خطبة الوقافون عند آيات الله (1)
خطبة الوقافون عند آيات الله (1)
عباد الله، أنزل الله القرآن على القلوب ليؤثر فيها فتتحرَّك لتعظيم ربها وأمره فتتمثل الأمر وتجتنب النهي، فالقرآن أنزله الله هداية وبشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 – 195].
فمن عمل به رشد، ومن تكبَّر عن أمره ونهيه هلك، وبقدر تعظيم النصوص والعمل بها قلةً وكثرةً تكون منزلة العبد عند ربه، فالله أنزل كتابه نورًا يهتدي به المؤمنون فينير دروبهم ويعلمون به أمر ربهم، فما حالنا مع كتاب ربنا؟ هل كان لنا هاديًا ودليلًا وبرهانًا أم هجرنا قراءته وتعلُّمه وتدبُّره، لقد كان من هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه، كنا لا نتجاوز العشر آيات حتى نتعلَّمها فتعلَّمنا العلم والعمل معًا، وأتى رجل لابن مسعود، فقال له: اعهد إليَّ، فقال: إذا سمِعتَ اللَّهَ يقولُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأرعِها سمعَكَ، فإنَّهُ خيرٌ يأمرُ بِهِ أو شرٌّ ينهَى عنهُ.
والقرآن ناطق بالمعجزات والبراهين على مَرِّ السنين، قال جل جلاله: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]، ولقد جعل الله لكل أحد دليلًا عليه، فمنهم من آمن، فلزم واستقام، ومنهم من أعرض وسيندم، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
عباد الله، إن كلام ربنا نور يهدي به الله من اتَّبَع رضوانه سبل السلام، فاهتدوا بهدي القرآن والسنة، واستمسكوا بأمرهما، ففيهما النجاة في الدنيا والآخرة.
من تأمَّل في كلام الله وجد له أثرًا عظيمًا، فلقد أثر القرآن أثرًا بالغًا فيمن أنزل عليه وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم فيتأثر في سلوكه وتصرُّفاته، فكان قرآنًا يمشي على الأرض، يقرأ القرآن فيتأثر به ويبكي، وكذا حين يُقرأ عليه، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليَّ”، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: “فإني أحب أن أسمعه من غيري”، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: “أمسك” فإذا عيناه تذرفان؛ أخرجه البخاري.
فهل أثَّر القرآن في نفوسنا فوقفنا عند آياته وعملنا بأحكامه.
ولقد أثر القرآن في الملائكة فتنزَّلت لتستمع إليه، فتجتمع ملائكة النهار وملائكة الليل في صلاة الفجر لتستمع القرآن؛ ولذا تستحب إطالة القراءة في صلاة الفجر، قال تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلة يقرأ في مِرْبَده إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ ثم جالت أيضًا، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج، عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول الله: “اقرأ ابن حضير”، قال: فقرأت ثم جالت أيضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ ابن حضير”، قال: فانصرفت وكان يحيى قريبًا منها، خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم”؛ رواه مسلم.
ولقد أثَّر القرآن في الجن فآمنوا، ودعوا قومهم وأنذروهم من مخالفة أمر الله لما سمعوا من عظمة هذا القرآن، فلقد سمعوا ما لا تطيق أنفسهم السكوت عنه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 29 – 32].
ما أعظم بلاغة القرآن! وما أعظم أثره في الإنس والجن والملائكة! فهل أثر القرآن في نفوسنا فوقفنا عند آياته وعملنا بأحكامه.
عباد الله، لقد بلغ تأثير القرآن مبلغًا على كفَّار قريش وعلموا عظمة القرآن وعلو منزلته، فمنهم من آمن فسعد، ومنهم من تكبَّر وعاند، ولما علموا من عظم أثره، نهوا الناس عن الاستماع له، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
ولعظيم أثر القرآن ولذيذ خطابه لا سيَّما لأهل البلاغة والفصاحة، فلقد كان سادات قريش، ومنهم أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريف كانوا يتسلَّلون فيجلسون في مجلس يستمعون فيه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرى بعضهم بعضًا فيتعاهدوا ألَّا يأتوا مرة أخرى، فينكث كل منهم موعده، فيأتي ليستمع ولكن منعهم الكِبْر من الإسلام.
وهذا عتبة بن ربيعة حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوائل سورة فُصِّلت تأثَّر وسأل الرسول بالرحم أن يوقف قراءته، فرجع إلى قريش وقال: إني والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ.
أثر القرآن في أقوام فأسلموا، فهذا جبير بن مطعم بن عدي بعد وقعة بدر في فداء الأسارى وكان إذ ذاك مشركًا، وكان سماعه لآيات من سورة الطور سببًا في إسلامه، فلقد قرأ رسول الله حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ [الطور: 35 – 37] يقول: كاد عقلي أن يطير.
وتستمر السنوات تِلْوَ السنوات ولا يزال القرآن باعثًا لدخول الناس في الإسلام، فلقد انبرى أستاذ في المنطق والرياضيات للقرآن لينقده نقدًا لاذعًا منطقيًّا ليقدم خدمة للكنيسة، فماذا وإلى أي شيء قادته تلك الرؤيا.
فيقول: لقد استفزتني لغة التحدي في القرآن ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] وآيات أخرى تتحدَّى أن يؤتى بمثله أو عشر سور أو سورة أو آية ولم يتقدم بلغاء العرب وفصحاؤهم للإتيان بمثله؛ مما أثار عندي التحدي لنقده، فانظروا إلى أي شيء قادته رؤيته:
1- استوقفني قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98] ومن المستقر عندنا أن من أعان محمدًا على القرآن الشياطين، فكيف يطلب من الناس أن يتعوَّذوا منه.
2- لم يكن القرآن كتابًا خاصًّا بمحمد، فلم يخلد سيرته الذاتية ولم يكتب عن معاناة فقده لزوجه وأولاده؛ مما يؤكد أنه كتاب منهج لا كتاب شخصي.
3- شدني حفاوة القرآن بعيسى بن مريم فقد ذكر خمسًا وعشرين مرة، وحفاوة القرآن بمريم عليها السلام فوضعت لها سورة باسمها.
4- كان القرآن يأتي بأخبار الأمم السابقة ويقول: ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، ولم يعترض من الكُفَّار أحد ولو زورًا.
5- وأما قصة الغار التي أكدت العناية الإلهية بمحمد صلى الله عليه وسلم وحال محمد في الغار واطمئنانه فيه حين وقف الكفار عند فوهة الغار كان يقول لصاحبه: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] يأتي بالحقائق العملية، ثم يطالب من يجهل بسؤال أهل الذكر عند الجهل.
6- استوقفتني سورة المسد وأبو لهب، فقد حكمت بالكفر على أبي لهب قبل موته بعشر سنين ولم يسلم ولو حتى زورًا؛ ليثبت كذب محمد ولكن العجب العجاب أنه زاد عداوة لابن أخيه وصدق رب العالمين.
7- وربما تكون هذه الآية المؤكدة للواقع السياسي المشاهد وحالته هو شخصيًّا قادته لدخول الإسلام؛ وهي قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 82، 83]، فنظرت في علاقة اليهود مع الفلسطينيين ثم شعر بما قالت الآيات فداخله الإسلام ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125] ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان من الدعاة إليه بعدما كان من أشد أعدائه وأكثرهم حقدًا عليه.