لماذا الترف سبب لهلاك الأمم
لماذا التَرَفُ سببٌ لهلاك الأمم؟
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، بيَّنت هذه الآية سببَ هلاك الأمم، وأنها تهلِك بسبب تَرَفِ أُمرائها؛ حيث يؤدي تَرَفُهم في العيش دون أن ينكر عليهم أحدٌ إلى الفسق ولا بد، وليس المقصود بالترف – في هذا السياق – الذي به يشكر صاحبُ النعمة ربَّه، كما شكر نبيُّ الله سليمانُ نعمة ربه لما سخَّر له الجن، فاستخدمه للعمل العام، والخدمة العامة، ولم يستخدمهم لخدمته الشخصية ومنفعته الذاتية.
فالإسلام يحض على الاعتدال؛ أي التوسط بين الترف الذي يكاد يقترب من معنى السَّرف، والتقتير الذي هو البخل والشح، أو منع أداء الحقوق لأهلها حتى حق نفسه، فيدعو العبد لأن يأخذ قسطه من النوم، كما يأمره بالاستيقاظ من نومه لصلاة الفجر، ويحثه على قيام الليل، ويأمره بالصوم، كما يأمره بالأكل والإفطار، ويأمره بالعفة، ويندبه للزواج، ويحبِّب له زوجته، وهكذا، دون مجاوزة إلى حدِّ الإسراف في أيٍّ مما تقدم، ومن جهة أخرى يمكن القول: “إن الثراء لا يستلزم الترف دائمًا ولا غالبًا، فالذين جمعوا ثرواتهم بجدِّهم وكدِّهم، وعرق جبينهم، فإنهم لا يعرفون الترف الرخو، ولا يطيقونه، ولا يعتمدون على غيرهم في تسيير أعمالهم، بل يباشرون العمل بأنفسهم، ويجدون في ذلك سعادتهم، فهؤلاء منتجون مصلحون؛ لأن العمل قيمة مضافة مهما كسب صاحبه من ثروة بالطرق الشريفة”[1]؛ ولذلك تجد الذين يمارسون الرياضة ويبرعون فيها، لديهم طاقات عظيمة لفعل أمور أخرى غير الرياضة، بها يصلحون حياتهم وحياة غيرهم، ولا يجدون غضاضة في بذل مجهود زائد من المشي، أو رفع محتويات البيت، أو توصيل أولادهم للمدرسة؛ إلخ، كذلك الذين يعرقون في العمل حتى لو كسبوا مالًا كثيرًا لا يتوقفون عن العمل، ولا يتركون العمل؛ لأنهم تعوَّدوا على ذلك، وأحسوا بحلاوة العمل والحركة، فليس المال هو الدافع لحركتهم وحسب، وهكذا نفهم التفرقة بين الثراء والترف.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الترف، وأكَّد أنه سبب لهلاك الأمة؛ فقال: ((فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم))[2]، وقد أشار ابن خلدون لهذا المعنى، بأن المترفين يسرفون في نفقاتهم، ويندفعون مع شهواتهم، ويترفعون عن مباشرة أعمالهم، فيعتمدون على غيرهم، فتفسد أخلاقهم فردًا فردًا، وتمتد أيديهم إلى المال الحرام بكل الوسائل المتاحة لإشباع ترفهم ونهمهم إلى الشهوات التي تعوَّدوا عليه، ويزيد الطين بلة أنهم يستخدمون قطاعًا كبيرًا من الشعب لخدمتهم، فتفسد هم كذلك أخلاقهم؛ لإشرافهم على أعمالهم، فيفسدون في أنفسهم وأولادهم؛ فقال مبينًا سببَ غلاء الأسعار: “كثرة المترفين، وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم، وإلى استعمال الصُّنَّاع في مهنهم، فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها، فيعتز العمال والصُّنَّاع وأهل الحرف، وتغلو أعمالهم، وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك”[3].
وقال في مقدمته: “الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخُلُق واكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل، فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأيِّ وجهٍ كان، وفسد خُلُق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه، ولا طِيب مَنْبِته؛ ولهذا تجد كثيرًا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغِمار، منتحلين للحِرَفِ الدَّنِيَّة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلوَّنوا به من صبغة الشر والسَّفْسَفَةِ، وإذا كثُر ذلك في المدينة أو الأُمَّة، تأذَّن الله بخرابها وانقراضها؛ وهو معنى قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، ووجهه أن مكاسبهم حينئذٍ لا تفي بحاجاتهم؛ لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا تستقيم أحوالهم، وإذا فسدت أحوال الأشخاص، واحدًا واحدًا، اختلَّ نظام المدينة وخرِبت”[4].
لكن ومن جهة أخرى فإن دوام الحال من المحال؛ ولذلك فإن الإسلام يحُثُّ على التقشُّف؛ باعتباره من صفات كمال الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البَذَاذَةُ من الإيمان، قال: البَذَاذَة القَشَافَةُ؛ يعني: التقشُّف))[5]، فمن الحكم المعروفة: (اخْشَوْشِنوا؛ فإن النعمة لا تدوم)، والمعنى المقصود طلب التعوُّد على الخشن من الحياة، والبعد عن الترف، وذلك حتى إذا أصاب الإنسان يومًا فاقة، تحمَّل ذلك، ولم يكن ضعفه سببًا في عدم الرضا عن القضاء والقدر، فيكون الصبر أسهل عليه في البلاء والمرض والفقر؛ من هنا نفهم أن التقشف هو عادة الصالحين استعدادًا للبلاء القادم عليهم بقدر إيمانهم؛ حيث يُبتلى المرء على قدر دينه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُوذيتُ في الله وما يُؤذى أحد، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتَتْ عليَّ ثالثَةٌ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكله ذو كبد، إلا ما وارَى إبطَ بلالٍ))[6].
والصحابة رضوان الله عليهم فهِموا البشرى في التقشف وذم الترف؛ فعن عبدالله بن عمرو قال: ((بينا أنا قاعد في المسجد، وحلقة من فقراء المهاجرين قُعُود، إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقعد إليهم، فقمت إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليُبشِّر فقراء المهاجرين بما يسُرُّ وجوههم، فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عامًا، قال: فلقد رأيت ألوانهم أسفرت، قال عبدالله بن عمرو: حتى تمنيت أن أكون معهم أو منهم))[7]، وفي رواية عن عبدالله بن عمر قال: ((اشتكى فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فضل الله به عليهم أغنياءهم، فقال: يا معشر الفقراء، ألَا أُبشِّركم أن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم؛ خمسمائة عام؛ ثم تلا موسى هذه الآية: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47]))[8].
بذلك حضَّ الإسلام المؤمنَ على أن يتخفَّف من الدنيا، وليعطي غيره منها قبل أن يزداد بها عن فضل حاجته، فيتأخر حسابه لأجل ذلك، فإن كل ما زاد عن فضل حاجته هو من الترف؛ وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك اللِّباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخيِّره من أيِّ حُلَلِ الإيمان شاء يلبَسها))[9].
من ذلك نفهم منهج الإسلام وهو يحدد للمسلم طريقته في الأخذ من الدنيا، ليكون ذلك بقدر حاجته دون تباهٍ أو تعالٍ على الناس؛ فعن ابن عمر قال: ((لا يصيب أحد من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريمًا))[10]، فإذا كان ذلك كذلك، وقد علمنا أن ما يفتح الله تعالى به على العبد من الدنيا يؤثِّر بلا شك في نصيبه من الآخرة، علِمنا من أين يأتي التشاؤم، وأين مكمن الحذر، ولماذا سمَّى الله تعالى الأزواجَ أعداءً في القرآن؛ فقال: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14]، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طِيَرةَ، إنما الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار))[11]؛ لأن هذه الثلاثة من متاع الدنيا، وأشد مطالبها، وأقواها أسرًا للقلب، وحبُّها يؤثر بلا شك في عمل الآخرة؛ ولذلك قال الله: ﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]؛ أي: إن هذه الثلاثة لا بد ألَّا تكون مبتغى العبد وغايته، وإنما يكفي أن تكون بقدر حاجته للعيش دون إهمال العبادة، التي هي الغاية التي خُلِق من أجلها؛ ولذلك رُوِيَ عن إبراهيم النخعي قال: “البناء كله وبال، قلت: أرأيت ما لا بد منه؟ قال: لا أجر، ولا وزر”.
ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نأكل دون حدِّ الشبع؛ فقال: ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، حسب الآدمي لُقَيمات يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن غلبت الآدمي نفسَه، فثُلُث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنَّفَس))[12]، وما شبع النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلا وتلاه اليوم الآخر دون أن يشبع؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قُبِضَ))[13]؛ ذلك أن حدَّ الشبع يعني الاقتراب من الترف، وهذا يعني أن المسلم لا ينظر لحال غيره من الجائعين، ولو أنه نظر لحالهم لحمله إيمانه على أن يُشبِعهم قبل أن يُشبِعَ نفسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ولذلك ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الشبعَ؛ فعن ابن عمر قال: ((تجشَّأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كُفَّ عنا جُشاءك؛ فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة))[14].
ولكي نفهم حدَّ الترف الذي ذمَّه القرآن؛ لا بد أن نستقرئ حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فعن عائشة قالت: ((إنْ كنَّا آلَ محمد نمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إن هو إلا الماء والتمر))[15]، وعن عائشة قالت: ((كان وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتكئ عليها من أَدَمٍ حشوُها لِيفٌ))[16]، ولعل ذلك لأنه شُغِلَ بالدعوة عن الكسب والعمل، وشُغِلَ بالإنفاق عن الادخار والاكتناز، وشُغِلَ بالطاعة وقيام الليل عن السعي وراء سعة من الرزق، فاكتفى بالكَفاف؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه))[17]، وعن عبدالله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: ((لما نزلت: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]،قال الزبير: وأي نعيم نُسأل عنه؛ وإنما هو الأسودان؛ التمر والماء؟ قال: أمَا إنه سيكون))[18].
وقد ورد في بعض كتب الآثار[19] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبدالله رضي الله عنهما درهمًا، فلما علم أنه يريد شراء لحم لأهله لأنهم اشتَهوه، ترك لمن يأتي بعده قولته البليغة: أكلما اشتهيتُم اشتريتُم؟ ما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لابن عمه وجاره، أين تذهب عنكم هذه الآية: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20]؟[20] [21]، قال الشيخ سليمان العمري: “هذه الحادثة تُحيل على ما هو أعمق من مجرد الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك؛ إذ هي في حقيقتها استحضار للبعد الإنساني في الإنفاق، حتى لو تعلق الأمر بقطعة لحم، وموقف عمر رضي الله عنه إنما هو امتداد للهَدْيِ النبوي الشريف في نهيه عن السرف ومجاوزة الحد في التنعم”.
وفي المقابل نجد الأمة اليوم تعيش ما يصفه جان ماري بيلت بـ”دوَّار الاستهلاك”[22]، تلك الرغبة المحمومة في الامتلاك والاستمتاع والحصول على كل شيء، بذلك تحول المجتمع إلى أسواق رائجة لبضائع غيرنا، والزج به في نسق حضاري يقوم على الأنانية والمنفعة المادية وشهوة التملك.
[1] عبد الله الجعيثن: الترف يختلف عن الثراء، مجلة العربية ومجلة الرياض: https://www.alarabiya.net/aswaq/2016/05/13/
[2] رواه مسلم 4/2274.
[3] مقدمة ابن خلدون، ج1، ص 204.
[4] مقدمة ابن خلدون، ج1، ص 209.
[5] رواه ابن ماجه، ج 12، ص143، رقم 4108، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج2، ص 395، رقم 3324.
[6] رواه ابن ماجه، ج 1، ص 174، رقم 148، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج1، ص 30، رقم 123.
[7] رواه الدارمي في سننه، ج2، ص 437، رقم 2844، والنَّسائي في الكبرى 5846، وابن حِبان 677.
[8] رواه ابن ماجه، ج12، ص 151، رقم 4114، وصححه الألباني: صحيح الجامع الصغير، ج1، ص 1394، رقم 13936.
[9] رواه الترمذي، ج9، ص 21، رقم 2405، صححه الألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي، ج5، ص 481، رقم 2481.
[10] مصنف ابن أبي شيبة، ج13، ص 323.
[11] رواه البخاري، ج 18، ص 68، رقم 5329.
[12] رواه ابن ماجه، ج10، ص 105، رقم 3340، وصححه الألباني، ج10، ص 105، رقم 3340.
[13] متفقٌ عَلَيْهِ.
[14] رواه الترمذي، ج9، ص 18، رقم 2402، وصححه الألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي، ج5، ص 478.
[15] رواه الترمذي، ج9، ص 11، رقم 2395.
[16] رواه مسلم، ج10، ص 442، رقم 3882.
[17] رواه مسلم ج5 ص 276 رقم 1746
[18] رواه ابن ماجه، ج12، ص 191، رقم 4148، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج2، ص 402، رقم 3354.
[19] رواه الحاكم ومالك عن يحيى بن سعيد.
[20] رواه البيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في الأوسط والكبير.
[21] ذكره المنذري في الترغيب والترهيب.
[22] عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة، لجان ماري بيلت، ص 32، ترجمة السيد محمد عثمان، عالم المعرفة.