ذنوب الخلوات تأكل الحسنات (خطبة)
ذنوب الخلوات تأكل الحسنات
نقف اليوم مع آفةٍ من آفات المجتمع، هذه الآفة ابتُلي بها الكثير من الناس اليوم، هذه الآفة لخطورتها تُسقِط صاحبَها من عين الله عز وجل، هذه الآفة تُؤدِّي إلى ضياع الحسنات والأجور التي تَعِبَ العبد في تحصيلها؛ بل تؤدِّي بصاحبها إلى سوء الخاتمة والفضيحة يوم القيامة، هذه الآفة قال عنها العلماء بأنها أصل الانتكاسات، فكم من إنسان كان ملتزمًا بطاعة الله، وفجأة تغيَّر حاله وترك طاعة الله، والسبب هي هذه الآفة، فيا ترى ما هي هذه الآفة الخطيرة؟!
هذه الآفة هي (ذنوب الخلوات)، ذنوب الخلوات هي المعاصي التي يرتكبها المرء في حال غيبته عن عيون النَّاس واختلائه بنفسه.
يقول الرجل العابد الزاهد بِلَالُ بْنُ سعد رحمه الله وهو يُحدِّثنا عن هذه الآفة: “لَا تَكُنْ وَلِيًّا للَّه فِي العلانية وعدوَّه في السِّرِّ، ولا تكن عدوَّ إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم فِي السِّرِّ “[1].
والله إنها لنصيحة عظيمة، هذا الرجل الصالح أراد من خلال نصيحته هذه أن يقول: هناك من الناس من يُظهِر لك الخشوع والتقوى والتديُّن، يُصلِّي في المسجد، ويقرأ القرآن، ويذهب إلى العمرة، ويتصدَّق، تراه لا ينظر إلى الحرام، ولا يستمع إلى الحرام، ولا يتكلَّم بالحرام، ولا ينشر الحرام، فأمام الناس كأنَّه وليٌّ من أولياء الله تعالى؛ لكنَّه إذا جلس في بيته واختلى بنفسه قصَّر في صلاته، تجرَّأ على معصية الله، فتراه ينظر إلى الحرام، ويستمع إلى الحرام، وتكلَّم بالحرام، ويتعامل بالحرام.
أمام الناس أخلاقه عالية، يتعامل مع الناس بأخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكنه عندما يدخل بيته، ويكون بعيدًا عن عيون الناس يتعامل مع زوجته وأولاده بأخلاق أبي جهل.
إذا وقف أمام الناس أظهر أنه عدوٌّ للشيطان؛ ولكنه إذا كان بعيدًا عن عيون الناس كان صديقًا للشيطان ومطيعًا له، إذا كان أمام الناس أظهر أنه ناصح وأمين، ولا يأكل الحرام، ولا يأكل حقَّ الناس؛ ولكنه إذا غابت عنه عيون الناس وسنحت له الفرصة أن يأخذ أموالًا مُحرَّمة أخذها وخان الأمانة؛ فهذا الرجل الصالح يُحذِّرنا من ذنوب الخلوات فيقول: ((لا تكُنْ وليًّا من أولياء الله أمام الناس، عدوًّا لله في خلواتك))، قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، هل تدري أخي المسلم ما معنى أن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور؟!
اسمع إلى سيدنا ابن عباس رضي الله عنه وهو يُفسِّر لنا هذه الآية فيقول: معنى قوله: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ هُوَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ – سواء كان بيت جاره أو صديقه أو أحد أقاربه- وَفِيهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ وَبِهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَطِنُوا غَضَّ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ، فَإِذَا فَطِنُوا غَضَّ [بَصَرَهُ عَنْهَا] وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنْ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى فَرْجِهَا [2] يعني أن الرجل أمام الناس يُظهِر أنه غاضٌّ لبصره ألا ينظر إلى الحرام؛ ولكنه إذا كان بعيدًا عن عيون الناس نظر إلى الحرام.
إذا كان الواحد مِنَّا يوقِنُ فعليًّا أن الله تعالى يراه ومُطَّلِعٌ عليه، فكيف يتجرَّأ على معصيته؟! وكيف يجعله أهون الناظرين إليه؟! يهتم لنظر الناس، ولا يهتمُّ لنظر الله تعالى! أين نحن من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]رب العالمين جلَّ جلالُه يسمع ويرى ومُطَّلِع على الصغيرة والكبيرة، وستعرض عليك يوم القيامة بالصوت والصورة﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
أين نحن من درجة الإحسان التي عرَّفها لنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) [3].
أين نحن من نصيحته صلى الله عليه وسلم لسيِّدنا أبي ذرٍّ رضي الله عنه عندما قال له: ((اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))[4] ومعنى ((حيثما كنت)) في السِّرِّ والعلانية، مع الناس أو في خلوتك..فأين نحن من هذا كله؟!
ومن خطورة ذنوب الخلوات أنها أصل الانتكاسات، وسبب للضياع والخسران، فكم من الناس من كان ظاهره التديُّن والصلاح، كانت لا تفوته الصلاة في المسجد، كان من أهل القرآن، ومن أهل الصدقات؛ لكن فجأة تبدَّل حاله وانتكس، ترك الصلاة في المساجد، هجر القرآن، وراح يمشي مع أهل السوء، لماذا يا ترى؟! ما هو السبب؟!
لو تأملنا في أغلب من كان هذا حاله لرأينا أن السبب هي معصيةٌ اعتاد عليها في الخلوات؛ لذلك أجمع العارفون بالله “أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات”، ويؤيِّد ذلك ابن رجب رحمه الله، فقال: “وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ”[5] يعني: ذنوب الخلوات هي التي تجعل صاحبها يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله، فهل ينتبه الواحد منا إلى خطورة ذنوب الخلوات؟!
أيها المسلم الكريم، كُلُّنا يعلم أن من قواعد شريعتنا الإسلامية أن الحسنات يُذْهِبْن السيئات، قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]؛ ولكن ربما لا يخطر على بالِ الكثير من الناس أن هناك سيئات تذهب بالحسنات؛ ولكن كيف ذلك؟!
اسمع إلى الصحابي الجليل سيدنا ثوبان رضي الله عنه وهو يروي لنا حديثًا فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا)).
الصحابة رضي الله عنهم تعجَّبُوا من هؤلاء؟! ما هي أعمالهم؟! لماذا حسناتهم تكون يوم القيامة هَبَاءً مَنْثُورًا؟!
قَالَ ثَوْبَانُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِن اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ – حتى قيام الليل يقومون- وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا))[6].
يا الله، هل تتأمَّلون معي: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُحدِّثنا عن العُصاة الذين لا يُصلُّون ولا يصومون ولا يتصدَّقُون، لا وإنما يقول للصحابة رضي الله عنهم: إنهم من المسلمين، ولهم من الأعمال الصالحة ما لهم، من قيام ليلٍ وصدقاتٍ وصيامٍ وتلاوةِ قرآنٍ؛ ولكنهم ((أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)).
هو يُصلِّي نعم؛ ولكنه يتجسَّس على بيوت الناس، هو يصوم؛ ولكنه ينظر على مقاطع مُحرَّمة، هو يقرأ القرآن؛ ولكنه يستمع إلى الأغاني المُحرَّمة، هو يفعل الخيرات؛ ولكنه يسهر على المُحرَّمات، فهؤلاء أعمالهم ستكون هباءً منثورًا.
مقياس إيمانك الحقيقي ومقدار حُبِّك لله وتعظيمك له ليس بصلاتك أمام الناس، ولا بتلاوتك للقرآن أمام الناس، ولا بصدقاتك أمام الناس؛ لكن مقياس إيمانك هو في خلواتك، عندما تكون وحدك بعيدًا عن عيون الناس، فإذا دعتك نفسك للمعصية فتركتها لأجل الله، فهذا دليلٌ على قوة إيمانك ومحبَّتِك لله، أمَّا إن أطعتها وعصيت ربَّك، فهذا دليلٌ على ضعف إيمانك.
قال ابن الأعرابي: “أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح مَنْ هُوَ أقربُ إِلَيْهِ من حبل الوريد“[7].
وقال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: “الحذرَ الحذرَ من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تُسقِط العبد من عينه سبحانه”[8]، ومتى سقطت من عين الله فكيف تُفلِح؟!
فيا أخي، يا من تجلس على جوَّالك وتنظر الى الحرام، أما علمتَ أنَّ الله رقيب، يا من تُراسِل البنات والمتزوِّجات وتعبث بأعراض الناس، ألا تعلم أنَّ الله يسمع ويرى، هل ترضاه لأختك؟ هل ترضاه لبِنْتك؟ هل ترضاه لأُمِّك؟ هل ترضاه لزوجتِك؟ والله، إنَّ العبث بأعراض الناس دين، وكما تدين تُدان.
يا من تختلي بنفسك بعيدًا عن عيون الناس وأنت تنظر إلى الحرام، وتستمع للحرام، وتتكلَّم بالحرام، وتتعامل بالحرام، تذكَّر يا أخي أن ذنوب الخلوات تُسْقِطك من عين، وتجعل حسناتك هباءً منثورًا، وتجعلك تموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله، فهل من توبة صادقة من هذه الذنوب؟ هل من رجوع حقيقي إلى الله ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18، 19].
أسأل الله العظيم أن يحفظنا وإيَّاكم من الذنوب والمعاصي، وأن يُعيننا على أنفسنا آمين، اللهم آمين.
الخطبة الثانية
كيف يتخلَّص الإنسان من ذنوب الخَلَوات؟
سؤال يدور في بال الكثير من الناس: كيف يتخلَّص الواحد من ذنوب الخَلَوات؟
والجواب على هذا السؤال كالآتي:
أولًا: على المسلم أن يُكثِر من الدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى بأن يصرف عنه الذنوب والمعاصي، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
ثانيًا: أن يُجاهد نفسه، ويدفع وسوستها، ويشغلها بكل خير؛ لأن النفس إن لم يشغلها بالخير شغلته بالشر، وعليه أن يُقلِّل من الجلوس خاليًا وحده حتى يسد مدخل الشيطان إليه في الخَلَوات.
ثالثًا: أن يستشعر عظمة الله ومراقبته، وأنه رقيب ومُطَّلِع عليه في كل حال، فقد قال رجل لأحد السلف: عِظْني، فقال: اتَّقِ اللهَ أن يكون أهون الناظرين إليك، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ إِمَّا لَهُ وإما لِغَيْرِهِ:
إِذَا مَا خَلَوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عليه يغيب[9] |
رابعًا: أن يجعل الموت نَصْبَ عينيه، فلو أن الموت جاءه وهو في حال فِعْل المعصية، وارتكاب الذنب, فكيف سيقابل ربَّه وهو في تلك الحال؟!
خامسًا: أن يجعل نصب عينيه ما أعَدَّه الله تعالى لمن يخشاه في الغيب من المغفرة والثواب الكبير﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [الملك: 18].
اللهُمَّ أن أمر أنفسنا بيدك، فسخِّرها لطاعتك، واعصمها عن معصيتك، وارزقها جنتك، إنك سميع الدعاء.