خطبة: بذل المعروف
بذل المعروف
الخطبة الأولى
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعَّالُ لما يُريد، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، أحمده وأشكره وأُثني عليه الخير كله، هو ربُّ كلِّ شيء ومليكه، وأُصلِّي وأُسلِّم على رسوله ومصطفاه محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه تفوزوا وتفلحوا، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله، إن من حكم الله تعالى ما قسم الدين بين عباده كما قسم أرزاقهم؛ فمنهم من يُفتح له في العلم والدعوة، ومنهم من يُفتح له في الصلاة والعبادة، ومنهم من يُفتح له في اصطناع المعروف ونفع الناس وبذل الخير لهم إلى غير ذلك من سُبُل الخير وأبواب الإحسان، فمن فُتِح له باب من الخير فليلزمه، وليشكر الله تعالى عليه ويسأله الثبات على هذا الخير والمزيد من فضله، وليستحضر دائمًا أنه ملاقٍ ربَّه جل وعلا، وسيُجازيه بإحسانه إحسانًا، فهو القائل: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 39 – 41].
إخوة الإسلام، بذل المعروف ونفع الخلق هدْيُ الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والصالحين من هذه الأُمَّة؛ فهذا موسى عليه السلام أغاث الذي استغاثه، وسقى للفتاتين لمَّا عجزتا عن السُّقيا؛ لوجود الرجال كما ورد ذلك في الكتاب العزي، ولمَّا تكلَّم المسيح عليه السلام في المهد قال:﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾ [مريم: 30، 31]، قال مجاهد رحمه الله: «أي: نَفَّاعًا للناس أينما كنت»، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بذل نفسه للناس نفعًا حتى حطموه كما في حديث عَبْدِاللهِ بْنِ شَقِيقٍ رضي الله عنه قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، بَعْدَمَا حَطَمَهُ النَّاسُ»؛ رواه مسلم.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “كَأَنَّهُمْ بِمَا حمَّلوه من أثقالهم صيَّروه شَيخًا محطومًا”، وخطب عثمان رضي الله عنه فَقَالَ: «إِنَّا وَاللهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا، وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا، وَيَغْزُو مَعَنَا، وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ»؛ رواه الإمام أحمد، وكذا باقي أنبياء الله تعالى ورُسُله كانوا سبَّاقين لنَفْع الخَلْق وأعظمُ نَفْعٍ لهم تبليغُهم رسالات ربِّهم ونُصْحُهم وإرشادُهم لسُبُل الخير، وقد سار سَلَف الأُمَّة الصالح على الهدي النبوي في بذل المعروف، ونفع الناس، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «وَاللَّهِ لأَنْ أَقْضِيَ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ حَاجَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ»، وقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ رحمه الله تعالى: «أَيُّ الدُّنْيَا أحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ».
أيها المسلمون، بذل المعروف بابٌ من أبواب الخير ونيل الثواب العظيم إذا اشتمل على الإخلاص، فالباعث عليه ما في القلب من رحمة الغير؛ ولذا كان بذلُ المعروف صَدَقةً كما قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ))؛ رواه الشيخان، والمعروف كلمة جامعة تجمع بذل الخير والإحسان للناس بالقول أو بالفعل، كبُر المعروف أو صغُر، كثُر أو قلَّ، ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يترك بذل الخير والإحسان ولو كان قليلًا؛ فإن عامله سيراه في ميزان حسناته ويُسَرُّ به يوم الدين:﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وأبواب وصور المعروف كثيرة، فمن صوره: طِيبُ الْكَلَامِ، وَالتَّوَدُّدُ للمسلمين بِجَمِيلِ اللفظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعانة المحتاج، وتفريج الكُرَب، وإغاثة الملهوف، ونُصْرة المظلوم، والشفاعة الحسنة، وَالْمَعُونَةُ فِي النَّائِبَةِ، والسعي للإصلاح بين المتخاصمين، فكل ذلك وغيره من صُوَر بذل المعروف الباعث عَلَيْهِ حُبُّ الْخَيْرِ والصَّلَاحِ لِلنَّاسِ ابتغاءً للثواب من الله تعالى.
وقد جاء في أحاديث ضرب أمثلة على صور للمعروف المبذول، ومنه ما قد يستقله الناس ولا يأبهون به؛ لكنه ممَّا يُحِبُّه الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ))، وفي رواية للبخاري: ((تُعِينُ صانعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ)).
وسأل رجلًا النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ:((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الْأَرْضِ))؛رواه الإمام أحمد، فما أعظم الإسلام وشرائعه وهَدْيه.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه وبسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون، كلما كان العبد أكثر بذلًا للمعروف كان أكثر جنيًا لثمراته، وتحصيلًا لآثاره التي جمعت خيري الدنيا والآخرة:
• فمن آثار بذل المعروف: نيل رحمة الله وإحسانه وتوفيقه، فهو القائل جَلَّ وعلا: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إلا الرُّحَمَاءَ))؛ رواه البخاري.
• ومن آثار بذل المعروف: استدامة النِّعَم؛ لأن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمةً أحبَّ أن يرى أثرَها عليه، وقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ))؛ رواه أبو نعيم والطبراني وحسَّنه الألباني،فأقوى ما تُحفظ به نعم المال والجاه والقوة شكر المنعم عليها باصطناع المعروف بها وبذلها لمن يحتاج إليها، هذا عدا ما يناله من دعاء من بذل لهم معروفه، وصنع فيهم صنيعته وإحسانه.
• ومن آثار بذل المعروف:رد سوء المقادير في النفس والأهل والولد والمال؛ كما في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ))؛ رواه الطبراني.
• ومن آثار بذل المعروف:تفريج كُرَب الدنيا والآخرة؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ))؛ رواه مسلم.
• ومن آثار بذل المعروف:محبة الناس ودعاؤهم؛ لأن النفوس مجبولة على حُبِّ مَن يتمنَّى لها الخير، ويصنع لها المعروف، ويبذل لها ماله وجاهه ووقته ونفسه، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ))؛ رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
فصنائع المعروف تنشر المودَّة والسرور، وتُقرِّب القلوب، وتُزيل شحناء النفوس، فلا يتقاعس عنها إلا مبخوس الحظِّ محروم، ولربَّما درأ الله تعالى عن العبد كريهات القدر بمعروف بذله لم يظن أنه رد أمرًا عظيمًا عنه.
جعلنا الله تعالى من أهل المعروف، ومَنَّ علينا بنفع الناس، إنه سميع مجيب.
عباد الله، صلُّوا وسلِّمُوا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل عليمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارْضَ اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصَّحْب والآل ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنِّك وكرَمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرْك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانْصُر عبادك الموحِّدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقْ ولي أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهُمَّ أصلح نيَّاتنا وذرياتنا، وبلِّغْنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنَا عذاب النار.
سبحان ربك رب العِزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.