شكاوى النساء من أزواجهن فأنصفوهن (خطبة)
شكاوى النساء من أزواجهنَّ فأنصفوهنَّ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يُقرِّب إلى النار، اللهم آمين آمين يا رب العالمين.
في هذا الزمان وحال أبناء هذه الأمة يُرثى له، فالظلم والقهر والفقر، واقع عليهم من أعدائهم ومن أنفسهم، وكلٌّ منهم يلقي باللائمة على غيره؛ فالشعوبُ تدينُ حكامَها، والناسُ تلومُ علماءها، والكلُّ يعيبُ الزمان، والحقيقة كما قال الشافعي رحمه الله تعالى – في مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 84) -:
نَعِيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لِزَمَانِنا عيبٌ سِوَانا
وقد نَهْجُوا الزمانَ بغير جُرْمٍ ولو نَطَق الزمانُ به هَجانا
ولنضرب على ذلك مثالًا بالأسرة؛ الزوج وزوجته، إذا حصل بينهما سوء تفاهم، فالزوج يتهم الزوجةَ وأهلها بافتعالِ المشاكل، والزوجةُ تعتقدُ أنَّ السبب هو الزوجُ وأبوه وأمُّه أو أقاربُه.
فالأصل فيما يحدث بين الزوجين، أن يبقى بينهما، ولا يفشيانه لا للآباء ولا للأمهات، ويسعيان في حلِّه، دون تدخُّلات قد تفضي إلى تفكُّك الأسرة، ونزاعات بين العائلتين، فبعد المحبة، يكون التباغُض، وبعد المودة تنشأ العداوات والنزاعات.
فمن الظلم أنْ تحرمَ الزوجةُ زوجَها من والديه، فلا يزورهما ولا يزورانه! ومن الظلم أيضًا حرمانُ الزوجِ زوجتَه من والديها، فلا يزورانها ولا تزورهما، وسيحاسب الله جلَّ جلاله المتسبب في تلك القطيعة، ويبتليه بمن ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة.
فتقرَّبي أيتها الزوجة من والدي زوجك، وتحبَّبي إليهما، وعامليهما كما تُعاملين والديك.
وأنت أيها الزوج تقرب من أهل زوجتك، وعاملهم كمعاملة أقربائك، فقد ائتمنوك على عرضهم، وزوجوك ابنتهم، فلا تخنهم ولا تقاطعهم، فالله رقيب، والله حسيب.
فإن تعسَّرت الأمور، وتفاقمت المشاكل، فتوجَّه إلى أهل الخير، أهل الحل والعقد، إلى العلماء، لعلك تجد عندهم حلًّا، ولا تحكم بنفسك على مشاكلك، فقد تأخذك العصبية فتظلم، وقد يعتريك الهوى ويضلُّك الشيطانُ الرجيم، فتعصي الرحمن الرحيم، وتغضب الملك الجبَّار سبحانه.
ثم نجد الزوجَ الظالمَ لأهلِه يشكو من ظلم الحُكَّام والمسئولين، والزوجةُ صاحبة المشاكل تشكو أمام صويحباتها الفقر وقلة المادة وتلقي باللائمة على الزمان!
فيا أيها الزوج، كن على قدر المسئولية، واعلم أن الزوجة تخطئ وتصيب، والخطأ الذي تقترفه، والعوج لا يستقيم، بل لا بُدَّ وأن ترضى أنت بذلك أو تفارق؛ لأنه لا توجد امرأةٌ خاليةٌ من ذلك؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”؛ البخاري (5186).
وقال صلى الله عليه وسلم: (“لَا يَفْرَكْ”)؛ أَيْ: لَا يكره ولا يُبْغِض (“مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ”)؛ مسلم، 61- (1469).
وأنت أيتها الزوجة، اصبري على ما لا ترضينه من معاملة زوجك، وتحمَّلي ما يبدر منه من سوء خلق، أو طول لسان، وتقرَّبي منه، وتحببي إليه، وافعلي ما يرضيه، في غير ما يغضب الله سبحانه.
وإليكم بعض ما حدث في المجتمع المدني، في العهد النبوي، من شكاوى النساء من أزواجهن، وسوء معاملة بعضهم لهن، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عبدالله بْنِ أَبِي ذُبَابٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللهِ”)؛ يعني: لا تضربوا النساء، ففيه نهي عن ضرب الزوجات، وهذا القول وهذا القرار أعطى ذريعة للزوجات بالتطاول على الأزواج، فلا ضرب، انتهى الضرب، قَالَ: (فَذَئِرَ النِّسَاءُ)؛ أَيْ: نَشَزْنَ وَاجْتَرَأنَ، (وَسَاءَتْ أَخْلَاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ)، والآن جاء دور الرجال يشتكون زوجاتهم، (فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ)، (وَسَاءَتْ أَخْلاقُهُنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ!) (فَرَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ضَرْبِهِنَّ)، وهنا اتخذ الرجال هذه الرخصةَ ذريعةً لضرْبِ الزوجات وإيلامهن، (فَضَرَبَ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ)، وفي رواية: (فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ)، (فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: (“لَقَدْ طَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً)، وقفن على باب بيته سبعون امرأة يرفعن قضيتهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، وَايْمُ اللهِ”)؛ أي: وَاللهِ، أقسم بالله، يقول صلى الله عليه وسلم: (“لَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ”)؛ أَيْ: الَّذِينَ يُبَالِغُونَ فِي الضَّرْب وَيُكْثِرُونَ مِنْهُ (“خِيَارَكُمْ”)، كثيري الضرب هؤلاء ليسوا بخيار المسلمين، فالذين يبالغون بالضرب هؤلاء ليسوا من الخيار؛ رواه أبو داود (2146)، وابن ماجه (1985)، وابن حبان (4189)، وقال الأرناؤوط: حديث صحيح، انظر صحيح الجامع: (5137)، المشكاة (3261/ التحقيق الثاني).
أخي الزوج، إذا ابتُلِيتَ بزوجة سليطة اللسان، بذيئة الكلام، فلا تضربْها؛ إمَّا أن تصبر عليها، وإمَّا أن تفارقها، فعَنْ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي امْرَأَةً وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ -يَعْنِي الْبَذَاءَ- قَالَ: “طَلِّقْهَا إِذًا”، فَقَالَ: (إِنَّ لَهَا صُحْبَةً، وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ)، ما هانت عليه، قَالَ: “فَمُرْهَا بِقَوْلٍ فَعِظْهَا؛ لَعَلَّهَا أَنْ تَعْقِلَ، وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ”؛ أي: زوجتك، “كَضَرْبِكَ إِبِلَكَ”؛ ابن حبان (4510)؛ لا تضرب المرأة كما تضرب البهائم يا عباد الله، هذا إنسان بشر.
أخي الزوج، إذا أمَرَتْك امرأتُك بخير أو معروف أو إحسان، فاقْبَل منها، ولا تُعنِّفها ولا تضربها، أو كانت هي أعلمَ منك، معها شهادة في الشريعة والحديث والفقه، وما شابه ذلك أعلم منك بأمور الدين، فاقبل منها، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (أَتَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، شك الراوي قال: (أَوْ امْرَأَةُ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَأْذِنُهُ عَلَى أَبِي رَافِعٍ)؛ يعني ترفع شكوى على زوجها، واستمعوا إلى هذه الشكوى (قَدْ ضَرَبَهَا). قَالَتْ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رَافِعٍ: “مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَبَا رَافِعٍ؟”)، قَالَ: (تُؤْذِينِي يَا رَسُولَ اللَّهِ!) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (“بِمَ آذَيْتِهِ يَا سَلْمَى؟”) تحقيق في المسألة، زوج وزوجته.
قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا آذَيْتُهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ أَحْدَثَ وَهُوَ يُصَلِّي)، يصلي وخرجت منه الريح، وبقي في صلاته، هل يجوز هذا؟ من ناحية شرعية لا يجوز، من ناحية شرعية يعيد الوضوء ويعيد الصلاة، فكانت هي فقيهة وهو لا يعلم هذا الحكم، (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِم الرِّيحُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَقَامَ فَضَرَبَنِي)، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ: (“يَا أَبَا رَافِعٍ، إِنَّهَا لَمْ تَأْمُرْكَ إِلَّا بِخَيْرٍ”)، أحمد (26339)، والبزار (18/ 126)، انظر الصَّحِيحَة: (3070)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
أيتها الزوجة، إن لم تصبري على ضيق خلق الزوج، أو لم تتحملي سوءَ معاملته، فلك أن تختلعي منه، وتردِّي عليه ما دفعه إليك من مال، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -الْأَنْصَارِيِّ- رضي الله عنه فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ بَعْضَهَا) -وفي رواية: (كسر يَدَهَا -وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا)، يعني: لا تحبه النساء، ما عنده جمال (فَكَرِهَتْهُ)- (فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَاشْتَكَتْهُ إِلَيْهِ)؛ -فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَرَاهُ)، معناه: لا أطيقه، كلما أرى وجهه لا أطيقه، (فَلَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَبَزَقْتُ فِي وَجْهِهِ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟» المهر الذي دفعه حديقة بستان، ما شاء الله، قَالَتْ: (نَعَمْ- فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا)، فَقَالَ: “خُذْ بَعْضَ مَالِهَا، وَفَارِقْهَا”، فَقَالَ: (وَيَصْلُحُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!) هل ينفع أن آخذ مالي بعد أن استمتعت بها وما شابه ذلك؟ قَالَ: “نَعَمْ”، قَالَ: (فَإِنِّي أَصْدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ، وَهُمَا بِيَدِهَا)، موجودات عندها، وهما مهر معروف، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خُذْهُمَا وَفَارِقْهَا”، (فَفَعَلَ).
وفي رواية: (فَرَدَّتْ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَام)؛ أبو داود (2228)، وابن ماجه (2057)، وأحمد (16095).
نعرف أن الطلاق؛ الرجل لا يريد الزوجة، وإذا كانت الزوجة لا تريد الرجل ولو لجماله لا تريده، يجوز لها أن تختلع منه.
تزوَّج ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رضي الله عنه امرأة أخرى، والنساء تطمع إلى المهر، والمهر حديقة أو حديقتان مليئتان بالثمار والنخيل والأعناب، فخطب امرأة أخرى وتزوجها؛ وهي جميلةُ أُخْتُ عبدالله بْنِ أُبَيٍّ بن سلول، رضي الله عنها؛ البخاري (5274)، (خ) (5277)، وابن ماجه (2056)، والنسائي (3497). فلم تصبر على معاشرته، ولا العِيشة معه، فاختلعت منه، وردَّتْ عليه حديقته.
ثم تزوَّج ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ أيضًا، مَرْيَمَ الْمَغَالِيَّةَ؛ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ، النسائي (3498)، وابن ماجه (2058).
ويقال تزوَّج أخرى وأخرى وكلها تطمع في الحديقة، ثم لا تطيق معه المعيشة، فهل عاب ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ رضي الله عنه الزمان، وهل اشتكى من الدهر؟
لا والله! بل هو متوكل على الله، وراضٍ بما قسم الله جلَّ جلاله، أتعرفون نهايته وخاتمته وآخر حياته؟
لقد استشهد بأجنادين بين الرملة وبيت جبريل، من أرض فلسطين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمةً مهداة للعالمين كافة، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
لو صلح الفرد لصلحت الأسرة، ولو صلحت الأسرة لصلح المجتمع، وساد الأمن والأمان، والسلم والسلام، وعمَّت الرفاهية البلاد والعباد، ونزلت البركات من السماء والأرض، قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، فلو اتقينا الله في أقوالنا وأفعالنا وإراداتنا، لحفَّتنا البركات، وعمتنا الرحمات، لكن تجد أحدنا لا يتقي الله في ألفاظه، يسبق لسانُه بلفظ الطلاق، أو تحريم الزوجة، أو الظِّهار، فمن فعل ذلك فليتحمَّل النتائج، ولا يلقي باللائمة على الزمان، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم ضاق أحد الصحابة ذرعًا من زوجته، فسبق لسانه بلفظ: (أنتِ عليَّ كظَهْر أمي)، فعَنْ خَوْلَةَ -أو خويلة- بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: (أَنْزَلَ اللهُ عز وجل صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ فِيَّ وَفِي زَوْجِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه)، وأوس بن الصامت هذا هو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنه، (قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ) كانت أصغر منه سنًّا، (وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا؛ قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ، فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا، فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ)، فَقَالَ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، اللفظ سهل، لكن النتائج ننظر الآن (ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي)، يريد أن يستمتع بزوجته، (فَقُلْتُ لَهُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ! لَا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ)، أنت محرم عليَّ الآن (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ)، قَالَتْ: (فَوَاثَبَنِي)؛ أي: يريد منها رغمًا عنها، (وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي، ثُمَّ خَرَجْتُ إلى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ)، قَالَتْ: (فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) (يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ:) (“يَا خُوَيْلَةُ، ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَاتَّقِي اللهَ فِيهِ”)، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي)، من كثرة الأولاد، (حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي؛ ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ)، رفعت الشكوى إلى الله مباشرة، (قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا بَرِحْتُ)؛ أي: ما تركت المكان، (حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ)، يأتيه ما كان يأتيه وقت الوحي، (ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ)، فَقَالَ لِي: “يَا خُوَيْلَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1] أربع آيات من أوائل سورة المجادلة: (إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 4]، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما في الآيات هكذا الحل: (“مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً”)، يشتري له عبدًا ويقول له: أنت حُرٌّ لوجه الله، (فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ)، قَالَ: “فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ”، فَقُلْتُ: (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ)، قَالَ: “فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا”، فَقُلْتُ: (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ)، (مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ)، من جميع النواحي ليس عنده نوع من الكفَّارات، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ”)، فَقُلْتُ: (وَأَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ)، يعني: ساعدت في إخراج الكفَّارة عنه، قَالَ: “قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ”)، (“وَارْجِعِي إلى ابْنِ عَمِّكِ”)، اذهبي فوزعي الصدقات ثم ارجعي إلى ابن عمك، (قَالَ أَبُو دَاوُد: فِي هَذَا إِنَّهَا كَفَّرَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَأمِرَهُ)، يعني: من غير أن تطلب منه، فلو فعلت النساء في هذا الزمان هذا الأمر ما في مانع إن شاء الله؛ الحديث بزوائده عند أبي داود (2214)، وابن ماجه (جه) (2063)، (188)، وأحمد (27319)، وابن حبان (4279)، والنسائي (3460)، انظر الإرواء: (2087)، انظر صحيح موارد الظمآن: (1116)، وقال الحافظ في الفتح: (9/ 433): وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حِسَانٌ.
هذه بعض مشاكل الأسر، وهذه حلولها ومعالجاتها، فليتق الله من ظلم، وليخش الله من عاند وتجاوز حدود الله، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
ألا فصلُّوا وسلموا على الهادي البشير النذير، محمدِ بن عبدالله، فقد صلى الله عليه في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا يدًا على من سوانا، اللهم وحِّد صفوفنا يا رب العالمين، اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم أيِّدنا ولا تخذلنا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا برحمتك يا أرحم الراحمين ارحمنا.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].