها وما يحمله، فأخطر سورة للمفاصلة بين التوحيد والشرك على جميع الصُّعُدِ، تخلص بها مكة المكرمة لله ولرسوله وللمؤمنين، وتعود إلى حالها الذي أسسها عليه إبراهيم عليه السلام؛ بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، إنها سورة براءة أو ما اصطلح على تسميتها به في المصاحف: “سورة التوبة”، وقد نزلت عقب خروج الصديق أميرًا على الحج، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدِّيَ عنك إلا أنت أو رجل منك[3]، ثم دعا عليًّا رضي الله عنه، فقال له: اخرج بهذه القصة – أي القُصاصة – من صدر “براءة”[4]، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى: ألَا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العَضْباءِ، حتى إذا أدرك أبا بكر الصديق اتجه معه إلى مكة لتبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم الحج الأكبر وأتم أبو بكر خطبته قال: قم يا علي، وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم))، فقام فألقى عليهم ما أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه من إعادة تنظيم للبيت الحرام، وتطهير له من الشرك، وضبط للعلاقات فيه ضبطًا محكمًا واضحًا حاسمًا بين المسلمين وغير المسلمين، وتلا عليهم ما أمر بتبليغه من سورة براءة كما أُنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم مزمجرة بغير بسملة، مبدوءة بقوله تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]، ولفظ ﴿ بَرَاءَةٌ ﴾ لغة من فعل “بَرِئ يَبْرَأ” بالكسر والهمز، على زنة سَلِمَ يَسْلَم، فيقال: برِئت وبرأت من الشيء أو الدين أو المسؤولية، ومنه: “البُرء”؛ وهو السلامة من الضرر، أو التعب، أو المرض، وأبرأ بالفتح حالًّا ومستقبلًا، براءةً على صيغة “فَعَالَة”؛ مثل دناءة وحصانة، وهي صيغة تتعدى بحرف “من” فتقول: براءة فلان من عيب، أو تبِعة، أو تحمُّل، أو مسؤولية تحمَّلها، أو عقد عقده، أو عمل نُسِبَ له، أو سوء رُمِيَ به، فهو بريء على زنة “فعيل” لا يتحمل أي تبعة، ومنه مصطلح براءة الذمة، وهي شهادة تثبت خلو المرء من التبعات المالية أو الجنائية وغيرها، وبراءة الاختراع؛ أي سلامة نسبته لمخترعه؛ قال الراغب: “أصل البُرء والبَراء والتبرِّي: التفصي مما يُكرَه مجاورته”، وقال ابن العربي في أحكام القرآن: “تقول: برأت من الشيء أبرأ براءةً، فأنا منه بريء إذا أنزلته عن نفسك، وقطعت سبب ما بينك وبينه”، وقال محمد متولي الشعراوي[5] رحمه الله: “البراءة يلزم منها أنه كان هناك عهدٌ واستمساك به، وجاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد”، وقال: “البراءة هي انقطاع العصمة، والعصمة استمساك، والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].
والجمهور على قراءة كلمة ﴿ بَرَاءَةٌ ﴾، بالرفع على أنها مبتدأ، جوابه قوله تعالى: ﴿ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ﴾ [التوبة: 1]، أو أنها خبر لمبتدأ تقديره: “هذه السورة براءة”، وقرأها عيسى بن عمر[6] بالفتح “براءةً” على أنها مفعول لفعل مقدَّر هو: “اسمعوا براءة”، أو “الزموا براءة”، أو “اعتقدوا براءةً”، وورودها في ناصية السورة بيان حاسم وإعلام جازم بحقيقة لا بديل عنها، وأمر كوني خبري ناجز بُنِيَ عليه الكون نصحًا وتحذيرًا وإعذارًا ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1] عز وجل صاحب الخلق والأمر والحكم ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 1]، صلى الله عليه وسلم المبلِّغ الوحيد عنه سبحانه ﴿ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]، يبلغ إلى ذوي العهود من مشركي القبائل العربية كخزاعة الأزدية، ومدلج وضمرة الكنانيتين، مَن حضر موسم حج تلك السنة ومن لم يحضر، وإلى غيرهم من المشركين ونَقَضَةِ العهود كافة، من كان له عهد ومن لم يكن له عهد، وفيهم أفراد سارعوا إلى الردة وقبائل نبذت عهودها، عقب خروجه صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وما أُشِيع كذبًا عن هزيمة للمسلمين فيها، وبعض اليهود الذين يترقبون فرصةَ ضعفٍ في المسلمين، وبعض نصارى نجران الذين يتآمرون مع هرقل الروم، ويمهدون له سبيل غزو المدينة، بتنسيق مع أبي عامر الفاسق وجمع من المنافقين الذين حاولوا تأسيس بديل سياسي للحركة النبوية ببناء مسجد للضرار[7]، في حال نجاح مؤامرة قتله صلى الله عليه وسلم في تبوك، على يد حوالي اثني عشر من المدسوسين في جيشه، فأخبره الله بهم واستدرجهم للعقبة في عزلة عن الجيش، وكشفهم وأفشل مسعاهم، ثم عفا عنهم وسترهم لاعتبارات أخلاقية وسياسية؛ لخَّصها صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أكْرَهُ أن تتحدث العرب بينها أن محمدًا قاتَلَ بقومٍ حتى إذا أظهره الله بهم، أقبل عليهم يقتلهم))[8].
لقد كانت هذه البراءة المعلنة في حقيقتها وهدفها مفاصلةً اقتضاها الانتقالُ من مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية الناشئة بما تستوجبه من الصبر على كيد المشركين وملاينتهم، ومحاولة استدراجهم للإيمان، إلى مرحلة قيامها فاعلة متكاملة، بما تحتاجه من الحزم الذي تتضح به العقائد والمواقف، ويتحمل فيها كل امرئ نتيجة ما يعتقده وما يعمله؛ ولذلك مهَّد الحق تعالى لترسيخها في النفوس وبلورتها واقعًا في المجتمع، بإعطاء المشركين مهلة يتدبرون فيها أمرهم، ويختارون بين الإيمان ومعسكره، والشرك ومعسكره، التفاتًا من الغيبة إلى الخطاب وأمرًا بأن يُقال لهم: ﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [التوبة: 2]، والسياحة في الأرض مجاز من ساح الماء في الأرض: إذا سال فيها وانتشر، يعبَّر بها عما ينبغي أن يقوله المسلمون للمشركين، مرتَّبًا على براءة الله ورسوله من شركهم، وما أعطوه من أجل حرية السير والانتقال والتجوال الواسع في أرض الحرم وغيره بأمان ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [التوبة: 2]، يبدأ من يوم إعلانه في العاشر من ذي الحجة من السنة التاسعة للهجرة إلى عاشر ربيع الثاني من السنة نفسها، وهو غير أشهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب التي حرم فيها القتال مطلقًا؛ بقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36].
ثم حذرهم الحق تعالى من الاغترار بهذا الأجل الذي أجَّل لهم؛ فقال عز وجل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ﴾ [التوبة: 2]؛ أي: وأيقنوا أنكم لم تُعْطَوا هذا الأجَلَ عن عجز أو ضعف أو غفلة عن ملاحقتكم أو معاقبتكم في الدنيا والآخرة؛ وإنما لإفساح فرصة لكم تتدبرون فيها أمركم مع الله في الدنيا، وعاقبتكم في الآخرة، وتختارون أحرارًا بين الإيمان والشرك، لتكونوا مع المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، أو مع المشركين فتعتزلوا مقدسات المسلمين وتوقروهم، وتخضعوا لأحكام دينهم ونُظُم دولتهم ما دُمْتُم فيها، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 2]، واعلموا أيضًا أن الله تعالى يخزي دائمًا أهل الكفر ما أصرُّوا عليه في الدنيا بالهزيمة والذِّلَّة وفي الآخرة بعذاب جهنم، ثم أكَّد المعنى نفسه بأسلوب أشد وقعًا وإثارة في نفوسهم؛ بقوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 3]؛ أي: بعذاب شديد مؤلم، وهو القتل والأسْرُ في الدنيا، والخلود في النار في الآخرة، وبشارة الكفار بالعذاب قبل وقوعه أشد إيذاء لهم وإيلامًا؛ لِما فيها من النكاية بهم، والتوبيخ لهم، والتشفِّي فيهم، والتسفيه لعقولهم؛ لأن الأصل في البشارة أنها بما يسُرُّ؛ كما في قوله تعالى عن المؤمنين: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21]، فإن كانت بالمكروه، فعلى سبيل التهديد لهم بما يكرهون كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49]، وفي الأثر أن سفيان بن عيينة سُئِلَ عن البشارة أتكون في المكروه؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 3].
هذا ما قضى به الله تعالى غيبًا في أمر الشرك والمشركين مطلقًا، الإيمان إيمان، والشرك شرك، لا يجتمعان في الدين، ولا يلتقيان في الدنيا والآخرة، نزل بذلك الأمر القدري الحاسم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة العظيمة والظروف المفصلية بقوله تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1]، ثم أعْقَبَهُ عز وجل بأمر تشريعي ينفِّذه المسلمون وجوبًا ليكون واقعًا على الأرض، تقوم به الحجة، وتنتظم به الدولة، وتتضح به العلاقات في المجتمع؛ فقال تعالى: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ﴾ [التوبة: 3]، والأذان مصدر فعل “أذن”، مبتدأ، استُعْمِل عند العرب في معنيين؛ أحدهما الأذن وهي حاسة السمع لدى كل كائن حي، وثانيهما العلم بالشيء والإعلام به، كقول العرب: “قد أذِنت بهذا الأمر إذْنًا وإيذانًا؛ أي: علِمت به، وقولهم فعلت الأمر بإذن صاحبه؛ أي بأمر صاحبه أو بعلمه أو رضاه، ومنه: الأذان والتأذين؛ أي الإعلام والإخبار، كقوله تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]، وقوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للاتي غسَّلن إحدى بناته رضي الله عنها: ((فإذا فرغتُنَّ فآذِنَّني))؛ أي: أعلمنني، فلما فرغن آذناه، أي: أعلمناه”[9]، ومنه “الأذان” على صيغة “فَعَال”؛ أي الإعلام.
وقوله تعالى: ﴿ وَأَذَانٌ ﴾ [التوبة: 3]؛ أي إعلام ترفعونه وجوبًا ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 3]، صاحب الأمر، ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 3]، المبلِّغ عن الله ﴿ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ﴾ [التوبة: 3]؛ أي الأعظم على سبيل المدح لا بالإضافة إلى أصغر معين، وهو يوم النحر؛ كما في الحديث الصحيح عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: هذا بلد الله الحرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر الله الحرام، قال: هذا يوم الحج الأكبر، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم، ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اشهَدْ، ثم ودَّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع))[10].
ثم تمَّ المعنى بقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، والجملة الاسمية من “أن” واسمها وخبرها خبر المبتدأ “أذان”؛ أي: إنه تعالى بريء، ورسوله بريء، مما يعتقده المشركون أو يتخيلونه، أو يكذبون به على الله، ومما ينسبونه زورًا من خصائص ألوهيته وربوبيته، وصفاته وتدبيره تعالى إلى غيره، والكذب على الله هو الزُّورُ، وهو صِنْوُ الشرك؛ لذلك قرنهما صلى الله عليه وسلم بقوله: “عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين؛ ثم قرأ قوله الله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ [الحج: 30، 31].
لقد كانت سورة التوبة مفتتحةً بثابت من ثوابت العقيدة الإسلامية؛ وهو البراءة الأصلية من الشرك؛ في قوله تعالى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1] – أحسمَ بيان للموقف من الشرك توَّج بإعلانه واضحًا جليًّا بين المسلمين والمشركين؛ بقوله تعالى: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 3]، ثم بنبذ جميع المواثيق التي خانها، أو نقضها المشركون واليهود والنصارى؛ بقوله عز وجل: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 3]؛ لأنهم بشركهم ارتكبوا أعظم الإثم، وأشد العدوان في حق الله تعالى، ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3] بضم اللام، مبتدأ خبره محذوف للعلم به؛ أي: ورسوله برئ منهم.
إن البراءة من الشرك بهذه الآية الكريمة واجبٌ، لا يتم إيمان امرئٍ إلا بمعرفتها، واطمئنان القلب إليها، والشهادة بها، والدعوة إليها؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19]؛ لذلك كان إعلانها والتأكيد عليها في هذه المرحلة الحاسمة من نشأة الدولة الإسلامية الحديثة، خير علاج للخيانات التي ارتكبت، والمؤامرات التي حِيكت ودُبِّرت، وخير تمهيد لقيام علاقات واضحة على أسس متينة تكُفُّ جهالات الجاهلين، ومكر الماكرين والمدسوسين والمنافقين، وأقوى العمد التي يستند إليها ما يناسب المرحلة من مفاصلة بين الحق والباطل، وما نزل فيها من أحكام للدين ومقاصد للتدين، وكان صلى الله عليه وسلم قد مهَّد من قبل لهذه المفاصلة مع الشرك وأهله يوم فتح مكة فتحها الأعظم[11]، في السنة الثامنة للهجرة إذ عمل على إبراز معالم الحرم المكي[12]، وتحديدها على ما تركها عليه إبراهيم عليه السلام، وأمر بذلك تميم بن أسد الخزاعي رضي الله عنه، كما في رواية ابن عباس رضي الله عنه، إذ قال: ((بعث – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – تميم بن أسد الخزاعي يجدد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم عليه السلام وضعها، يريها إياه جبريل عليه السلام))[13].
ولذلك استعجل الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغ سورة براءة إذ نزلت، وأمر عليًّا رضي الله عنه بقراءتها على الناس يوم الحج الأكبر عقب النحر في منًى، مقرونة بقرارات حاسمة رسمية موجزة واضحة، يسهل استيعابها والعمل بها، يلقيها عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم له: ((اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى…))، فقرأها علي رضي الله عنه بعد خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بغير بسملة كما أنزلت، وفي ذلك قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه رواية عن علي رضي الله عنه: “سألت علي بن أبي طالب لِمَ لَمْ يكتب في ﴿ بَرَاءَةٌ ﴾ (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ قال: “لأن (بسم الله الرحمن الرحيم) أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان”، وإلى ذلك ذهب سفيان بن عيينة بقوله: “اسم الله سلام وأمان، فلا يُكتَب في النبذ والمحاربة”، وأكده بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ﴾ [النساء: 94]، فقيل له: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فأجاب بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله، ولم ينبذ إليهم عهدهم، ألَا تراه قال في آخر الكتاب: والسلام على من اتبع الهدى؟ وسار على هذا الفهم أبو العباس المبرد[14] بقوله: “بسم الله الرحمن الرحيم رحمة، وبراءة نزلت سخطةً”، يقوِّي هذا المعنى أن عليًّا كان ألصقَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كُتَّاب الوحي، وهو الذي أمره صلى الله عليه وسلم شخصيًّا بتبليغها، تلاوة وتفسيرًا وتفهيمًا لمن يتلوها عليهم يوم الحج الأكبر، وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي))، كما يقويه بناء تبرير عثمان رضي الله عنه لحذف البسملة على مجرد الظن؛ إذ سأله ابن عباس بقوله: قلت لعثمان بن عفان: “ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموها في السبع الطول[15]، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضَعُوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكَر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت – وفي رواية: فحسبت – أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتها في السبع الطِّوَل”[16]، وفي رواية للترمذي بإسناده قال عثمان رضي الله عنه: “… كانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها، وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها…”، والصحيح عندنا أن القرآن الكريم جُمِعَ وحيًا، ورُتِّبت سورَه وحيًا، وحُذفت البسملة من سورة براءة وحيًا من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جبريل عليه السلام يراجعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملًا، كل عام في شهر رمضان، بترتيبه الذي وصل إلينا متواترًا، وراجعه معه مرتين في آخر رمضان من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك اكتسب حجيته وقدسيته الْمُطْلَقة، فلا يأتيه الباطل تغييرًا أو نسيانًا، أو حذفًا أو عدم تبليغ؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41، 42]، وقال عز وجل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37]، كما أن القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين في سورة التوبة: هل هي من سورة الأنفال، أم ليست منها ومستقلة عنها، أم غير مستقلة عنها؟ وفي البسملة لماذا لم تفتتح بها؟ يتعارض مع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
ثم بعد أن قرأ عليٌّ رضي الله عنه ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم، انطلق مع جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم أبو هريرة، ينادون بها في مكة ومنًى، يبلغونها لمن لم يسمعها، وأهل الشرك – من مختلف القبائل – يومئذٍ على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، لم يُصَدُّوا بعدُ عن البيت ولم يغادروه، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمَدٍ، ومنهم من ليس له عهد، كما روى ذلك الشعبي قال: حدثني محرر بن أبي هريرة عن أبيه أنه قال: ((كنت في البعث الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي رضي الله عنه ببراءة إلى مكة، فقال له ابنه، أو رجل آخر: فبمَ كنتم تنادون؟ قال: كنا نقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فإن أجلَه أربعة أشهر، فناديت حتى صحل صوتي))؛ أي: بُحَّ[17].
بهذا النداء النبوي مقرونًا بسورة براءة، أعلن القرار النهائي بنظام جديد للحج، ووضع جديد للحرم المكي؛ الجنة حرام على الكافر فلا يغتر المشركون بما كانوا يعتقدونه دخولًا للجنة بالحج، ولا يُسمَح للمشركين بالتوجه إلى الحج إلا إذا أسلموا، كما لا يجوز للمسلمين أن يطوفوا بالبيت عرايا، والعهود القائمة مع المشركين الذين وفوا بها لا تُمَدَّد بعد انقضاء أجلها المؤجَّل لها، والعهود المنعقدة مع المشركين المشتبه في وفائهم ملغاة بعد أربعة أشهر من إعلانها يوم الحج الأكبر، ومن وُجِدَ في الحرم بعد انتهاء هذا الأجل لا أمان له إلا أن يُسْلِمَ، فلم يُبْدِ حُجَّاج البيت من المشركين قبولًا أو اعتراضًا، إلا قبائل أنِفَتْ ولجَّت في الرفض وتوعَّدت بالحرب، وقد رُوِيَ أن أبا بكر لما خطب وحدَّثهم عن مناسكهم، قام عليٌّ يوم النحر عند جمرة العقبة، فقال: يا أيها الناس، إني رسولُ رسولِ الله إليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية – وعن مجاهد: ثلاث عشرة آية – ثم قال: أُمِرْتُ بأربع: ألَّا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقال بعضهم عند ذلك: يا علي، أبلغ ابن عمك أنَّا قد نَبَذْنَا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد، إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف.
والشرك الذي وقع التبرؤ منه، وتنطبق عليه هذه الأحكام هو الكفر الجَلِيُّ بالله وبرسوله مطلقًا، وهو كل دين غير الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، أما من يعلن إسلامه، فيُعامَل معاملة المسلمين، وتُوكَل سريرته إلى الله تعالى، ولأنه لم يكن لأحد من المشركين عهد لأكثر من أربعة أشهر، فقد كان الأجل المعلن في الآية الكريمة للجميع، وكانت نتيجته أن أسلم جميع أولي العهود، وأسلم غيرهم ممن كانوا داخل الحرم وأكثر قبائل العرب ممن سواهم.
لقد كان هذا الإجراء العقدي، وهذا الفرز التنظيمي ضروريَّين للانتقال إلى مرحلة الدولة المركزية التي ينبغي أن تُمْسِكَ بزمام أمرها، وتحمي عقيدتها وشعبها، وتعد لتطوير مشاريعها السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية، وليس فيه أي إخلال بالأخلاق أو التقاليد والأعراف والقيم، لا سيما وقد بالغ المشركون في الغدر والخيانة والتآمر، وسبق في سورة الأنفال التي نزلت في السنة الثانية للهجرة إنذارهم باحتمال نبذ العهود معهم، كلما آنس المسلمون، أو ترقبوا خيانتهم لها؛ بقوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
كما كان هذا الإجراء ضروريًّا لبلورة عقيدة التوحيد، براءةً من الشرك في القلوب، وتجسيدًا لحقيقتها على الأرض، وأصلًا راسخًا في حياة الناس مناشط ومعاملات، وإشعارًا دائمًا بأن البراءة من الشرك عماد للكون، ومفتاح له، وسياج ورِتاج للنجاة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، ولئن غابت هذه الحقيقة عن بعض عباد الله من البشر لعَماء أو جهل أو تسلط شيطان، فما ذلك إلا لما جعله تعالى بحكمته اختبارًا لهم وابتلاء، كي يدخل أهل الجنةِ الجنةَ عن بيِّنة، وأهلُ النارِ النار عن بينة؛ لذلك عندما أصبحت الدعوة الإسلامية في حاجة إلى دولة مركزية، ومنسك قار تجتمع فيه وعليه القلوب، ومثابة تنطلق منها مسيرة الفتح المبين، نزل الإعلام والتذكير بالأصل الكوني الذي هو البراءة من الشرك، ثم الأمر بالأذان به بين الناس للإعذار إلى المشركين، فلا يُؤخَذ أحد إلا بما بلغه وعلمه، فإن اختاروا ربهم وحَّدوه وعبدوه واتبعوا رسوله، وإن اختاروا الشرك، فارقوا الحرم ومُنِعوا من دخوله، ووَكَلَهم تعالى إلى أوثانهم فنالوا جزاءهم.
إلا أن هذا القرار الذي فصل به الحق تعالى في أمر العهود التي كانت بين المسلمين وغيرهم بما يناسب ظرفها، وقد انتهت بإسلامهم جميعًا، لم يحرم على المسلمين وقد قامت دولتهم واستتب لهم الأمر، أن يعقدوا العهود مع غير المسلمين مطلقًا، وإنما أباحها لهم، واشترط فيها وفي الوفاء بها ما يحفظ كرامتهم وأمنهم، وعقيدتهم ومصالحهم؛ فقال عز وجل مستدركًا ومستثنيًا: ﴿ إِلَّا ﴾ [التوبة: 4]، وحرف إلا في هذا السياق استثناء منقطع بمعنى: “لكن” ﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 4]؛ أي: لكن الذين عاهدتم أو تعاهدون من غير المسلمين بعد استتباب أمر دولتكم، في كل زمان ومكان، ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ﴾ [التوبة: 4]، من حقوقكم عليهم، ومما اتفقتم عليه من الشروط، ﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا ﴾ [التوبة: 4]، ولم يعينوا عليكم سرًّا أو علانية بالقول أو العمل أو الإشارة، ولم يضروكم بشيء من أمر الدين والدنيا، ﴿ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ [التوبة: 4]، فوفُّوا إليهم ما تعهدتم أو تتعهدون به إلى مَتَمِّ مدتهم ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]؛ لأن الوفاء بالعهد شيمة الأتقياء، والله يحب المتقين.
بهذه الآية الكريمة أباح الله تعالى للمسلمين عقد العهود والمواثيق مع غير المسلمين قاطبة، وذلَّل لهم سبل التواصل الإيجابي مع جميع المجتمعات البشرية، وعلَّق ذلك كله بشروط؛ منها ألَّا تُخِلَّ في المجتمع المسلم أفرادًا وجماعات بدين الأمة شريعة وعقيدة وأمنًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))، وأن تكون بالتراضي بين المتعاقدين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وأن تتحقق بها مصلحة حقيقية بينة للمسلمين.
ثم في إشارة إلى المشركين الذين رفضوا ما عُرِض عليهم من الإيمان والأمن، وهددوا المسلمين بالحرب وقالوا: ليس بيننا وبين محمد إلا السيف؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾ [التوبة: 5]، وأصل لفظ الانسلاخ خروج الشيء عن الشيء المتلبِّس به، كانسلاخ الشاة عن جلدها، والثعبان عن الطبقة الخارجية من جلده، شبَّه انصرام الأشهر الحرم بذلك؛ أي: إذا انقضت المدة التي أُجِّلت لهم من عاشر ذي الحجة إلى عاشر ربيع الثاني، ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، الذين بارزوك بالحرب، ﴿ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، بادروهم بالقتل أنَّى كانوا، في الحِلِّ أو الحرم، قبل أن يبادروكم بما هددوكم به، ﴿ وَخُذُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، بالأسر والإرهاق، ﴿ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، في مساكنهم وقلاعهم، وامنعوهم من دخول الحرم المكي، ﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، والْمَرْصَد هو مكان الرصد والمراقبة، من “رصد” الشيء أو العدو يرصُدُه، وأرصد له: إذا ترقَّب له وأعدَّ له؛ أي: كونوا لهم رَصَدًا لتأخذوهم أنى توجهوا، فلا تبقى لهم قدرة على تجميع القوة، أو إعداد السلاح، أو تحشيد الجند، أو تفكير في قتال، ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾ [التوبة: 5]، عن الشرك والكفر والعدوان، ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ [التوبة: 5]، وهي عماد الدين والركن الثالث في الإسلام بعد الشهادتين، من تَرَكَها كَفَرَ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ [التوبة: 5]، وهي الركن الرابع من أركان الإسلام، وعماد التعاون والتراحم والتلاحم بين المسلمين بعد الصلاة[18]، ﴿ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ [التوبة: 5]؛ أي: لا تؤاخذوهم بما سلف من أعمالهم قبل إسلامهم، واتركوهم أحرارًا آمنين مثلكم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ [التوبة: 5]، يغفر ما سبق من الذنوب والآثام والأخطاء إذا أعقبتها التوبة، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5]، بالمؤمنين جميعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].
[1] تجذ: تسرع في عدوها وتقطع الطريق بسرعة.
[3] أخرج عبدالله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: ((لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: أدرِكْ أبا بكر فحيثما لقِيته فخُذِ الكتاب منه، ورجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل فيَّ شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك)).
[4] اختلفت الروايات في تحديد عدد الآيات التي تلاها عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من صدر سورة براءة، فقيل أربعون، وقيل ثلاثون، وقيل عشرون، وقيل عشر، وقيل تسع.
[5] مما أذكره عن الشيخ الشعراوي رحمه الله أنني حضرت له محاضرة قيمة في المملكة العربية السعودية أثناء هجرتي إليها، وفي ليبيا أثناء هجرتي إليها وكنت منشغلًا بتفسير سورة آل عمران رأيته في المنام فقال لي: هل راجعت تفسيري للقرآن؟ فقلت: لا، فقال: راجعه، ثم استيقظت ورجعت للنوم، فرأيت مريم ابنة عمران عليها السلام دخلت عليَّ في بيتي ولم تقل شيئًا فاستيقظت.
[8] انظر: تفاصيل مؤامرة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحلقة الأولى السابقة من هذا تفسير لسورة التوبة.
[9] عن نسيبة بنت كعب: ((دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلْنَها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك، بماء سدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، قالت: فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه – أي: إزاره – فقال: أشعرنها إياه))؛ أي: اجعلن إزاره مواليًا ومباشرًا لجسدها؛ [صحيح].
[10] ابن ماجه وصححه الألباني.
[11] رُوِيَ عن عبدالله بن عباس، أنه قال: “دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكةَ يومَ الفتح، فوجد حول البيت ثلاثمائة ونيفًا أصنامًا قد شددت بالرصاص، فجعل يشير إليها بقضيب في يده، ويقول: ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، فلا يشير إلى وجه الصنم إلا وقع لقَفَاه، ولا يشير إلى قفاه إلا وقع لوجهه، فقال تميم الخزاعي: “وفي الأنصاب معتبر وعلم لمن يرجو الثواب أو العقاب”؛ [أخرجه ابن منده، وأبو نعيم].
[12] حد الحرم من جهة المدينة المنورة عند التنعيم وهو على ثلاثة أميال، وفي كتب المالكية أنه أربعة أو خمسة أميال، ومبدأ التنعيم من جهة مكة عند بيوت السقيا، ويقال لها بيوت نفار، ويعرف الآن بمسجد عائشة، فما بين الكعبة المشرفة والتنعيم حرم، والتنعيم من الحل، ومن جهة اليمن سبعة أميال عند أضاة لبن، ومن جهة جدة عشرة أميال عند منقطع الأعشاش لآخر الحديبية، فهي من الحرم، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال في شعب عبدالله بن خالد، ومن جهة العراق سبعة أميال على ثنية بطرف جبل المقطع، وذكر في كتب المالكية أنه ثمانية أميال، ومن جهة الطائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال عند طرف عرنة، ولعل الاختلاف في تحديد الأميال يرجع إلى الاختلاف في تحديد أذرع الميل وأنواعها، وابتداء الأميال من الحجر الأسود، والميل يعادل (1848) مترًا؛ [من الموسوعة الفقهية ((17 /185-186)).
[13] رواه أبو نعيم في “معرفة الصحابة” (1 /452) وحسن إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله في “الإصابة في تمييز الصحابة” عند ترجمة تميم بن أسد.
[14] – أبو العباس محمد بن يزيد بن عبدالأكبر المبرد، من الأزد، ( 210هـ – 286 ه) من جهابذة علماء العربية، وعلوم البلاغة والنحو والأدب والفنون، كان شديد الغيرة لنسبه العربي، وثقافته العربية، في عصر أخذت الثقافات الأجنبية تغزو المجتمع العربي.
[15] السور الطِّوَل – بكسر الطاء وفتح الواو – والطوال؛ أي الطويلة، وهي في القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، فهذه ستة، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال أم براءة أم هما معًا؛ لعدم الفصل بينهما بالبسملة، أم سورة يونس، وقد ورد فيها عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ السبع الأُوَلَ، فهو حَبْرٌ))؛ أي: عالم.
[16] رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وصححه الألباني.
[17] صحيح، المستدرك على الصحيحين.
[18] يرجع إلى حديث عمر إذ سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت …))؛ [رواه مسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه].