حكم مقلوب التورق المصرفي
حكم مقلوب التورق المصرفي
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم مقلوب التورق المصرفي على قولين:
القول الأول: عدم جواز مقلوب التورق المصرفي.
وبه صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة،[1] وهو اختيار أكثر الباحثين المعاصرين[2].
واستدلوا بأدلة:
الدليل الأول (من جهة القصد والمآلات): لما كان يُقصد من هذه المعاملة أن تكون بديلة عن فوائد الودائع الآجلة المحرمة، ونتيجتها هي ذات نتيجة الودائع الآجلة؛ حيث يُضمن للعميل ماله، مع زيادة بنسبة محددة بعد أجل، كان حكمهما سواء[3].
ونوقش من جهتين:
الأولى: أن القصد من هذا المنتج ليس أن يكون بديلاً للوديعة لأجل، بل للحساب الجاري المعطّل عن الاستثمار المباح[4].
والثانية: أن العملية من جهة المآلات تمت عبر بيع وشراء حقيقي، وكونها حققت نفس النتائج فهذا دليل على كونها بديلاً تامًا ومباحًا.
وأجيب (من جهة الفرق بين الوساطات الربوية والإسلامية باعتبار الأثر): أن هذه العملية تُحوّل المصرف الإسلامي إلى مجرد مصدر للنقد، كالبنوك الربوية، عن طريق سلع صورية، دون القيام بأيّ نشاط، أو توظيف للمال حقيقيّ[5].
الدليل الثاني (من جهة بيان الحيلة): أن حقيقة هذه المعاملة نقد معجّل بنقد مؤجّل أكثر منه، وهذه هي حقيقة الربا، وأدخلت بينهما السلعة للتحايل، ولم تكن مقصودة، بدليل:
أ- أن السلعة ليست من السلع المحلية، التي يمكن للعميل رؤيتها، أو تسلمها، بل قد حددتها بعض النوافذ بأنها من المعادن، وخصّصها البعض الآخر بالبترول، واليوريا[6].
ب- أنه لا يحدث تسلمٌ للسلع، ولا احتفاظٌ بها؛ خوفًا من تقلبات الأسعار، وهو دليل على عدم حصول تداول حقيقي للسلع[7].
ج- أن الإجراء الواقعي الذي يحصل هو أن العميل يعبأ نموذج توكيل بشراء سلعة، ويودع قيمة الشراء، ثم يشعره المصرف بأنه تمّ تنفيذ طلبه، ثم يعبأ نموذج بيع للمصرف، فلم تخرج المعاملة عن تعبئة أوراق، ولم يحصل تملك للسلع إلا بالمستندات فقط[8].
ونوقش: أن العميل بالشراء يصبح مالكًا للسلع، ثم إن المصرف بشرائها منه يصبح هو المالك لها، والقبض حاصل حكمًا؛ بقبض إيصالات السلع[9].
الدليل الثالث (من جهة التخريج على الفروع): أن هذه العملية أشبه بعكس العينة المحرّمة،[10] حيث إن المصرف هو الذي يشتري للعميل، وهو الذي يضمن له شراءها منه بزيادة[11].
ونوقش: أن وجود طرف ثالث أجنبي عن العاقدين، يبعدها عن شبه العينة، أو عكسها[12].
وأجيب من ثلاثة وجوه:
الأول: أن المصرف يقبض الثمن قبض ضمان؛ لأنه يتصرف فيه لمصلحته بمجرد قبضه، فليس هو وكيلاً للعميل، بل مقترض منه.
والثاني: أن المصرف إنما يتصرف لمصلحته، فهو يشتري من السلع ما يرغب بعد ذلك بشرائه؛ لكونه أكثر نفاقًا، وأقل مخاطرة، فظهر أنه يشتري بصفته مشتريًا، لا وكيلاً؛ إذ الوكيل إنما يتصرف لمصلحة موكله، لا لمصلحة نفسه[13].
والثالث: أنه مع ضمان المصرف وتوليه طرفي العقد؛ وكيلاً في الشراء، ثم مشتريًا، أصبحت المعاملة وكأنها ثنائية، لا أثر للطرف الثالث فيها، بل ووجوده غير مقصود للطرفين[14].
القول الثاني: جواز مقلوب التورق المصرفي.
وبه صدر قرار الهيئة الشرعية لبنك البلاد،[15] واختاره عدد من الباحثين[16].
واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول (من جهة الفرق بين الوساطة الإسلامية والربوية باعتبار محل العقد): أن هذه العملية مبنية على البيع والشراء، والبيع فيها مستكمل الشروط والأركان، منتفية عنه موانع الصحة، وهي ليست من باب دفع نقد مع ضمان ردّه بزيادة؛ إذ المبلغ الذي للعميل على المصرف هو نتيجة بيع العميل للمصرف سلعة، بثمن معلوم، وأجل معلوم[17].
ونوقش من وجهين:
الأول: بما سبق من كون البيع والشراء صوريًا، للتوصل إلى بيع النقد بالنقد.
وأجيب: أنه ليس من شرط صحة البيع قصد المشتري للانتفاع بذات السلعة، بل غالب التجار لا يقصدون اقتناء السلع، وإنما قصدهم من تقليبها، والتوسط بها زيادة رؤوس أموالهم[18].
والثاني: أن هذا البيع لم تنتفِ عنه موانع الصحة؛ إذ المصرف يلتزم للعميل بشراء السلعة منه، بعد شرائها له، فعاد ذلك إلى أن العميل قد باع السلعة قبل أن يشتريها، ويتملكها، وقد ثبت النهي عن ربح ما لم يضمن،[19] والعميل ما أقدم على شراء السلع إلا لأجل الوعد الملزم من المصرف؛ بدليل:
(أ) أن العميل ليس له مصلحة في إبقاء السلع عنده، إذا لم يشترها منه المصرف.
(ب) بل وسيصبح معرضًا لمخاطر تذبذب السعر، إذا قرر أن يبيعها في السوق[20].
وأجيب: أن الوعد الملزم ليس بيعًا، ولا عقدًا على ما وُعد به، فلا يشترط فيه أن يكون الموعود مالكًا لمحله[21].
الدليل الثاني (بيان حقيقة الوعد الملزم والتركيب في هذه المعاملة): أن المصرف يلتزم للعميل بالشراء منه إذا اشترى السلع، دون أن يلزمه بتوكيله، إن كان قادرًا على شراء السلع التي يريدها المصرف، ودون أن يُلزمه بالبيع عليه، بل له الخيار بالبيع على غيره[22].
ونوقش: أنه خيار شكليّ محض؛ حيث توجد مخاطر شديدة في التعامل المباشر مع السوق الدولية[23].
وأجيب: أن هذا هو سبب توكيل العميل للمصرف في شراء هذه السلع؛ لأجل أن له مزيد دراية، وخبرة بها، ولما في ذلك أيضًا من قطع النـزاع في حال الاختلاف؛ حول جنس السلعة، ونوعها، وأوصافها[24].
القـول المخـتار:
هو القول بمنع هذه المعاملة، للاعتبارات التالية:
أ- بتطبيق قاعدة المدخلات والمخرجات، يتبين أن إدخال السلع في هذه المعاملة كان فعل لغوٍ، لا يعود على الاقتصاد بأيّ قيمة مضافة، بل وتكشف هذه القاعدة كون هذا البديل مجرد صيغة تؤدي إلى إلغاء عنصر المخاطرة، وتؤدي إلى ضمان رأس المال، وما سُمي من الربح، فما هي إلا تحايل على الربا.
ب- أن فيها بيعًا من العميل لما لا يملك، فقد سبق أن الوعد الملزم في المعاوضات يعتبر عقدًا، ويدلّ عليه – في هذه المعاملة – أن المصرف يلتزم بشراء السلع بثمن محدد، أكثر من ثمنها نقدًا، مع احتمال تقلب الأسعار بزيادة، أو نقص.
ج- أن المصرف يتوكل عن العميل في كل إجراءات العملية، فهو وكيله في الشراء، ووكيله في سحب الثمن من حسابه، ووكيله في استلام السلعة، ووكيله في بيعها لنفسها،[25]وقد منع المالكية – رحمهم الله – توكيل الطرف المقابل؛ لسد أبواب التحايل، ففي مواهب الجليل: “ومن هذا الباب مسألة يفعلها بعض الناس، وهي ممنوعة، وذلك أن يدفع لبعض الناس دراهم، ويقول له: اشتر بها سلعة على ذمّتي، فإذا اشتريتها بعتها منك بربح لأجل، ولا إشكال في منع ذلك”،[26] وفي حاشية الدسوقي: “وأما إن أعطى رب مالٍ لمريد سلف منه بالربا ثمانين؛ ليشتري بها سلعة على ملك رب المال، ثم يبيعها له، فهو ممنوع… لأنها لما لم تكن عنده السلعة، كان المقصود بشرائها – ولو على وجه الوكالة صورة – إنما هو دفع قليل؛ ليأخذ عنه كثيرًا”[27].
د- أن وجود الطرف الثالث في هذه المعاملة لا يخرج عن أحد احتمالين؛ فإن كان وجوده غير مقصود في العقد، فالمعاملة أشبه بعكس العينة، وإن كان مقصودًا فهي أشبه بعكس التورق المنظم، وكلاهما سبق بيان تحريمه[28].
وإنما تصح هذه المعاملة، إذا وكل العميل المصرف بشراء سلعة من طرف أجنبي، وبيعها على طرف أجنبي آخر، بشرط أن تتوافر شروط البيع، ومن أهمّ ما ينبغي التأكيد عليه منها:
1- أن يعلم العميل بالسلع المشتراة، وأوصافها؛ لدفع الغرر، والبعد عن الصورية.
2- إذا كان المصرف سيعرض على العميل قائمة بسلع معينة، فلا بدّ أن تكون في هذه القائمة سلعٌ يستطيع العميل قبضها، وبيعها بنفسه؛ لئلا يضطر المصرفُ العميلَ إلى شراء سلعٍ لا يستطيع بيعها إلا من خلاله.
3- أن لا يوكل العميلُ المصرفَ ببيعها إلا بعد تملكه لها، وقبضها، ودخولها في ضمانه.
4- عدم ضمان المصرف لثمن السلع الموكَل بشرائها وبيعها؛ لأن الوكيل أمين.
5- عدم اتفاق الطرفين الأجنبيين على استرجاع السلع إلى مالكها الأول؛ لئلا تقع العينة الثلاثية[29].
[1] التابع لرابطة العالم الإسلامي، في دورته التاسعة عشرة، القرار الرابع، ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في دورتيه الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، ص(61).
[2] وممن رأى هذا القول: سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشـيخ، ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(8)، ود.علي السالوس، ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(13)، ود. شوقي دنيا، ينظر: نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(27)، ود. سامي السويلم، ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(8)، ود. محمد شبير، ينظر: التورق الفقهي، وتطبيقاته المصرفية المعاصرة، ص(36)، ود.أحمد علي عبد الله، ينظر: المنتج البديل للوديعة، ص(4)، ود. سعد الشثري، ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، ص(26)، وأحمد الإسلامبولي، ينظر: المرابحة والعينة والتورق، منشور في مجلة جامعة الملك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي، المجلد 18، العدد1، (67).
[3] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للسويلم، ص(3)، المنتج البديل للوديعة لأجل، للسالوس، ص(13)، نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، لشوقي دنيا، ص(4).
[4] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للمنيع، ص(6).
[5] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للسالوس، ص(11)، المنتج البديل للوديعة، لأحمد علي، ص(18).
[6] نصّ على الأول برنامج نهر، وعلى الثاني حساب الجود الاستثماري.
[7] ينظر: المنتج البديل للوديعة، لأحمد علي، ص(19).
[8] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للسالوس، ص(5، 11).
[9] ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، لسعد الشثري، ص(10).
[10] سبق الكلام عنها، ص(150)، وينظر: الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن، (2/ 746)، منح الجليل، لعليش، (5/ 103)، الفروع، لشمس الدين بن مفلح، (4/ 126).
[11] ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، لسعد الشثري، ص(18)، المنتج البديل للوديعة لأجل، للسالوس، ص(10).
[12] ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، للشثري، ص(8).
[13] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للسويلم، ص(4-5).
[14] ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، للشثري، ص(28).
[15] بعنوان: حساب الاستثمار بالبيع الآجل، رقم 13، ص1-3، وقد ذكروا له عددًا من الضوابط، وصدر القرار بموافقة: الشيخ عبد الله بن منيع (رئيسًا)، ود. عبد الله المطلق، في حين لم ير الجواز: د.عبد الله العمار، ود. يوسف الشبيلي، ود. محمد العصيمي.
[16] وممن رأى هذا القول: الشيخ عبد الله بن منيع، ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(10)، وعبد الباري مشعل، ينظر: تطبيقات الوكالة والفضالة، منشور ضمن أبحاث ندوة البركة الثامنة والعشرين، محاور اليوم الثاني، ص(62).
[17] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للمنيع، ص(6).
[18] ينظر: المصدر السابق، ص(10).
[19] ينظر: نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، لشوقي دنيا، ص(20).
[20] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للسويلم، ص(6).
[21] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للمنيع، ص(8).
[22] ينظر: المصدر السابق، (5).
[23] ينظر: نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، لشوقي دنيا، ص(10).
[24] ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، للمنيع، ص(9).
[25] ينظر: نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، لشوقي دنيا، ص(11).
[27] (3/ 89)، وينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، 13 (1/ 3)، ضمن قرارات وتوصيات المجمع، ص(30)، قرارات وتوصيات ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي، ص(158-159)، الدليل الشرعي للمرابحة، لعز الدين خوجة، ص(147-149)، المعايير الشرعية، المعيار رقم 8، بند 3/ 1/ 3، ص(121)، وقد ذكر هذه الفائدة د. سامي السويلم، ينظر: المنتج البديل للوديعة لأجل، ص(6).
[28] ينظر: ص(150، 414).
[29] ينظر: المنتج البديل عن الوديعة، للشثري، ص(26).