تقرير عبودية ﷲ تعالى في القرآن الكريم


تقرير عبودية ﷲ تعالى في القرآن الكريم

 

إن المتأمل في القرآن الكريم من أوله إلى آخره يتجلى له محوره الرئيس، وهو قضية تحقيق التوحيد وتقرير العبودية التي خلق الله من أجلها الجن والإنس؛ كما قال ربنا: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ويتجلى له أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثًا ولم يتركهم سدًى، كما قال جل في: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، وكما قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [الإنسان: 36].

 

والمتأمل في مطلع فاتحة الكتاب يتضح له جليًّا أمر تحقيق التوحيد وتقرير العبودية، وذلك في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، ثم إن المتتبع لسور القرآن كلها يراها تقرِّر هذا الأصل العظيم بوضوح وجلاء، وذلك من أول الأوامر الواردة في القرآن في قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: من آية: 21]، وبأول النواهي في المحذرة من الشرك المنافي للتوحيد بعدها مباشرة في سورة البقرة – كذلك – في قوله تعالى: ﴿ فَلا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا ﴾ [البقرة: من آية: 22] وانتهاءً بسورتي الإخلاص “الكافرون والإخلاص” وختام القرآن بـ”المعوذتين”.

 

يرى تقرير العبودية في القرآن الكريم واضحًا جليًّا في كل سور القرآن وآياته.

ومن هنا يتبيَّن أن بيان تقرير العبودية لله هو المحور الرئيس في القرآن الكريم.

 

وفي نحو ذلك يقرر الفخر الرازي (ت: 606هـ) – رحمه الله- فيقول: «والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى، فقوله: ﴿ الرحْمَنِ الرحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3] يدل على الإلهيات، وقوله: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدينِ ﴾ [الفاتحة: 4] يدل على المعاد، وقول: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، يدل على نفي الجبر والقدر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالينَ ﴾ [الفاتحة: 6-7]، يدل أيضًا على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة، وكانت هذه السورة مشتملة عليها، لقِّبت بأم القرآن»[1].

 

وفيما ذكره الفخر الرازي وقرره إنما هو تقرير لكل أنواع العبودية في فاتحة الكتاب، فاشتمال السورة على حمده تعالى وتمجيده بأسمائه وصفاته، والثناء عليه، والإقرار باليوم الآخر وإثبات البعث والجزاء، وتنزيه الله عن كل نقص، ووصفه تعالى بكل كمال يليق بذاته المقدسة، وحصر العبادة والاستعانة فيه وحده، وطلب الهداية إلى صراطه المستقيم، والإلحاح عليه بالثبات على هذا الصراط، صراط المنعم عليهم، وطلب البعد عن طريق أهل الغواية والزيغ ممن غضب عليه وأضلهم، كل ذلك يؤكد ويبرهن ويوضح تقرير فاتحة الكتاب للعبودية بمعناها الشامل والكامل، وآيات السورة مقررة لأنواع التوحيد الثلاثة.

 

ومما يبرهن ويؤكد تقرير الفاتحة للعبودية حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تعالى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللَّهُ تعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، قَالَ اللَّهُ تعالى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالينَ ﴾ [الفاتحة: 6-7]، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[2].

 

ولا شك أن الفاتحة اشتملت على ما في القرآن إجمالًا، فناسب افتتاح الكتاب بها، ثم تلتها باقي سور القرآن لتورد كل ما ورد فيها تفصيلًا.

 

ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين.


[1] تفسير الفخر الرازي: (ص: 145). مفاتيح الغيب – التفسير الكبير المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعة: الثالثة – 1420هـ.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
دروس في عقائد الإمامية
منهج التكامل الروحي – ج2