فضل الله عظيم وأجره على العمل القليل جسيم
فضل الله عظيم وأجره على العمل القليل جسيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
اعلموا – أيها المسلمون – أنكم أفضل خَلْقِ الله عند الله، أنتم المؤمنون المسلمون، المتَّبعون هَدْيَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أهلُ السنة والجماعة، نسأل الله أن نكون معهم ومنهم، هم أفضل خلق الله؛ طيبهم وفاسقهم، وطائعهم وشريرهم، كلهم في هذا الزمان أفضل من غيرهم، أفضل مما عنده خير من غير المسلمين، من غير المؤمنين، من غير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه المقدمة، الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على هذا المسلم، وعلى هذا المؤمن، ويمنحه هِباتٍ لا يعلمها إلا هو، أشار إليها في كتابه سبحانه، وعلَّمنا إياها رسولُه صلى الله عليه وسلم، ومن هبات الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن أنه إذا منعه مانعٌ عن الطاعة أو العبادة، ففي الوقت الممنوع فيه، والمحروم منه من هذه العبادة وتلك الطاعة – يُؤجَر كأنه يعمل تلك العبادة، كأنه يقوم بتلك الطاعة، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عبده، هذا أمر أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإليكم البيان:
1، 2) فالسفر – مثلًا – يشغل العبد عن الطاعات، والمرض يُلهي عن العبادة، لكن فضل الله عظيم، فيُثيبه وكأنه عمِلها؛ ثبت أن أبا موسى رضي الله عنه مرارًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرِض العبد، أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))؛ [رواه البخاري (2996)].
(سافر) السفر يمنعه عن كثير من العبادات، و(مرِض) المرض يمنعه من كثير من الطاعات؛ كصلاة الضحى، وقيام الليل، والتسبيح، والصوم، ونحو ذلك، فلذلك يُؤجَر، والعِبرة بالخواتيم، فأكْثِروا من الأعمال الصالحات حتى يُختَم لكم بها، والحكومة والدولة عندما يبلُغ الإنسان سنَّ التقاعد يحاسبونه بحسب آخر شهر، كم راتبه؟ فيعطونه راتب شهر عن كل سنة، فاجعل آخر أيامك أفضلَها، ما هي آخر أيامك؟ لا تدري متى هي، فاعمل من الآن فصاعدًا.
3) كذلك من نوى عَمَلَ طاعةً، وعملًا صالحًا طيبًا، فحال بينه وبين فعله حائل، منعه مانع؛ كتب الله له أجرها، وأجر هذا العمل وإن لم يعملها، وذلك بأمر الله سبحانه وتعالى؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى فراشه – يريد أن ينام – وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح – يعني ما قام يصلي لكنه نوى – كُتِبَ له أجرُ ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه عز وجل))؛ [رواه النسائي (1787)، (1785)، وأبو داود (1314)، وصححه الألباني في الإرواء: (454)، وصحيح الترغيب: (602)].
ربٌّ رحيم، وعبد يستأهل هذا بإيمانه وتوحيده، وشهادته أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، حتى الهَمُّ، لو همَّ بفعل، ثم لم يفعله، كتب له أجره بإذن الله سبحانه وتعالى؛ ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من همَّ بحسنة فلم يعملها، كُتبت له حسنةً، ومن همَّ بحسنة فعمِلها، كُتبت له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها، لم تُكتب عليه، فإن عمِلها، كُتبت عليه سيئةً واحدةً))؛ [الحديث بزوائده عند مسلم 206- (130)، وأحمد (9325)، (7196)، (10466)، وابن حبان (384)، وأخرجه (خ) (6491)، و(م) 207- (131)، (حم) (2001) عن ابن عباس].
والكثير مِنَ الناس مَن يتمنى الشهادة في سبيل الله، فمن تمنَّاها كُتبت له إن شاء الله إن كان صادقًا في نيته؛ وَرَدَ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ من قلبه، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))؛ [رواه مسلم 157- (1909)، وابن ماجه (2797)، والترمذي (1653)، وأبو داود (1520)]، وفي رواية: ((أعطاه الله أجرَ شهيد، وإن مات على فراشه))؛ [رواه أحمد (22110)، وابن حبان (3191)، والحاكم (2411)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن]، وإنما يبعث الناس على نياتهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب الشهادة صادقًا، أُعطيها، ولو لم تُصِبْه))؛ [رواه مسلم 156- (1908)، وأبو يعلى (3372)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يبعث الناس على نياتهم))؛ [ابن ماجه (4229)، وأحمد (9090)].
4) الله سبحانه وتعالى يَهَبُ عبدَه المؤمنَ حسناتٍ بدعاء المؤمنين له بظهر الغيب، في مشارق الأرض ومغاربها، ربما نسيتَ بعضهم وهم لم ينسَوك، فلك أجر على ذلك؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الْمَلَكُ: ولك بمثل))؛ [مسلم 86- (2732)].
وفي رواية البزار عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يُرَدُّ))؛ [البزار (3577)، انظر صحيح الجامع: (3379)]، فأكْثِروا من الدعاء لإخوانكم، وليُكْثِر إخوانكم الدعاء لكم.
الذين ينالون العظمة من الله، يُوكِل الله بهم مخلوقاته في السماء والأرض، يدعون لهم، ويستغفرون لهم، ويطلبون الرحمة لهم، من هم؟ من هذه الأمة إنهم:
5) العلماء وطلبة العلم، ودعاة الخير، أجورهم بقدر من عمِل بعلمهم، على قدر من استفاد من علمهم يكون لهم الأجر والثواب؛ عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من علَّم علمًا، فله أجر من عمِل به، لا ينقص من أجر العامل))؛ [ابن ماجه (240)].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من علَّم آيةً من كتاب الله عز وجل، كان له ثوابها ما تُلِيَت))؛ [أخرجه أبو سهل القطان في حديثه عن شيوخه (4/ 243/ 2)، انظر الصحيحة: (1335)].
وعن قيس بن كثير قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل، فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أقدمك يا أخي؟ ما هو السبب أن تأتي من المدينة إلى الشام؟ قال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمَا جئت لحاجة؟ جئت إلى الشام للتجارة أو أمر آخر؟ قال: لا، قال: أمَا قدِمت لتجارة؟ قال: لا، ما جئت إلا في طلب هذا الحديث، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا من طُرُقِ الجنة، وإن الملائكة لَتضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضًا بما يصنع – هذا لطالب العلم، حسنًا، ومن علَّم الناس ودعاهم؟ نكمل بقية الحديث: ((وإن العالم لَيستغفر له من في السماوات – كل المخلوقات التي في السماوات؛ من ملائكة وغيرهم – ومن في الأرض – كل المخلوقات التي في الأرض؛ من جمادات وغيرها، وللتأكيد على ذلك قال صلى الله عليه وسلم – حتى الحيتان – الأسماك التي تعيش في البحار صغيرة كانت أو حيتانًا عظيمة، تعيش – في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر))؛ [الحديث بزوائده رواه مسلم 38- (2699)، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، (3536)، وابن ماجه (223)، والنسائي (158)، وابن حبان (84)، (1319)، والبيهقي (1696)، انظر صحيح الجامع: (6297)، وصحيح الترغيب: (70)].
6) الله سبحانه وتعالى وملائكته عليهم السلام، وأصغر الحشرات وأعظم المخلوقات تدعو بالرحمة لمن طلب العلم وعلمه، ومعلم الناس؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرَضين، حتى النملة في جُحْرِها – أصغر حشرة النملة – وحتى الحوت – أكبر مخلوق على وجه الأرض ويعيش في الماء، الحوت أكبر من عدة أفيال – لَيُصلُّون على معلِّم الناس الخيرَ))؛ قال الفضيل بن عياض: “عالم عامل معلَّم يُدعى كبيرًا في ملكوت السماوات”؛ [رواه الترمذي (2685)، والدارمي (289)، والطبراني في الكبير، (7911)، انظر صحيح الجامع: (1838) صحيح الترغيب: (81)].
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحار))؛ [رواه الطبراني في الأوسط (6219)، انظر الصحيحة: (3024)].
7) من نوى الخير فأخطأ، انظروا إلى فضل الله العظيم على المسلم المؤمن، فإنه يُثاب على نيته، ولا يُحرم أجر الخير الذي أخطأ فيه: عن معن بن يزيد رضي الله عنهما قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجَدي – هم الثلاثة أتَوا ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان أبي يزيدُ أخرج دنانير يتصدق بها – أي في المسجد – فوضعها عند رجل في المسجد، وظن أن أباه نسيها، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت – أنا ما أريدك أن تأخذها أنت، وإنما وضعتها بجانب رجل فقير محتاج ليأخذها – قال: فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لك ما نويت يا يزيدُ، ولك ما أخذت يا معنُ))؛ [البخاري (1422)، وأحمد (حم) (15860)].
وكان معن بن يزيد فقيرًا محتاجًا، فجاءته هبة من الله سبحانه وتعالى.
(لك ما نويت يا يزيد)؛ أي: إنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها، وابنك يحتاج إليها، فوقعتِ الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها.
(لك ما أخذت يا معن)؛ أي: لأنك أخذتها محتاجًا إليها… واستُدِلَّ به على أن للمتصدق أجرَ ما نواه، سواء صادف المستحق أو لا، وأن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده، بخلاف الهبة؛ [فتح الباري (3/ 292)].
8) الملائكة عليهم السلام تدعو لمن نام على طهارة، نام على وضوء؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طهِّروا هذه الأجساد، طهَّركم الله، فإنه ليس عبدٌ يبيت طاهرًا، إلا بات مَلَكٌ في شِعاره – الشِّعار: الثوب الذي يَلِي البدن، وهو الثوب الداخلي للإنسان الذي ينام فيه، فيبيت معه مَلَك – لا يتقلب ساعةً من الليل – إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان؛ فإنه بات طاهرًا))، [الطبراني في الكبير (13620)، والأوسط (5087)، وابن حبان (1051)، صحيح الجامع: (3936) الصحيحة: (2539).
9) الملائكة تدعو للمنْفِقِين بأن يخلف الله عليهم مثل ما أنفقوا أو أكثر: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم طلعت شمسُه، إلا وكان بجنبتيها – أي: على جانبيها – مَلَكَانِ يناديان نداءً يسمعه ما خَلَقَ الله كلهم غير الثَّقَلين – أي: الإنس والجن فهم لا يسمعون نداء الملكين – يناديان: يا أيها الناس هلمُّوا – أي: أقبلوا – إلى ربكم، إن ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى، ولا غربت الشمس إلا وكان بجنبتيها ملكان يناديان نداءً يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين – عند الطلوع علمنا ماذا قالا، وعند الغروب ماذا يقولان؟ – يقولان: اللهم أعطِ منفقًا خَلَفًا – خلفًا: عوضًا عما أنفق في سبيل الله – وأعطِ ممسكًا تلفًا – يعني: الذين عندهم أموال ولا ينفقونها للفقراء والمساكين ونحو ذلك، يعطيهم تلفًا وعَطَبًا، وهلاكًا وفناء لأموالهم التي بخِلوا بها – وأنزل الله في ذلك قرآنًا في قول الملكين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم في سورة يونس: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25].
وأنزل في قولهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعطِ ممسكًا تلفًا: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 1 – 10]))؛ [البيهقي في الشعب (3259)، وأحمد (21769)، وابن حبان (3329)، الصحيحة: (443)، (947) صحيح الترغيب: (917)، (3167)، والمشكاة: (5218)].
10) الملائكة تدعو لمن يبقى في مجلسه بعد الصلاة، بعد انتهاء صلاة الفريضة، فيبقى جالسًا تدعو له؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال العبد في الصلاة، ما كان في المسجد ينتظر الصلاة، لا يمنعه أن ينقلب – أي: يرجع – إلى أهله إلا الصلاة، وتصلي عليه الملائكة – أي: يدعون له ويستغفرون له – ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم صلِّ عليه – الملائكة تصلي عليك يا عبدالله؛ لأنك تجلس في المسجد، ولا تستعجل الخروج بعد انتهاء الصلاة – اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تُبْ عليه – أي: وفِّقه للتوبة يا رب العالمين، أو اقبلها منه، أو ثبِّته عليها – ما لم يُحدِث فيه – متى ينتهي دعاؤهم له وهو جالس؟ إذا أحدث؛ أي: ما لم يبطُل وضوؤه – ما لم يؤذِ فيه – أي: ما لم يؤذ في مجلسه الذي صلى فيه أحدًا بقوله أو فعله – ما لم يقم من صلاته، فقال رجل: وما يُحدِث؟ قال: يَفْسُو، أو يَضْرِط))؛ [الحديث بزوائده عند الشيخين (خ) (176)، (445)، (647)، (2119)، (3229)، (م) (649)، وأبو داود (470)، (559)، والترمذي (330)].
يعني: يُنقَض وضوؤه، هنا ينتهي استغفار الملائكة، أما أنا، فأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاعلموا أيها المسلمون أجمعون بدون استثناء، يا كُلَّ مَن هو يوحِّد الله سبحانه وتعالى، وكل من هو على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليكم هذا الخبر المفرح السَّار، لكل مؤمن مهما كانت درجة إيمانه، ومهما كان فعله في الخيرات أو السيئات، بشرى لمن قال: لا إله إلا الله، وشهِد أن محمدًا رسول الله، هذه البشرى ذكرها الله في كتابه، مجملها أن حملة العرش الثمانية، أعظم الملائكة بعد جبريل، ماذا يفعلون؟ ومن حول العرش ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، إنهم في دعاء مستمر للمؤمنين والتائبين، والمؤمن في الأرض يأكل ويشرب ويتمتع، وأحيانًا يعصي الله، وأحيانًا يرجع إلى الله ويتوب، وهؤلاء الملائكة لا ينقطعون عن الدعاء له.
11) فحملة العرش الثمانية يدعون للمؤمنين والتائبين؛ قال سبحانه في سورة غافر: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [غافر: 7]، وماذا يفعلون للمؤمنين؟ قال: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، يدعون لكم يا عباد الله: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ [غافر: 8، 9] يعني: يا رب لا تجعلهم يقعون في هذه السيئات، ﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 9].
عباد الله، فلْنَغْتَنِمِ الصحة قبل المرض، والفراغ قبل الشغل، ولنغتنم الغِنى قبل الفقر، فلماذا لا نقدِّم لله سبحانه وتعالى في حال غِنانا وفي حال صحتنا، وفي حال فراغنا أن نتوجه إلى الله؛ بالطاعات والعبادات، ونتوجه إليه بذكره وشكره وحسن عبادته، ليختم لنا قبل المرض، قبل الانشغال، قبل الفقر، يختم لنا بشيء كنا نفعله إن شاء الله؟
دلَّنا على ذلك رسول الله الذي صلى الله عليه في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر الصحابة أجمعين، وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250].
﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].
اللهم رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، وأغْنِنا من الفقر.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].