عقاب الطلاق
عقاب الطلاق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
كثيرًا ما نسمع في مواقع التواصل وغيرها أن فلانًا طلق فلانة؛ لأنها فعلت كذا وكذا، وكثيرًا من الأحيان يكون فعلها ليس له علاقة بالشرف أو الجرائم النكراء، ومع ذلك تجد أن بعض الرجال يستعملون الطلاق كنوع من العقاب للزوجة، ولا يراعون أن هذا الطلاق يعني هدم أسرة، وتشرُّد أطفال، وضياع عشرة سنين وأموال طائلة صُرِفت في الزواج، وذكريات وأوقات طويلة مرت بحلوها ومُرِّها. فهل لأجل أن الزوجة أخطأت في شيء يرمي عليها زوجها يمين الطلاق؟ وهل يستعمل الطلاق كسوط تضرب به الزوجة؟ هو سوط فعلًا ولكنه لا يضرب الزوجة وحدها، بل يضرب كل أفراد الأسرة بمن فيهم الزوج. وتبعات الطلاق تؤثر فيه على المدى البعيد أكثر مما تؤثر في الزوجة؛ حيث عليه دفع مؤخر الصداق لها بما نص عليه عقد الزواج، كما أنه سيضطر إلى أن يرجع إلى حياة العزوبية ولو لفترة، ويرعى الأبناء وحده ويتكبد متاعبهم، أو يرسلهم إلى أمهم ويرسل إليهم نفقتهم شهريًّا؛ وبذلك يفقد قربهم ورعايتهم، ويتحمل مصاريفهم رغم ذلك؛ فلا هو حصل ماله ولا تمتع بقرب أولاده. وفيما بعد ربما يرى أنه بحاجة إلى زوجة، فيتكلف تكاليف زواج ثانٍ بكل ما فيه من صرف ونفقة قد تفقده الجزء الأكبر من ماله. وربما يجد الزوجة الجديدة بعد ذلك أسوأ حالًا من الأولى، وتُعامِل أبناءه بقسوة أو تكون سيئة الخلق وسليطة اللسان، أو كسولة، أو فاسدة، أو متحررة من الأخلاق والآداب، أو تسيء معاملة والديه أو غيرها من الأمور التي نراها تحدث أحيانًا. وربما يكتشف فيما بعد أنها تزوجته طامعةً في ماله فحسب ولا تحبه. فكل زواج به مغامرة لحد ما. وحتى من قضوا فترة في الخطبة يتعرفون على طباع بعضهم البعض؛ فقد أثبتت التجارب أن هناك أمورًا لا تظهر إلا بعد الزواج. وهذا يشهد عليه الزمن وتقلُّب أحوال الناس فيه؛ ولذا كان على كل مُقدم ومُقدمة على الزواج الاستخارة كثيرًا؛ حيث لا يعلم الغيب إلا الله وما سيأتي من وراء ذلك الزواج. وكم من أناس بدوا بشكل جيد قبل الزواج ثم ظهرت لهم مصائب بعدها أودت إلى مشاكل وطلاق.
والزواج رباط شرعي قوي يجمع بين الزوجين، ويتشاركان فيهالحياة بأدق تفاصيلها، وهو نصف الدين، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رزقه اللهُ امرأةً صالحةً فقد أعانه على شَطرِ دينِه، فليتَّقِ اللهَ في الشَّطرِ الباقي))[1].
وإنهاء الزوج هذه العلاقة ببساطة لمجرد مشكلة أو كلمة أو غلطة ولو كانت كبيرة ليس بمحمود؛ لأن تبعاته لا تقع على الزوجة وحدها، بل تقع على الأسرة كلها. وما أعطى الله تعالى القوامة للرجل إلا بعد علمه أنه سيكون أكثر تريُّثًا في إنهاء تلك العلاقة. واستغلال بعضهم لتلك القوامة ورمي اليمين على الزوجة لإذلالها أو الإضرار بها ليس من الرجولة ولا من الحكمة والعقل، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أو يشجع عليه، بل بالعكس جعل الطلاق أبغض الحلال، قال صلى الله عليه وسلم: ((أبغضُ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ))[2]، وقال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]، ورغم كل ذلك تجد ذلك الفعل يتكرَّر وقوعه في بيوت المسلمين؛ مما زاد من معدل حالات الطلاق وضياع الأطفال وتشتُّت الأسر. والطلاق دمار لصرح قد شُيِّد وتم بناؤه بمجهود كبير؛ ولذا لا ينبغي أن يلجأ إليه أحد إلا عندما لا يوجد حل غيره، وأما استعماله كنوع من العقاب فهو تصرُّف غير حكيم وغير ناضج. والأبناء هم أول من سيتضرر منه؛ لأنهم سيعانون مرارة التشتُّت والبعد عن أحد الوالدين أو كليهما، وربما يضطرون للعيش مع زوجة أب أو زوج أم. وفي كل هذه الأحوال هناك الكثير من المشاكل التي قد يتعرضون لها، مثل الظلم والإهمال والعنف الجسدي والنفسي وربما – في حالات نادرة – التحرش الجنسي. هذا غير المتاعب التي سيواجهها الزوج لاضطراره للصرف على بيتين بدلًا من واحد، لا سيما إن صار له أبناء من زوجته الثانية بجانب أبنائه من الأولى.
ومع كل ذلك نجد قِلَّةً من الناس يستعملون كلمة الطلاق في غير محلها؛ كالحلف بها كقولهم: “عليَّ الطلاق”، وهذا في حد ذاته قد يكون نوعًا من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: ((من حَلَف بغَيرِ اللهِ فقد أشرَكَ))[3]، وبعضهم يستعملها في المزاح، أو لصنع محتوى، أو للتهديد، أو اللعب أو غيرها. وهذا كله يخالف الشرع، وفيه تجاوز واستهانة بالحياة الزوجية والرباط الذي جعله الله ميثاقًا غليظًا، قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]. وفيه تلاعب بحياة الأطفال والزوجة ومصائرهم. وليس ذلك موضع عبث أو مزاح، وفيه عدم مبالاة غير مستساغة واستهتار ببنات الناس. ولو عرف ذوو المخطوبة أن الخاطب لديه هذه العادة السيئة بالحلف بالطلاق في كل صغيرة وكبيرة والتلاعب به؛ لما أعطوه بنتهم من الأساس؛ لأنه ليس مسئولًا ولا كفؤًا لأن يكون زوجًا لبنتهم ولا أبًا لأطفال صغار يحتاجون إلى والديهم معها.
ولا شك أن هناك أخطاء عديدة قد تقع من أحد الزوجين أو كليهما، ولكن كثيرًا منها يمكن معالجته بطرق مختلفة، كما أن كثيرًا منها له أسباب قد تكون وجيهة، فبعضها قد يكون نتيجة لتقصير الزوج في حقوق زوجته، أو ظلمه لها، أو عدم العدل بين زوجاته، أو سوء العشرة، أو إهمالها وعدم إعطائها حقَّها الشرعي، وعدم إعفافها، أو لعيب في الزوج؛ كالبخل والعصبية والكسل والعنف وغيرها. وهذا كله ينافي الشرع؛ حيث كفل الله تعالى للمرأة حقوقها الزوجية من الإحسان وحسن العشرة. ومن حقوقها أيضًا “حقوق مالية؛ وهي المهر والنفقة والسكنى، وحقوق غير مالية؛ كالعدل في القسم بين الزوجات، والمعاشرة بالمعروف، وعدم الإضرار بالزوجة”[4].
وقد تكون المشاكل ناتجة عن تقصير الزوجة في حقوق زوجها مثل عدم الطاعة، وحسن العشرة، والهجر في الفراش، والإسراف في ماله، وإدخال من لا يرضى دخوله في بيته، ونحو ذلك. وعندها ينبغي نصح الزوجة وإرشادها بالوعظ عن عظم ذنب من لا تقوم بحق زوجها؛ فقد تكون جاهلة أو ناسية أو غافلة وينفع معها النصح، وقد تكون صغيرة السن تحتاج إلى الصبر عليها وتعليمها، وقد تكون متأثرة بصديقات السوء، فيمكن نصحها بالبعد عنهم وتهديدها بأن أفعالها تلك قد تجرها لمشاكل كبيرة كالطلاق.
وإن أخطأت الزوجة خطأً فادحًا ولم تسمع للنصح فيمكن عقابها بطرق أكثر حكمةً وقربًا من الشرع. وقد ذكر الله تعالى بعض أنواع السبل، حيث قال: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]، ومن يفهم طبيعة المرأة يجد أن ذلك عقاب يأتي بنتيجة معها، فهي لا تحب الهجر والإعراض من زوجها، وتشعر بقهر عندما يفعل ذلك معها، وإن لم يُجْدِ ذلك فقد ذَكَرَ الله تعالى الضرب الذي ينبغي ألا يكون مبرحًا ولا يكون في الوجه؛ فإن ذلك فيه أيضًا قهر وتعنيف لها، وقد يأتي معها بالإصلاح والتراجع عن الظلم، وغيرها من الحلول العقلانية الأخرى مثل حرمانها من شيء تحبه، أو منعها من الخروج لفترة، أو غيرها من طرق العقاب المعقولة وغير المجحفة، ويأمل منها أن تكون مجدية في الإصلاح، وليست لمجرد الإضرار بالزوجة وإذلالها، وكل ذلك يعمل على حفظ الأسرة وتقوية تماسكها في إطار الزواج مع إصلاح الخلل، وينبغي للزوج تجربة ما ذكر الله تعالى قبل أن يضع حلولًا من عنده لا تأتي إلا بالخراب والخسار وهدم البيوت، وكم من رجل طلَّق زوجته في ساعة غضب، ثم ندم وجلس يلوم نفسه، وربما حاول إرجاعها ولكنها تأبى على الرغم من أنها كانت راضية بعيشتها معه بحلوها ومُرِّها على الرغم من عيوبه الخَلقية والخُلقية، وعلى الرغم من ظروفه من فقر ومرض وسفر وغيره، ولكنه ما إن كسرها وذلها بالطلاق أبت عليها نفسها الرجوع إليه، وربما تركت له الأولاد بهمومهم ومتاعبهم؛ فلم يعد يدري أيذهب لعمله أم يجلس معهم يحرسهم، وربما تزوَّج بأخرى فلم يتأقلموا معها أو أذلتهم وظلمتهم؛ فيندم ويحاول إرجاع زوجته الأولى مرة أخرى ولكنه وجدها تزوجت بمن هو أبرك منه ويعرف قيمتها ويحسن عشرتها ويصبر على ذلَّاتها.
ومن من البشر من لا يخطئ؟ وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن محاولة تقويمه تكسره؛ ولذا لم يقل لهم: قَوِّموا هذا الضلع، بل قال: “استوصوا بها، وترفقوا بها، واصبروا عليها، وأولوها بالرعاية والحماية والصبر والمداراة والرحمة وحسن العشرة. وكان خير الناس لأهله، وكان يحترم نساءه، ولم يهددهن بالطلاق حتى عند غضبه، على الرغم من أن بعضهن كن كبيرات في السن وأرامل ومطلقات، قال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خُلِقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء))[5].
والمرأة إن أخطأت فلا تقوم عادة بأعمال عنيفة كما يفعل الرجال، وكثير من أخطائها يكون نتيجة الغيرة على زوجها؛ أي لأنها تحبه وتغار عليه، وبعض أخطائها تأتي من الضعف أو سوء التصرف والجهل، فلا ينبغي أن تقابل الهفوات بذلك العقاب، بل بالتوجيه، والكلمة الحسنة، والنصح والإرشاد أولًا. وإن لم ينفع ذلك فبالعزل والهجر، وإن لم ينفع بالتهديد بالزواج عليها أو بطلاقها، أو بقطع النفقة عنها، أو بمنع أولادها عنها، وإن لم ينفع ذلك فبتجربة أمور أخرى؛ مثل: الحديث مع والدها، أو توسيط أحد الأقارب. ولا ينبغي اللجوء للطلاق إلا بعد محاولات التعديل لأوقات ليست قصيرة، كمدة سنة ونحوها، فإن استنتج الزوج بأن تلك الزوجة لا يمكن إصلاحها بعد أن حاول ما بوسعه، فعليه أن يستخير الله، ويفكر مليًّا، ويشاور أهل الصلاح والتقوى من النصحاء، ويتفكَّر في مستقبل أبنائه، وكيف سيدبر أمورهم. فإن أرشدته استخارته للإقدام على الطلاق بعد التفكير فليكلم زوجته برفق، ويفارقها بالحسنى واللين، ويُسدي إليها حقوقها كاملة، ولو زاد لكان خيرًا له، وينبغي عليه أن يستمر في السؤال عن أبنائه منها، وينفق عليهم ويرعاهم. فكل تلك خطوات ينبغي أن تحدث أولًا قبل الصراخ ورمي الطلاق أثناء شجار عابر، ولا يحل له أكل مؤخر الصداق إن كان مشروطًا في عقد النكاح إلا إذا سامحته هي فيه، قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]. قال الشيخ بن باز رحمه الله فيه: “ويلزم الزوج إذا طلق أن يؤديه إلا إذا سمحت المرأة الرشيدة بذلك، وأعفته من ذلك فلا بأس”[6]. فبعد أن قضت شبابها وأجمل سنين عمرها في القيام بواجبه، وترهَّل جسمها في حمل أبنائه، وبان على شعرها الشيب، وعلى وجهها تعب السنين، يأتي ببساطة فيفارقها بكل استهتار، ودون أي عوض، ويلقي بها دون مأوى؛ ولذا فالأفضل للمسلمة أن تحمي نفسها من الوقوع في ذلك الوضع، وتطلب من وليِّها الحرص على وضع شرط المؤخر في عقد النكاح، وألا يكون قليلًا ما دام أحَلَّه الشارع لها، وهذا أقل ما تستطيع فعله لحماية نفسها من استهتار الزوج بها وتدميره لحياتها. وعلى الرغم من أن ذلك لن يعوضها عن سنين عمرها التي أضاعتها معه، ولكن على الأقل سيساعدها لأن تبدأ ببناء حياتها من جديد وتحاول إعالة نفسها.
وختامًا أسأل الله تعالى أن يصلح حال الأمة ويرجعهم عن تداول هذه العادة الضارة والمضرة، وأن يرجعهم إلى توجيهات الإسلام في علاج المشاكل الزوجية. ولو أنهم فعلوا وتريَّثوا قبل الإقدام على الطلاق لانخفضت معدلاته، وقلَّ التشتُّت والتفكُّك الأسري الذي انتشر اليوم في أوساط المجتمعات المسلمة، ولوَفَّروا على أنفسهم تكاليف كثيرة وصراخًا وعويلًا ومشاكل الناس في غنى عنها.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر والمراجع:
♦ القرآن الكريم.
♦ موسوعة الدرر السنية لتخريج الأحاديث.
♦ حقوق الزوجة على زوجها وحقوق الزوج على زوجته، موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم (10680).
♦ حكم اشتراط المهر المؤخر عند الطلاق، فتاوى نور على الدرب، الموقع الرسمي للشيخ ابن باز رحمه الله.
[1] ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 92)، وخلاصة حكمه: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما. وأخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (972)، والحاكم (2681)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5487).
[2] ذكره ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 218) وقال: إسناده صحيح. وأخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018).
[3] صححه ابن الملقن في البدر المنير (9/ 459)، وأخرجه أحمد (329)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (826)، والطبراني (13/ 224) (13951) باختلاف يسير.
[4] حقوق الزوجة على زوجها وحقوق الزوج على زوجته، موقع الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم (10680).
[5] أخرجه البخاري (3331)، ومسلم (1468).
[6] حكم اشتراط المهر المؤخر عند الطلاق، فتاوى نور على الدرب، الموقع الرسمي للشيخ ابن باز رحمه الله.