«ما بعد الأيام».. العميد كما لم تره من قبل! – إيهاب الملاح
ــ 1 ــ
حينما كنت أجمع مادة كتابى عن طه حسين «تجديد ذكرى عميد الأدب العربى» (صدر فى أبريل 2021)، وأجمع المصادر والمراجع أو بالدقة أحصيها أولا، وأوثقها ثانيا، وأرتبها ثالثا، كان كتاب «ما بعد الأيام» لمحمد حسين الزيات (صدر عام 1986 عن دار الهلال) فى صدارة الكتب التى انفردت بمعلومات ووقائع ومشاهد وتفاصيل عن حياة العميد بحكم طبيعة الصلة التى جمعت مؤلف الكتاب بالدكتور العميد (كان السفير والوزير الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنة طه حسين). وهذا الكتاب الذى لم يعد صدوره أبدا فى أى طبعة جديدة منذ صدور طبعته الأولى فى ثمانينيات القرن الماضى هو من أهم الكتب وأكثرها قربا وانفرادا برسم صورة دقيقة ونابضة بالحياة للدكتور طه حسين، وانفراده غير منازع فى رسم صورة خاصة جدا، تكاد تكون الصورة الأكثر ندرة وصدقا وتصويرا لطه حسين فى حياته الشخصية اليومية، وبين أفراد أسرته، وبين أبنائه؛ إنها صورة طه الإنسان، والأب، والزوج، والجد، والصهر.. إلخ.
وقد اشتمل الكتاب على كم من الصور النادرة والشخصية والخاصة بالعميد منذ شبابه المبكر، وحتى شيخوخته المتأخرة، وفى عقديه الأخيرين بالأخص، لم ترد فى غيره من الكتب والمصادر التى أرّخت لحياته أو حتى فى سيرته الشهيرة «الأيام» (ثلاثة أجزاء) التى خلت تماما من أى ملاحق تضم صورا أو وثائق أو مستندات شخصية.
وهو، بالإضافة إلى قيمته التوثيقية العالية، من أكثرها جمالا وإمتاعا واقترابا من روح الفن والإبداع أيضا، ولا أعلم لماذا غاب هذا الكتاب عن دائرة الضوء لسنوات طويلة، ولماذا ابتعد عن أعين كل من تصدى للكتابة عن الدكتور طه خلال تلك الفترة.
ــ 2 ــ
فى هذا الكتاب القيم استعرض الدكتور محمد حسن الزيات مساحة عريضة من حياة وسيرة الدكتور طه حسين، منذ عودته مكللا بدرجة الدكتوراه السوربونية العريقة فى 1919، وحتى رحيله فى الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973 ومصر كلها، والعالم العربى كله معها، تعيش لحظات مجد وزهو وانتصار تاريخى غير مسبوق على العدو الغاصب المحتل. وكأنما أبى طه حسين أن يرحل دون أن يشهد هذا الانتصار العظيم، ولم تفارق جسده الروح، حتى فارق اليأس روح مصر، وحتى اقتحم شبابنا ما أقيم فى وجه بلادهم من عقبات، كما كتب توفيق الحكيم مودعا إياه.
الرحلة التى غطت ثمانية عشر فصلا ومساحة زمنية عريضة تبدأ فى العام الذى أسند فيه إلى طه حسين مهام تدريس التاريخ القديم بالجامعة المصرية (1920) وتنتهى فى العام 1973.
عبر سرد لم يغب عنه الحس الدرامى، وتخلله «الحوار» و«الحديث» و«استدعاء الذكريات» و«الشهادات النصية»، استعرض محمد حسن الزيات تاريخ طه حسين وسيرته المشرفة فى المؤسسات الجامعية التى أدارها أو أشرف على تأسيسها، وفى الوزارة التى عمل بها مراقبا ومستشارا فنيا، وفى المجال الثقافى العام رئيسا للتحرير وناشرا للكتب والدوريات الثقافية،
وفى كل ذلك مزج الزيات بين الذاتى والموضوعى، وراوحت لغته بين «الشعرية» والتصوير فى أحايين كثيرة، وبين السرد المحايد الأقرب إلى التوثيق والتسجيل، ومع ذلك فلم يفقد الكتاب، ومنذ الصفحات الأولى فى التقديم وحتى الصفحات الأخيرة فى الختام، لم يفقد حرارته ولا تدفقه ولا الدافع العاطفى والشعورى المتأجج وراء تأليفه.
وجاءت عناوين الفصول معبرة تماما عن هذا المزيج المتجانس ــ إذا جاز الوصف والتعبير ــ بين حرارة الوجدان والامتنان لحصاد التجربة الإنسانية والفكرية والثقافية مع طه حسين، وبين انضباط العقل وضوابط العقلانية والتوثيق فيما تعرض له من حوادث ووقائع وتفاصيل.
ــ 3 ــ
ويأتيه يوما ابنه مؤنس يشكو من الدسائس والمؤامرات، التى بدأت تدخل رحاب الجامعة، وطه حسين يواسيه ويخبره بأن الخير هو الأصل، وإنما يفزعنا الشر ويروعنا لأنه نشاز، وينصرف مؤنس ويخاطب طه حسين نفسه: جميل أن يرث الولد عن أبيه مودة الصديق، ولكن من القبيح أن يرث الأولاد بغضاء من أرادوا بآبائهم الشر.
ويأتيه صهره محمد حسن الزيات فيحدثه عن الانفصال بين مصر وسوريا، ويجيبه طه حسين لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا فى تلهفنا أن أساس النهضة فى كل بلد من بلادنا، وأساس التضامن والتقارب هو «العلم».
ويأتيه أديب من العراق ويسأله: لم نعد يا سيدى نقرأ لكم شيئا فى جريدة (الجمهورية) منذ فترة. ويقول طه حسين فى هدوء: منذ فترة استغنوا عن خدماتى يا سيدى، علمت ذلك من خطاب وصلنى بالبريد، جاء فيه أن الجريدة تستغنى عن خدمات عدد من المحررين، منهم طه حسين.
تلك مجرد أمثلة وشواهد من كتاب الدكتور محمد حسن الزيات «ما بعد الأيام» ضمن عشرات الشواهد والحكايات والمواقف.
ــ 4 ــ
إن قارئ هذا الكتاب الرائع (ولا أتحفظ فى إبداء الإعجاب الغامر بالكتاب ومادته ومؤلفه، وما اشتمل عليه من مادة غزيرة وشعور جارف وصادق) سيضع يده على الأصول التى شكلت ثقافة وذائقة وشعور طه حسين، وتجلت أيضا فى مواقفه ومعاركه التى خاضها، وسيكتشف العوامل والظروف التى عملت على تهيئته إنسانيا وثقافيا وأكاديميا لممارسة أدواره العظيمة فى الحياة الفكرية والثقافية والتعليمية فى مصر (والعالم العربى أيضا بغير شك)، كما ستتضح أمام قارئ الكتاب صورة بانورامية متسعة اجتهدت فى استقصاء التفاصيل لا لغاية فى ذاتها بل لوضعها فى إطار هذه الجدارية الكلية الشاملة لحياة وسيرة طه حسين؛ فى بيته ووسط أفراد أسرته وعائلته، وفى سفراته وترحاله وجولاته الأوروبية، وفى ممارسته لأدواره الجامعية والسياسية والتعليمية، وفى جهوده العظيمة والعالية فى رسم السياسات ووضع الخطط والإشراف عليها، وفى انتداب الأكفاء من الجامعيين والباحثين لتنفيذها على أكمل وجه.
حينما كنت أجمع مادة كتابى عن طه حسين «تجديد ذكرى عميد الأدب العربى» (صدر فى أبريل 2021)، وأجمع المصادر والمراجع أو بالدقة أحصيها أولا، وأوثقها ثانيا، وأرتبها ثالثا، كان كتاب «ما بعد الأيام» لمحمد حسين الزيات (صدر عام 1986 عن دار الهلال) فى صدارة الكتب التى انفردت بمعلومات ووقائع ومشاهد وتفاصيل عن حياة العميد بحكم طبيعة الصلة التى جمعت مؤلف الكتاب بالدكتور العميد (كان السفير والوزير الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنة طه حسين). وهذا الكتاب الذى لم يعد صدوره أبدا فى أى طبعة جديدة منذ صدور طبعته الأولى فى ثمانينيات القرن الماضى هو من أهم الكتب وأكثرها قربا وانفرادا برسم صورة دقيقة ونابضة بالحياة للدكتور طه حسين، وانفراده غير منازع فى رسم صورة خاصة جدا، تكاد تكون الصورة الأكثر ندرة وصدقا وتصويرا لطه حسين فى حياته الشخصية اليومية، وبين أفراد أسرته، وبين أبنائه؛ إنها صورة طه الإنسان، والأب، والزوج، والجد، والصهر.. إلخ.
وقد اشتمل الكتاب على كم من الصور النادرة والشخصية والخاصة بالعميد منذ شبابه المبكر، وحتى شيخوخته المتأخرة، وفى عقديه الأخيرين بالأخص، لم ترد فى غيره من الكتب والمصادر التى أرّخت لحياته أو حتى فى سيرته الشهيرة «الأيام» (ثلاثة أجزاء) التى خلت تماما من أى ملاحق تضم صورا أو وثائق أو مستندات شخصية.
وهو، بالإضافة إلى قيمته التوثيقية العالية، من أكثرها جمالا وإمتاعا واقترابا من روح الفن والإبداع أيضا، ولا أعلم لماذا غاب هذا الكتاب عن دائرة الضوء لسنوات طويلة، ولماذا ابتعد عن أعين كل من تصدى للكتابة عن الدكتور طه خلال تلك الفترة.
ــ 2 ــ
فى هذا الكتاب القيم استعرض الدكتور محمد حسن الزيات مساحة عريضة من حياة وسيرة الدكتور طه حسين، منذ عودته مكللا بدرجة الدكتوراه السوربونية العريقة فى 1919، وحتى رحيله فى الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973 ومصر كلها، والعالم العربى كله معها، تعيش لحظات مجد وزهو وانتصار تاريخى غير مسبوق على العدو الغاصب المحتل. وكأنما أبى طه حسين أن يرحل دون أن يشهد هذا الانتصار العظيم، ولم تفارق جسده الروح، حتى فارق اليأس روح مصر، وحتى اقتحم شبابنا ما أقيم فى وجه بلادهم من عقبات، كما كتب توفيق الحكيم مودعا إياه.
الرحلة التى غطت ثمانية عشر فصلا ومساحة زمنية عريضة تبدأ فى العام الذى أسند فيه إلى طه حسين مهام تدريس التاريخ القديم بالجامعة المصرية (1920) وتنتهى فى العام 1973.
عبر سرد لم يغب عنه الحس الدرامى، وتخلله «الحوار» و«الحديث» و«استدعاء الذكريات» و«الشهادات النصية»، استعرض محمد حسن الزيات تاريخ طه حسين وسيرته المشرفة فى المؤسسات الجامعية التى أدارها أو أشرف على تأسيسها، وفى الوزارة التى عمل بها مراقبا ومستشارا فنيا، وفى المجال الثقافى العام رئيسا للتحرير وناشرا للكتب والدوريات الثقافية،
وفى كل ذلك مزج الزيات بين الذاتى والموضوعى، وراوحت لغته بين «الشعرية» والتصوير فى أحايين كثيرة، وبين السرد المحايد الأقرب إلى التوثيق والتسجيل، ومع ذلك فلم يفقد الكتاب، ومنذ الصفحات الأولى فى التقديم وحتى الصفحات الأخيرة فى الختام، لم يفقد حرارته ولا تدفقه ولا الدافع العاطفى والشعورى المتأجج وراء تأليفه.
وجاءت عناوين الفصول معبرة تماما عن هذا المزيج المتجانس ــ إذا جاز الوصف والتعبير ــ بين حرارة الوجدان والامتنان لحصاد التجربة الإنسانية والفكرية والثقافية مع طه حسين، وبين انضباط العقل وضوابط العقلانية والتوثيق فيما تعرض له من حوادث ووقائع وتفاصيل.
ــ 3 ــ
ويأتيه يوما ابنه مؤنس يشكو من الدسائس والمؤامرات، التى بدأت تدخل رحاب الجامعة، وطه حسين يواسيه ويخبره بأن الخير هو الأصل، وإنما يفزعنا الشر ويروعنا لأنه نشاز، وينصرف مؤنس ويخاطب طه حسين نفسه: جميل أن يرث الولد عن أبيه مودة الصديق، ولكن من القبيح أن يرث الأولاد بغضاء من أرادوا بآبائهم الشر.
ويأتيه صهره محمد حسن الزيات فيحدثه عن الانفصال بين مصر وسوريا، ويجيبه طه حسين لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا فى تلهفنا أن أساس النهضة فى كل بلد من بلادنا، وأساس التضامن والتقارب هو «العلم».
ويأتيه أديب من العراق ويسأله: لم نعد يا سيدى نقرأ لكم شيئا فى جريدة (الجمهورية) منذ فترة. ويقول طه حسين فى هدوء: منذ فترة استغنوا عن خدماتى يا سيدى، علمت ذلك من خطاب وصلنى بالبريد، جاء فيه أن الجريدة تستغنى عن خدمات عدد من المحررين، منهم طه حسين.
تلك مجرد أمثلة وشواهد من كتاب الدكتور محمد حسن الزيات «ما بعد الأيام» ضمن عشرات الشواهد والحكايات والمواقف.
ــ 4 ــ
إن قارئ هذا الكتاب الرائع (ولا أتحفظ فى إبداء الإعجاب الغامر بالكتاب ومادته ومؤلفه، وما اشتمل عليه من مادة غزيرة وشعور جارف وصادق) سيضع يده على الأصول التى شكلت ثقافة وذائقة وشعور طه حسين، وتجلت أيضا فى مواقفه ومعاركه التى خاضها، وسيكتشف العوامل والظروف التى عملت على تهيئته إنسانيا وثقافيا وأكاديميا لممارسة أدواره العظيمة فى الحياة الفكرية والثقافية والتعليمية فى مصر (والعالم العربى أيضا بغير شك)، كما ستتضح أمام قارئ الكتاب صورة بانورامية متسعة اجتهدت فى استقصاء التفاصيل لا لغاية فى ذاتها بل لوضعها فى إطار هذه الجدارية الكلية الشاملة لحياة وسيرة طه حسين؛ فى بيته ووسط أفراد أسرته وعائلته، وفى سفراته وترحاله وجولاته الأوروبية، وفى ممارسته لأدواره الجامعية والسياسية والتعليمية، وفى جهوده العظيمة والعالية فى رسم السياسات ووضع الخطط والإشراف عليها، وفى انتداب الأكفاء من الجامعيين والباحثين لتنفيذها على أكمل وجه.
وللحديث بقية..