رسائل ووقفات مع بداية العام الدراسي (خطبة)
رسائل ووقفات مع بداية العام الدراسي
الحمدُ للهِ وليِّ المؤمنين، أرحمُ الراحمين وأكرم الأكرمين، الإله الحق المبين، منهُ المبتدأ، وعليهِ المعتمدُ، وبه نستعين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحدهُ لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]، والصلاةُ والسلامُ على أشرف الخلق أجمعين، المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله الطيبين، وصحابتهِ الغرِّ الميامين، والتابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن خير الوصايا الوصيةُ بتقوى الله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].
معشر المؤمنين الكرام، المتأملُ في سرعة انقضاء هذه الإجازة، يجد أنها وإن كانت فترةً قصيرةً في عمر الزمن، إلا أنها طويلة في حساب المكاسب والخسائر، فقد غنم فيها قومٌ، وخسر فيها آخرون، وعجلةُ الزمن تمضي بلا توقف، وشتان بين من حفظ أوقاته، فكانت الثمرةُ زيادة في أرصدة حسناته، ورفعة لدرجاته، وبين من فرَّط فيها، فكان من المغبونين، ففي الحديث المتفق عليه: “نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ”.
أيها الأحبة، وتدور الأيام دورتها، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وينطلق قطار التعليم، وتنطلق معه حياةٌ جديدةٌ، مِلؤها التفاؤل والأمل، وإنه لأمرٌ يستحق التفكر والتأمل، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: “مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة”؛ رواه مسلم.
ها نحن أحبتي في الله نعودُ والعَوْدُ أحمَدُ، نعود لنستقبل عامًا دراسيًّا جديدًا، نسأل الله بمَنِّهِ وكرمه أن يجعله عام خيرٍ وبركةٍ وتوفيق، ولنا مع بداية هذا العام الدراسي رسائلَ ووقفات، نوجهها إلى ثلاث فئاتٍ غاليات..
الفئة الأولى، معشر الآباء والأمهات، فأنتم مع بداية كل عام دراسي، تستنفرون جهودكم وتستعدون له بكلِّ ما يلزمه من متطلباتٍ واحتياجات، لكن لعلَّنا لا ننسى أن نستعد بما هو أولى وأحرى، وذلك أن نهيئ أبناءنا نفسيًّا، فهم يقضون في المدرسة ما لا يقل عن ست ساعاتٍ يوميًّا؛ أي ما يقارب ألف ساعةٍ سنويًّا؛ أي: ما يقارب الخمسة عشر ألف ساعةٍ حين يُنهي الطالب مرحلته الجامعية، فهلَّا علَّمناهم كيف يتعلمون، هلَّا بيَّنا لهم أهمية وجودِ أهدافٍ ساميةٍ واضحة للمتعلم، هلَّا أوضحنا لهم الهدف العظيم من هذه الدراسة الطويلة، وذَكرناهم باحتساب الأجر عند الله، هلَّا رفعنا من سقف طموحاتهم، ليكون النفع المتعدي أحبَّ إليهم من النفع الشخصي، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية، فكثيرٌ من أبنائنا وبناتنا الطلاب، يفتقدون لكثيرٍ من أبجديات حُسن التعامل فيما بينهم، نعم أحبتي الكرام، أكثر أبنائنا وبناتنا في أَمَسِّ الحاجة لأن نغرس فيهم معاني البذل والإيثار، وحبِّ الخير للغير؛ لأن نعلمهم أهمية حفظ اللسان، وكفِّه عن كلِّ ما لا يليق بالمسلم لأن نرتقي بأخلاقنا ونبتعد عن السخريةِ والاستهزاء، وأن الأصل بيننا هو التسامح والصفاء، وليس التنابز والشحناء أن نحثهم على التعاون فيما بينهم لتتضاعف الفائدة، فهم إخوةٌ في الله والدين، كما ينبغي أن يعلموا جيدًا أن المدرسة هي واحدةٌ من عدة سُبلٍ للتعلم، وليست هي السبيلَ الوحيد، وأن المتعلم لن يحققَ أهدافه الساميةَ، إلا إذا توكَّل على ربه، ثم اعتمدَ على نفسه، فعلَّم نفسه بنفسه، ولن يتم ذلك إلا أن يملك الطالب رغبةً شخصيةً قوية، وإرادة وتصميمًا، واندفاعًا ذاتيًّا، يجعله يحسن تنظيم أموره، ويجيد استغلال وجدولة أوقاته، ويُتقن فنَّ توظيف مواهبه وامكانياته، ليحقق أهدفه ويصل إلى غايته.
وعلينا معاشرَ الأولياء أن نعي جيدًا أن مهمة التربيةِ والتعليم ليست مقتصرةً على المدرسة، بل إنَّ لنا فيها النصيبَ الأكبر، والجانب الأعظم، ففي القرآن نداء خاص بنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.. ﴾ [التحريم: 6]، وقد قال علي رضي الله عنه عن قوله تعالى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾؛ أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم، بل إن الرسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرر أن المربي والمعلم الأول للولد هو وَالِده، ففي الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ”.
وفي رسالتي الثانية: أنادي إخواني المعلمين وفَّقهم الله، فأقول:
يا معشر المربين الكرام، أنتم بيت القصيد ومحطُّ الركب، أنتم رواد العلم وسُلَّم الترقي، بين أيديكم عقول الناشئة، وعدة المجتمع وأمله، وعليكم بعد الله تعقد الآمال، ولسنوات عدة، تُحطُّ عندكم الرحال، ونبيكم صلى الله عليه وسلم قد أكبَرَ من شأنكم، وأعلى من مقامكم، حين قال عنكم: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ.. وإِن اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتى النّمْلَة فِي جُحْرِهَا، وَحَتّى الْحُوت، لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ”.
ها هم أبناءُ المسلمين قد أقبلوا عليكم مجيبين مجلين، ينتظرون منكم العلوم النافعة، والوصايا الجامعة، فخذوا بمجامع تلك القلوب إلى الله، ودلُّوها على مراضيه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]..
يا مشاعل النور والرحمة، ما كان لله يدوم ويتصل، وما كان لغيره ينقطعُ ويضمحل، فأخلصوا لله القول والعمل؛ قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: لا يزال الرجل بخير إن قال: قال لله، وإن عمل: عمل لله، فجملوا عملكم بالإخلاص، فأجر الدنيا قليل، والآخرة خيرٌ وأبقى..
يا مشاعل العلم والنور، رسالةُ العلم والتعليم اقتداء واتِّساءٌ، اقتداءٌ بخير المعلمين وأحسن المربين، صلوات الله وسلامه عليه، قال معاوية بن الحكم رضي الله عنه: “فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني”، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: “صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قطُّ”، لقد كان صلى الله عليه وسلم خير المعلمين، وأحسن المربين؛ لأنه كان في تعليمه وتربيته حليمًا رحيمًا، رفيقًا شفيقًا، ييسِّر ولا يعسر، يبشر ولا ينفر، ولأنه كان طلقَ الوجه، دائم التبسم، كثير التودد، قال جرير بن عبدالله رضي الله عنه: “ما لقيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم في وجهي”.
وتأملوا يا رعاكم الله مطلعَ سورة الرحمن: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]؛ لتعلموا أنَّ الرحمة هي أهمُّ صفات المعلم، وأن المعلم بلا رحمة يفقدُ أهمَّ مقومات نجاحه..
يا مشاعل الهدى، نعلم أن الأجيال تغيرت، وأن الملهيات والشواغل قد كثرت، فهل الحل في التضجر والشكوى، واليأس من صلاح الأحوال، كيف وأنتم تعلمون: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. والشاعر يناديكم فيقول:
فيا أيها المعلمون الكرام، وطِّنوا أنفسكم واصبروا، وشدُّوا عزائمكم واجتهدوا، واستعينوا بالله ولا تعجِزوا، ابذلوا كل ما تستطيعون، ودافعوا الباطل بكل ما تملكون، واعلموا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، معاشر المؤمنين الكرام، ومع الوقفة الثالثة: وهي موجهة إلى الطلبة والطالبات، أبنائي الأعزاء، بنياتي الغاليات، كم نتألم كثيرًا عندما نرى أحدكم يتبرم ويتأفف؛ لأنَّ وقت الدراسة قد اقترب، وأتساءل مستغربًا: ماذا تتعلمون هناك؟ ألستم تتفقهون في أمور دينكم ودنياكم، ألستم تُنمُّون عقولكم، وتوسِّعون مدارككم، فهل يكره عاقلٌ مثل هذا؟! عسى ألا تكون النيات تغيرت، وأصبح الغرضُ من العلم أن تُنالَ به رُتبُ الدنيا، وأن تُحصَّلَ به الشهادات فقط، فلا عجبَ إذًا أن يُصبح العلمُ مملًا وثقيلًا، وإلا فأسلافنا كان لهم شأنٌ عجيبٌ مع طلب العلم، بالرغم من أنه لم يكن لدى أحدٍ منهم معشارُ ما عندكم من الوسائل المعينة، ومع ذلك فلذَّتُه عندهم لا توصف، ونَهمهم منه لا ينقضي، وما ذاك إلا لأنهم طلبوه قربةً لله؛ تأمل معي ما يقولهُ الإمامُ ابن القيم رحمه الله: “العلم: حياةُ القلوب، ونورُ البصائر، وشفاءُ الصدور، ورياضُ العقول، ولذَّةُ الأرواح، وأنسُ النفوس، ثم يقول رحمه الله: هو الصاحبُ في الغربة، والمحدثُ في الخلوة، والأنيسُ في الوحشة، والكاشفُ عن الشبهة، مذاكرتهُ تسبيح، والبحثُ عنه جهاد، وطلبهُ قربة، وبذلهُ صدقة، ومدارستهُ عبادة، والحاجةُ إليه أعظم من الحاجة إلى الشراب والطعام”.
وهذا شاعرٌ يناجي ولده فيقول:
فالله الله بنيَّ المبارك، اطلب العلم بإخلاص وتجرَّد، واجعل نُصبَ عينيك قول حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة”، والزم تقوى الله، فمَن اتقى الله، فتحَ الله له من أبواب العلم والفهم، ما لا يخطر له على بال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]؛ قال الإمام الثعالبي: من اتقى الله عُلِّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ.
ويا أيَّها الأبناء الأعزاء، ثقوا أنَّ في كل فردٍ منَّكم خصائصَ وصفات، ومواهبَ وقدرات، لو فعَّلها بالشكل الصحيح، لتغيَّرَ طعمُ الحياةِ في حسه، ولشعرَ بقيمته وعلوِّ نفسه، وكم هي والله خسارةٌ عظيمة، وغبنٌ كبير – أن يوهبَ للإنسان عقلٌ سليم، وجسمٌ صحيح، ويُنعمَ عليه بما لا يُحصى من النِّعم والمواهبِ والقدراتِ، ويُمدُّ في عمره سنواتٍ وسنوات، ثم يُضيِّعُ غالب ذلك في التوافه والترهات، ألا ما أشدَّ أن يخسرَ الإنسانُ نفسه؟! ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]..
فيا بنيَّ الأريب، عليك بعُلوِّ الهمَّةِ، وقوةِ الإرادةِ، وسموِّ النفسِ،
ومن لم تكن له بدايةٌ شاقةٌ، فلن تكون له نهايةٌ مُشرقة، ومن طلب عظيمًا بذل عظيمًا.
فكُن رجُلًا إن أتوا بعدهُ يقولونَ مرَّ وهذا الأثر ومن يتهيَّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر |
فيا بنيَّ المبارك، تيقَّن أنك لست بأقلَ من غيرك، ولا أدنى ممن سواك، وأنك من صُنع أفكاركَ، وأنك ثمرةٌ لقناعاتك وإيمانك، فغيِّر قناعاتِك تتغيرْ حياتُك، غيِّر قناعتِك لتحلو حياتَك، وتعظُمَ مُنجزاتُك، وهيا لتكون ما ينبغي لك أن تكون ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
ويا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صلِّ على محمد….