قضاء الحائض للصوم دون الصلاة


قضاء الحائض للصوم دون الصلاة

 

الحمدلله رب العالمين، شرع الدين، وأنزل الكتاب، وأحلَّ الحلال وحرَّم الحرام، وعصم الأُمَّة، والصلاة والسلام على نبيه محمد خاتم الأنبياء وناشر السُّنَّة؛ أما بعد:

فقد أُثِيرَ الغبار حول مسألة وجوب قضاء الحائض للأيام التي تُفطرها من رمضان، حتى ادَّعى جماعة من الناس في منشورٍ مشهور أنه لا دليلَ من كتاب ولا سُنَّة على ذلك، وأبطلوا كل دليل يدل على وجوب قضاء الحائض للصيام الواجب عليها، وردَّوا الأدلة كلها جملةً وتفصيلًا[1]، ولو أخذت تنظر في الأدلة التي استدل بها العلماء على وجوب قضاء الحائض للأيام التي أفطرَتْها، لَوجدتَها متنوعةً متعاضدةً، وإن كانت بعض المناقشات في بعض الأدلة صحيحةً، ولكن الحق أن المسألة التي يُستَدَلُّ عليها بأدلة؛ منها الصالح للدلالة، ومنها الضعيف؛ فإنه لا يرُد الضعيف منها الصحيح، بل يعضِّده، ولو افتُرض أن استدللتَ على مسألة بعشرة أدلة كلها موضع مناقشة ونظر، إلا دليلًا واحدًا مستقيمَ الدلالة – فإنه يجب العملُ به.

وقد نظَّمتُ هذه المقالة في ثلاثة مباحث مختصرة، الأول: الأحاديث الدالة على المقصود، الثاني: حكاية الإجماع، الثالث: أجوبة الإشكالات.

المبحث الأول: الأحاديث الدالة على المقصود:

الحديث الأول:

قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، حدثنا معمر، عن عاصم الأحول، عن معاذة، قالت: سألت عائشة…

وقال الإمام مسلم في صحيحه في (باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة): وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن عاصم، عن معاذة، قالت: سألت عائشة فقلت: ما بالُ الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟ قلت: لستُ بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك، فنُؤمَر بقضاء الصوم، ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة))[2].

ترجمة الرواة:

(1) عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم أبو بكر الصنعاني، ثقة، حافظ، مصنِّف شهير، روى عن الأوزاعي وعكرمة بن عمار، ومعمر وسفيان الثوري، ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وغيرهم، عمِيَ في آخر عمره فتغيَّر، وكان يتشيَّع، مات سنة إحدى عشرة ومائتين (211هـ) وله خمس وثمانون سنة (85).

قال أحمد بن حنبل: “أتينا عبدالرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، ومن سمِع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع”[3].

(2) مَعْمَر بن راشد الإمام الحافظ، شيخ الإسلام أبو عروة بن أبي عمرو الأزدي، مولاهم البصري، نزيل اليمن، ثقة فاضل؛ قال أحمد: “لا تضمَّ أحدًا إلى معمر إلا وجدته يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم”، روى عن أيوب السختياني، وثابت البناني، وأبي حازم، والأعمش، وعاصم بن بهدلة، وهشام بن عروة، وهمام بن منبه، وغيرهم، وروى عنه إسماعيل بن علية، وحماد بن زيد، وشعبة بن الحجاج، وعبدالله بن المبارك، وعبدالرزاق بن همام، مات سنة أربع وخمسين (154) وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنةً (58)[4].

(3) عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبدالرحمن البصري، ثقة، روى له الجماعة، روى عن أنس بن مالك، وعن أبي العالية، ومعاذة، وحفصة بنت سيرين، وأبي قلابة، والشعبي، وأبي عثمان النهدي، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم، وعنه: قتادة، وشعبة، وشريك، ومعمر، وحماد بن زيد، وابن علية، وجرير بن عبدالحميد، وزهير، والسفيانان، وعباد بن عباد، وأبو معاوية، وعلي بن مسهر، وابن فضيل، ومروان بن معاوية، ويزيد بن هارون، وعبدالله بن نمير، وخلقٌ كثير[5].

(4) معاذة بنت عبدالله العدوية البصرية، العابدة، العالمة زوجة السيد القدوة صلة بن أشيم، ثقة، رَوَتْ عن علي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر، وحدَّث عنها: أبو قلابة الجرمي، ويزيد الرشك، وعاصم الأحول، وغيرهم[6].

الحديث الثاني:

قال أبو داود: باب الحائض لا تقضي الصلاة: حدثنا الحسن بن عمرو، أخبرنا سفيان – يعني ابن عبدالملك – عن ابن المبارك، عن معمر، عن أيوب، عن معاذة العدوية، عن عائشة بهذا الحديث، وزاد فيه: ((فنُؤمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة))[7].

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، حدثنا معمر، عن عاصم الأحول، عن معاذة، قالت: سألت عائشة فقلت:…. قال معمر، وأخبرني أيوب، عن أبي قلابة، عن معاذة، عن عائشة مثله[8].

فتبين أن لمعمر فيه شيخين، رواه عن أيوب، ورواه عن عاصم الأحول، ولأيوب فيه شيخين أيضًا، رواه عن معاذة العدوية، ويرويه عن أبي قلابة، عن معاذة، وله سماع منها، وقد ذكر الذهبي سماعه منها، فلعله سمعه منها، وسمعه من أبي قلابة عنها، أو لعله كان يختصر فيذكره عنها.

وإسناد أبي داود حسن متصل.

(1) الحسن بن عمرو السدوسي البصري، صدوق.

(2) سفيان بن عبدالملك المروزي، صاحب ابن المبارك، ثقة.

(3) عبدالله بن المبارك المروزي، أحد الأئمة الأعلام، وحفَّاظ الإسلام.

(4) معمر بن راشد شيخ الإسلام، سبقت ترجمته.

(5) أيوب بن كيسان السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثَبْتٌ حُجَّة من كبار الفقهاء العباد.

(6) أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري، روى له الجماعة، ثقة فاضل، كثير الإرسال، روى عن معاذة في صحيح مسلم.

الحديث الثالث:

قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: ((كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيَ إلا في شعبان))، قال يحيى: الشغل من النبي أو بالنبي صلى الله عليه وسلم[9].

وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبدالله البهي عن عائشة: ((ما قضيت شيئًا مما يكون عليَّ من رمضان إلا في شعبان، حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وفي لفظ:((حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها))[10].

فأي عذر هذا الذي يتكرر من المرأة في كل رمضان؟ إنه الحيض، ولو وُجد سبب آخر تُفطر بسببه، ويُوجِب عليها قضاءً، فلا يتكرر شيء مثل الحيض منتظمًا كل شهر.

ففي تعبير أم المؤمنين (حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها)، وقولها: (حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دلالة واضحة بأنه شيء متكرر، ولا يكون إلا الحيض، ولم يكن سفرها متكررًا مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، ولأنها لما سُئلت عن توقيت المسح على الخفين، قالت للسائل: “عليك بابن أبي طالب، فسَلْه فإنه أعلم بذلك مني، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم”[11].

الحديث الرابع:

قال البخاري: باب: لا تقضي الحائض الصلاة: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثتني معاذة، أن امرأةً قالت لعائشة: أتُجزي إحدانا صلاتها إذا طهُرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله))[12].

وجه الدلالة:

أن الحيض يمنع المرأة عن واجب الصلاة والصيام والطواف إذا دخلت النُّسك، وقد استقر في الشريعة وجوب ذلك على كل مكلَّف، فظن بعض الناس أن الصلاة تقضى بعد زوال المانع كالصيام والطواف، فسألت معاذة العدوية التابعية الجليلة أم المؤمنين عائشة عن ذلك، فأنكرت عليها؛ لأن ذلك كان من بِدَعِ الخوارج؛ إذ الصلاة استُثنيت من وجوب القضاء، لأنهن لم يكن يقضين الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فدلَّ على قضائهن ما سواها، فكان الجواب الصريح أنه لا قضاء للصلاة، والمستنبَط أن القضاء للصيام.

وهذا إسناد عظيم يجِلُّ عن الشبهة والطعن، ويؤازر رواية عبدالرزاق وغيره، ليصير الجمع مفيدًا لليقين، وقد كان هذا معروفًا عند السلف أصلًا يُقاس عليه، ليس فيه اختلاف، حتى قال الحسن البصري: “المغمى عليه يقضي الصيام ولا يقضي الصلاة، كما أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة”[13].

قال الشافعي: “وكان عامًّا في أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحائض بقضاء صلاة، وعامًّا أنها أُمرت بقضاء الصوم”[14].

الحديث الخامس:

قال الترمذي: حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا علي بن مسهر، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ((كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نطهُر، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة)).

هذا حديث حسن، وقد رُوي عن معاذة، عن عائشة أيضًا، والعمل على هذا عند أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا، أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة.

وعبيدة هو ابن معتب الضبي الكوفي يُكنى أبا عبدالكريم[15].

قال الإمام البغوي: هذا حديث حسن[16].

وعبيدة بن معتب ضعيف اختلط بآخرةٍ، كما وصفه الحافظ في التقريب[17]، وبقية رجاله ثقات، ومثل هذا إذا أُضيف للفظ الصريح في صحيح مسلم، والمستنبَطِ من حديثَيِ البخاري، مع الضعف اليسير كان مقبولًا؛ لذا فالحديث حسن لغيره. وقد ألمح الإمام البخاري إلى نحو ذلك؛فقد أخرج الترمذي هذا الحديث في (العلل الكبير)، باب في قضاء الحائض الصيام دون الصلاة، ثم قال: “سألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: أرجو أن يكون محفوظًا”، قال محمد: “وعبيدة بن معتب الضبي يُكنى: أبا عبدالكريم وهو قليل الحديث، وأنا أروي عنه”[18].

الحديث السادس:

قال النسائي: أخبرنا علي بن حجر، قال: أنبأنا علي يعني ابن مسهر، عن سعيد عن قتادة عن معاذة العدوية أن امرأةً سألت عائشة أتقضي الحائض الصلاة إذا طهُرت؟ قالت: ((أحرورية أنتِ؟ كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهُر، فيأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة))[19].

وقد نُوقش هذا الحديث بتدليس قتادة، وبأن الحديث عند البخاري بتصريح قتادة بسماعه من معاذة، دون ذكر الصوم؟

وأُجيب بأن التدليس مأمون؛ حيث قال قتادة: حدثتني معاذة كما في رواية البخاري[20]، أما لماذا لم يذكر الصوم هنا؟ فلعل أحد الرواة كان يختصره أحيانًا لدفع شبهة الخوارج في وجوب قضاء الصلاة المتروكة أيام الحيض، وأحيانًا كان يحدِّث به مفصلًا كما هنا، فيذكر قضاء الصوم دون قضاء الصلاة، والله أعلم.

المبحث الثاني: حكاية الإجماع:

قول الزهري:

روى عبدالرزاق عن معمر، عن الزهري أنه قال: “الحائض تقضي الصوم، قلت: عمن؟ قال: هذا ما اجتمع الناس عليه، وليس في كل شيء نجد الإسناد”[21].

قال الشافعي: “وكان عامًّا في أهل العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحائض بقضاء صلاة، وعامًّا أنها أُمرت بقضاء الصوم”[22].

وقال ابن المنذر: “وأجمعوا على أن الحائض لا صلاة عليها في أيام حيضتها، فليس عليها القضاء، وأجمعوا على أن عليها قضاء الصوم الذي تُفطره في أيام حيضتها في شهر رمضان”[23].

قال ابن حزم: “وأجمعوا أن الحائض تقضي ما أفطرت في حيضها، وأجمعوا وأجمع من يقول على أن الحائض لا تصوم أن النُّفَساء لا تصوم”[24].

وقال ابن القطان: “وامتناع الصلاة والصيام والطواف والوطءِ في الفَرْجِ، في حال الحيض بإجماع متيقن، بلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه، إلا قومًا من الأزارقة، وحقهم ألَّا يُعَدُّوا في أهل الإسلام، وأجمع أهل العلم على أن قضاء ما تركت من الصلاة في أيام حيضتها غير واجب عليها، وأجمعوا على أن عليها قضاء ما تركت من الصوم في أيام حيضتها”[25].

وقال أبو الزناد: “إن السنن ووجوه الحق لَتأتي كثيرًا على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدًّا من اتباعها، من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة”[26].

من جهة النظر:

أفاد الحافظ رحمه الله أن الذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام؛ أن الصلاة تتكرر فلم يجب قضاؤها للحرج بخلاف الصيام؛ وقال ابن دقيق العيد: “اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لم تُؤمَر به يحتمل وجهين: أحدهما: أنها أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء، فيُتمسك به حتى يوجد الْمُعارِض؛ وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم، ثانيهما وهو أقرب: أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرر الحيض منهن عنده صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يبيَّن دلَّ على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بذلك الأمر بقضاء الصوم، كما في رواية عاصم عن معاذة عند مسلم، والله أعلم[27].

وقالوا: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يدنو من نسائه، فيقبِّل ويلمِس في غير نوبة المرأة، وربما طاف عليهن بغسل واحد))؛ كما رواه البخاري عن أنس، فكانت عائشة في غاية القرب والحب والانشغال بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم تُحبَّ أن تصوم ما عليها، حتى كان يمكِّنها النبي ويفرغها بأن كان يُكثِر الصوم في شعبان، فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان.

المبحث الثالث أجوبة الإشكالات:

قالوا: لم يذكر القرآن الكريم قضاءً على غير المريض والمسافر، والحيض ليس مرضًا؛ قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].

والجواب:

أن الحيض إلى المرض والمشقة أقرب منه إلى السلامة والصحة؛ فإنه يجمع العلتين الموجودتين في المرض والسفر، من الاضطرابات والمشقة، فالمرأة في حال الحيض أقرب لقول الله جل جلاله:﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].

يذكر الأطباء من آثار حدوث الدورة الشهرية عند المرأة بأنه قد يحدث تغير في الحالة النفسية؛ إذ تزداد عصبية المرأة وشعورها بالتوتر في فترة الدورة الشهرية، كما قد تزداد رغبة المرأة في النوم لفترات أطول خلال الدورة الشهرية، وقد يحدث ظهور حَبِّ الشباب في الوجه قبل نزول الحيض، وتواجه بعض النساء اضطرابات في الجهاز الهضمي في فترة الدورة الشهرية، ويتسبب هذا في الإصابة بالإمساك أو الإسهال، وقديحصل آلام الرأس خلال الدورة الشهرية، وتعاني بعض النساء من انتفاخ في مختلف أجزاء الجسم خلال الدورة الشهرية، أو قبل حدوثها، وتتلاشى هذه الانتفاخات مع انتهاء فترة الحيض.

ولو سلَّمنا أن الحيض ليس مرضًا فإن الأمر الشرعي يجب الاستقامة عليه، وقد ثبت بالإجماع والسُّنَّة الصريحة، وتكون العلة تعبُّديةً، ويجوز أن يكون في الأمر حِكَمًا ظاهرةً وأخرى غير ظاهرة.

ولو سلمنا أن القضاء لم يذكر وجوبه على الحائض في القرآن صراحةً، فإن هذا لا يمنع أن تستقل السنة الشريفة بتشريعه، وقد قامت الأدلة من السنة والإجماع بوجوب قضاء الحائض لأيام فِطْرِها من رمضان.

فإن قيل: تُوصف المرأة بأنها ناقصة الدين بسبب الفِطر كما في الحديث: ((أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُمْ))، فلو كانت المرأة تقضي بسبب الحيض، فيصح حينئذٍ أن يوصف الرجال المرضى والمسافرون بالنقص لذات السبب.

والجواب: أن هذا ليس بلازم؛ فإن المسافر لو شاء صام، والمريض كذلك، ولكن الشرع رخَّص له في الفطر إن شقَّ عليه، وليست كذلك الحائض؛ فإنها لا يجوز منها الصوم مع الحيض، بل تكون عاصيةً.

ثم إن الحيض يمنع عن التطوع بالصوم الفاضل في بعض الوقت الفاضل كعرفة وعاشوراء والبِيض ونحو ذلك، ويمنعها عن إدراك الفضيلة في الفرض في الأوقات الفاضلة من أيام فاضلة، ولو سلَّمنا أنها لا تكون ناقصة الدين إذا كانت ستقضي، فإن هذا احتمال، لا ينبغي أن يُعارَض به النص الصريح، لأن دلالة المفهوم لا تعارِض المنطوق، وقد جاء المنطوق من الحديث الصحيح والإجماع الصريح على وجوب القضاء.

قالوا: الحديث يرويه عبدالرزاق، حدثنا معمر، عن عاصم الأحول، عن معاذة… قالوا: عبدالرزاق اختلط.

والجواب: أن عبدالرزاق إمام ثقة مصنِّف، لكنه اختلط في آخر عمره، وقد حدَّث عنه قبل أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وإسحاق بن إبراهيم الصنعاني، بهذا الحديث الذي فيه وجوب قضاء الصوم على الحائض[28]، قال أحمد: “أتينا عبدالرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر”[29]، قال يحيى بن معين: قال لي عبدالرزاق: اكتب عني حديثًا واحدًا من غير كتاب، قلت: لا، ولا حرف”[30]، وقد رحل أحمد ويحيى إليه جميعًا وأخذا عنه[31].

 

والخلاصة أن رواية هؤلاء الأئمة الأربعة عن عبدالرزاق مع تحرِّيهم لكتابه وضبطه، تُرجِّح قبول روايته من جهة عدم الاختلاط، ومن جهة عدم الخطأ أو التلقين، والله أعلم.

قالوا: أعلَّ البخاري حديث معمر عن غير الزهري، فقال: “ما أعجب حديث معمر عن غير الزهري، فإنه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح”؛ ا.هـ.

 

والجواب: أننا نجد البخاري روى كثيرًا لمعمر عن غير الزهري في صحيحه، مثل حديثه عن همام بن منبه، وابن طاوس، بل قد أسند البخاري في صحيحه عن معمر عن أيوب، وعن معمر عن عاصم الأحول، وهما – أعني أيوب السختياني، وعاصمًا الأحول – شيخا معمر في هذا الحديث.

 

ولكنْ للبخاري قصد آخر؛ وهو أن ما كان من حديث معمر في البصرة عن غير الزهري، وحديث معمر كله صحيح ما كان في البصرة وغيره، لكن يُحذر مما حدَّث به في البصرة، فإنه يغلُب عليه وهم؛ لأنه حدَّث من حفظه فينظر في حديثه البصري؛ قال أحمد في رواية الأثرم: “حديث عبدالرزاق عن معمر أحب إلى من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر – يعني باليمن – وكان يحدِّثهم بخطأ بالبصرة”[32].

فإن قالوا: أعرض البخاري عن رواية التصريح بقضاء الصوم تضعيفًا لها.

فالجواب:

إن البخاري قد يقتصر على رواية واحدة؛ فإنه لا يخرِّج كل ما رُوي في الباب، وإنما يخرِّج من أصح ما فيه عنده، وقد يشير إلى بعضه، وقد ذكر الروايات التي يستنبط منها قضاء الحائض للصوم، ثم ذكر أثر أبي الزناد وفيه قول أبي الزناد: “من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة”.

 

وقد قال العلماء بأن إثبات الشيء لا يدل على نفي ما عداه، وزيادة الثقة مقبولة إلا عند التعارض، فيقدم الأحفظ، وما أثبته الرواة من الأمر بقضاء الصوم لم يَرِدْ نفيه عمن هو فوقهم، ولا عمن هو مثلهم، فهو صحيح.

 

تتمة: لو كان ما تقضيه المرأة من صيام غير واجب عليها، لكان مشروعًا بالأدلة الكثيرة التي فيها أن الشرع يقضي بتعويض ما فات من العبادات، إما وجوبًا أو استحبابًا، فمن نام عن صلاة أو نسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها، ومن نام عن ورده من الليل قرأه من النهار، ومثله كثير.

والخلاصة أن قضاء الحائض للصوم دون الصلاة مشهور سلفًا وخَلَفًا، عليه عمل العامة والخاصة، وردت به السُّنَّة، بروايات كثيرة يحصل بمجموعها طمأنينة، وأجمع عليه أهل العلم واستقر الأمر عليه، وامتلأت به الكتب والصحاح، منطوقًا ومفهومًا، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين.


[1] وقد يظهر من يقول بجواز الصيام مع وجود الحيض، ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121].
[2] صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، صحيح مسلم 1/ 265، ترقيم: 335.
[3] ينظر للمزيد: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ترجمة 3415، للحافظ يوسف بن الزكي عبدالرحمن أبي الحجاج المزي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1400 – 1980 تحقيق: د. بشار عواد معروف، سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، ترجمة رقم 220.
[4] ينظر للمزيد: تاريخ دمشق، للحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1998 م، دار الفكر، بيروت – لبنان، ترجمة رقم 7574، وتهذيب الكمال، ترجمة رقم: 6104، وسير أعلام النبلاء 7/5.
[5] ينظر: للمزيد سير أعلام النبلاء 6/ 14.
[6] ينظر: للمزيد: تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ المزي، ط الرسالة، تحقيق بشار عواد 35/ 308 ترقيم: 7932.
[7] سنن أبي داود، ت: الأرنؤوط 1/ 188، ترقيم: 102.
[8] مسند أحمد، ط الرسالة 43/ 105، ترقيم: 25951.
[9] صحيح البخاري 3/ 35 ترقيم: 1950.
[10] سنن الترمذي ت بشار 2/ 144 ترقيم: 783، قال ابن خزيمة في صحيحه، ط: 3/2 985، حدثنا علي بن شعيب، حدثنا أبو النضر، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن البهي، عن عائشة قالت: ((ما كنت أقضي ما يبقى عليَّ من رمضان زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في شعبان)). حدثنا إبراهيم بن مسعود الهمداني، حدثنا أبو أسامة، حدثنا زائدة، عن إسماعيل السدي، عن عبدالله البهي، عن عائشة: بمثله، وقال: “حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها”. – حدثنا محمد بن عثمان العجلي، حدثنا عبيدالله، عن شيبان، عن السدي، عن عبدالله البهي، قال: سمعت عائشة تقول: ((ما قضيت شيئًا مما يكون عليَّ من رمضان، إلا في شعبان، حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
[11] رواه مسلم في صحيحه، ترقيم 276.
[12] صحيح البخاري 1/ 71، ترقيم: 321.
[13] رواه ابن أبي شيبة – حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن، 2/ 71، ترقيم: 6597.
[14] معرفة السنن والآثار للبيهقي، بإسناد صحيح 6/ 284، ترقيم: 8747.
[15] سنن الترمذي ت بشار، 2/ 146، ترقيم: 787.
[16] شرح السنة للبغوي 2/ 138، باب الحائض إذا طهرت تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ترقيم: 323.
[17]ترجمة رقم: 4416، فائدة: قولهم: اختلط بآخرة: اختلف في ضبطها على ما يلي: بآخرِهِ، بآخِرَةٍ، بأَخْرَةٍ، من فوائد الشيخ عبدالفتاح أبي غدة، وزاد بعضهم: بأُخْرَةٍ، والأمر واسع.
[18] العلل الكبير للترمذي = ترتيب علل الترمذي الكبير، ط عالم الكتب، ص: 126، ترقيم: 216.
[19] سنن النسائي، دار المعرفة، 4/ 504، وقد صححه الشيخ الألباني.
[20]صحيح البخاري 1/ 71، ترقيم: 321، وقد جزم بعض المحدثين بأن قتادة لم يسمع من معاذة؛ ينظر: العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية المروذي وغيره، ت صبحي السامرائي، ص: 158، فالله أعلم.
[21] مصنف عبدالرزاق، الصنعاني 1/332، ترقيم: 1280.
[22] معرفة السنن والآثار للبيهقي، بإسناد صحيح 6/ 284، ترقيم: 8747.
[23] الإجماع لابن المنذر، ط دار المسلم، ص: 42، ترقيم المسألة: 68.
[24] مراتب الإجماع لابن حزم، ط دار الكتب العلمية، ص: 40.
[25] الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان الفاسي، ط الفاروق الحديثة، 1/ 103.
[26] صحيح البخاري 3/ 35.
[27] فتح الباري لابن حجر 1/ 422.
[28]حديث إسحاق بن راهويه في مسنده، قال حدثنا عبدالرزاق… ت البلوشي 3/ 768، ترقيم: 1385، وحديث إسحاق الصنعاني في مستخرج أبي عوانة، ط الجامعة الإسلامية، 3/ 205 ترقيم: 990، وحديث عبد بن حميد أخرجه مسلم في صحيحه ترقيم 335، وحديث أحمد في مسنده، وقد سبق تخريجه.
[29] ينظر للمزيد: ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 609.
[30] ينظر للمزيد: تاريخ دمشق لابن عساكر، دار الفكر 36/ 180.
[31] ينظر لتفصيل رحلة أحمد ويحيى في تاريخ دمشق لابن عساكر 5/ 267.
[32]ينظر للمزيد: الجامع لعلوم الإمام أحمد – الرجال، ط/ دار الفلاح، 19/ 193.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
أبرز ما تناوله كتاب الصحف لنهاية الاسبوع .. استمع
تعرف على استعدادات هيئة الكتاب للمشاركة فى المعارض الدولية المقبلة