مجالات الصبر


مجالات الصبر

الصبر على بلاء الدنيا:

وبلاء الدنيا ونكبات الأيام لا يخلو منها إنسان، وهذا راجع إلى طبيعة الدنيا، فقد جبلت على كدر، ومن الصعب بل من المستحيل أن تراها صفوًا من الأكدار، فهل رأيت أحدًا سلم من آلام النفس، وأسقام البدن، وفقدان الأحبة، وخسران المال، وإيذاء الناس، ومتاعب العيش، وغير ذلك من تقلبات الدهر، وهذا كله لابد من وقوعه، والغرض منه الاختبار لمعرفة الصابر المحتسب من الجازع الهلع المتسخط، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].

الصبر على مشتهيات النفس:

فلابد من الصبر عما تشتهيه النفس، ويميل إليه الطبع، من متاع الدنيا وزينتها وشهواتها، التي يسوق إليها الهوى، ويزينها الشيطان، والمؤمن عليه أن يصبر عن ملاذ الدنيا، فلا يطلق لنفسه العنان للجري وراء شهواتها من النساء، والبنين ومتاع الدنيا الزائل، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 15،14].

ثم قال بعدها واصفًا الذين اتقوا من عباده فقال: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ[آل عمران:17].

وكما أن هناك ابتلاء بالضراء، فهناك ابتلاء بالسراء وهو أشد.

 

ولهذا قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن، والعوافي[1]لا يصبر عليها إلا صِدِّيق.

 

وقال آخر: “الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء”.

 

ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة-رضى الله عنهم- قال بعضهم: “ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر[2]“.

 

قال الغزالي رحمه الله في كتابه الإحياء 1/ 70″:” وإنما كان الصبر على السراء أشد، لأنه مقرون بالقدرة، ومن العصمة ألا تقدر… والجائع عند غيبة الطعام، أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذة وقدر عليها، ولهذا عظمت فتنة السراء”؛ اهـ.

 

ولقد حذر رب العالمين في كتابه الكريم من الركون إلى شهوات الدنيا، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه [المنافقون: 9].

وقال الغزالي أيضًا رحمه الله: “فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، ومعني الصبر عليها: ألا يركن إليها، ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده، وعسى أن يسترجع على القرب، وألا يرسل نفسه في الفرح بها، ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب، وأن يراعى حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة، وفي لسانه بالصدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه”؛ اهـ (إحياء علوم الدين:1/ 69).

 

وقال ابن القيم رحمه الل- كلامًا قريبًا من كلام الغزالي؛ حيث قال: “والصبر على مشتهيات النفس لا بد أن يكون من وجوه أربعة: أ – ألا يركن إليها ولا يغتر بها. ب – ألا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها.

 

جـ- أن يصبر على أداء حق الله فيها. د – ألا يصرفها في حرام. اهـ.

وفي الختام لابد أن نعرف أن الصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب.

 

وقد قال بعض السلف: اقدعوا هذه النفوس، فإنها تتطلع إلى كل سوءٍ – أي كُفُّوها عما تتطلع إليه من الشهوات – فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن الشهوات ومحارم الله أهون من الصبر على عذابه.

 

ومن مجالات الصبر: الصبر عن التطلع إلى دنيا الآخرين:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه: 131].

فالمؤمن حقًّا هو الذي يعتز بما آتاه الله من نعمة الهداية إلى الإيمان، والتوفيق إلى الطاعة، ويعلم أن المال ظل زائل، وعارية مستردة، ولا يبالي بمظاهر الأبهة والزينة التي يتمتع بها أصحاب الثروة والسلطان، وهذا ما وصف به القرآن أهل البصيرة من قوم موسى الذين خرج عليهم قارون في زينته وفخامة موكبه، فقال الذين يريدون الحياة الدنيا في تمن وتحسر: ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص: 79].

 

أما موقف أهل العلم والإيمان وذوي البصيرة والصبر، فهو ما ذكره القرآن:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ[القصص: 80].

ومن مجالات الصبر: الصبر عن الاستجابة لداعى الغضب:

فهناك من يحمله الغضب على أن يقابل السيئة بأكثر منها، فيكيل للمعتدى الصاع صاعين، وقد قال تعالى:﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43،41].

ويمثل هذا النوع من الصبر في القرآن خير ابني آدم الذي هدده أخوه بالقتل، فكان رده الحاسم البين:﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين [المائدة: 28].

ومن مجالات الصبر: الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تعالى:

فالدعاة إلى الله عز وجل يطلبون من الناس أن يتحرروا من أهوائهم وأوهامهم، وعادات أقوامهم، وما ألفه الآباء – وورثه عنهم الأبناء – من جهالات وبدع وخرافات وشركيات، وأكثر الناس لا يستجيبون للدعاة والناصحين، بل يحاربونهم بكل ما أُوتوا من قوة، طمعًا في الجاه أو السلطان، أو خوفًا من ضياع المال أو عادات الآباء، أو حبًّا للدنيا والشهوات، فعلى الدعاة أن يتسلحوا بالصبر، وهذا هو السر في اقتران التواصي بالصبر بالتواصي بالحق في سورة العصر، قال تعالى: ﴿ والعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر: 1 -3].

فلا بقاء للحق بغير صبر، وهو السر فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم؛ حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى على لسانه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17].

كأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فوطِّن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبُّل الأذى من جهتهم، فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف؛ لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر؛ لأنه محبب إليهم.

 

وها هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة، قال: “إني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله”؛ اهـ.

 

حيث كبُر عليه الصغير، وهرم عليه الشاب، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسِبه الناس دينًا نشؤوا عليه وشبُّوا عليه حتى صار دينًا لهم، فأراد أن يغير ما ألفه الناس، وأن يأخذ بأيديهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم.

 

ومشاق الدعوة إلى الله تتمثل في صور شتى، وقد ذكر القرآن منها أنواعًا وأمثلة:

أ- تتمثل في إعراض الخلق عن الداعية: فليس أشق على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه، ويصيح بأعلى صوته، بشيرًا ونذيرًا، فلا يجد إلا آذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، رأينا ذلك مع نوح عليه السلام؛ حيث قال مناجيًا ربه:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح: 5-7].

ورأينا ذلك مع هود عليه السلام حين قال له قومه: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين [هود: 53].

ورأينا ذلك مع خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث وصف الله حال قومه معه، فقال: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت: 1-5]، ولهذا قال الله لرسوله:﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ِ[النحل: 127].

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:” كأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون “.

يقول ابن القيم -رحمه الله – في كتابه “عدة الصابرين ص99”: فتضمنت هذه الدعوة العفو عنهم، والدعاء لهم، والاعتذار عنهم، والاستعطاف بقوله: “لقومي”.

 

أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: “هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لقيتُ، وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ[3]، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ – عَزَّ وَجَلَّ – قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا “.

ب- وتتمثل متاعب الدعوة في أذى الناس بالقول أو الفعل، فليس أشد على نفس الرجل المخلص في دعوته، البريء من الهوى، المحب لخير الناس، من أن يمحض لهم النصح، فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة فيردوه بالقوة، ويعظهم بالحسنى، فيستقبلوه بالسوأى، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيقاوموه بالتي هي أخشن، ويدلهم على الخير، فيقذفوه بالشر، ويصدع فيهم بكلمة الحق، فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل، وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، فكثيرًا ما يمتد الطغيان إلى سلب الأموال أو الطرد من البلدان، وانتهاك الحرمات، بل يصل الأمر إلى القتل.

 

وهذا ما أقسم القرآن على وقوعه للداعين إلى الله؛ حيث خاطب بذلك المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل، فقال: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186].

ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا[المزمل: 10].

والأنبياء جميعًا يمثلون هذا النوع من الصبر ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردًّا على أقوامهم: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12].

وعزَّى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله، فقال:﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ… [الأنعام: 34].

ومن اتباع الرسل ذكر لنا القرآن هنا مثلًا رائعًا يتجلى في سحرة فرعون، حين وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون، وعندها قال لهم فرعون: ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[الأعراف: 123-124].

فماذا كان موقف السحرة إزاء هذا الوعيد الهادر من ملك جبار يقول للناس: أنا ربكم الأعلى؟

لقد وقفوا أمام جبروت فرعون، سائلين الله تعالى أن يفرغ عليهم صبرًا يتحملون به العذاب، ويستقبلون به المكاره، وألا يزغ قلوبهم بعد إذ هداهم، ومن هنا قالوا:﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ[الأعراف: 125-126].

وأخرج الإمام مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر… الحديث، وفيه: ” إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد[4]واحد وتصلبني على جذع، ثم خد سهمًا من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس[5]ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود[6]في أفواه السكك[7]فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه اصبري، فإنك على الحق “.

جـ- وتتمثل مشاق الدعوة كذلك في صورة أخرى هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، هناك يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالًا شديدًا، كما صور القرآن الحالة النفسية للمسلمين في غزوة الأحزاب.

 

وكم أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع، وبأكثر من أسلوب، فهو يخاطب المؤمنين فيقول:

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214].

يقولون متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالًا لمجيئه، فيجئ معه الغوث للملهوف، والفرج للمكروب.

 

ويقول جل شأنه: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110].

 

من مجالات الصبر: الصبر على طلب العلم:

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي كَعْبٍ: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: إنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّ لي عَبْدًا بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ مُوسَى: يا رَبِّ، فَكيفَ لي به؟ قالَ: تَأْخُذُ معكَ حُوتًا[8]فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ[9]، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ[10]، فأخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ في مِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ وانْطَلَقَ معهُ بفَتَاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، حتَّى إذَا أتَيَا الصَّخْرَةَ وضَعَا رُؤُوسَهُما فَنَامَا، واضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ، فَخَرَجَ منه فَسَقَطَ في البَحْرِ، ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا[الكهف: 61]، وأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عليه مِثْلَ الطَّاقِ[11]، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَومِهِما ولَيْلَتَهُما، حتَّى إذَا كانَ مِنَ الغَدِ قالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: ﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا[الكهف: 62]، قالَ: ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَا المَكانَ الذي أمَرَ اللَّهُ به، فَقالَ له فَتَاهُ: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا[الكهف: 63]، قالَ: فَكانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، ولِمُوسَى ولِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقالَ مُوسَى: ﴿ ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا علَى آثَارِهِما قَصَصًا، قالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُما حتَّى انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى[12]ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى، فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قالَ: أنَا مُوسَى، قالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قالَ: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا[الكهف: 67]، يا مُوسَى، إنِّي علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ، لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأَنْتَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، لا أعْلَمُهُ، فَقالَ مُوسَى: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا[الكهف: 69]، فَقالَ له الخَضِرُ: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا[الكهف: 70]، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ بغيرِ نَوْلٍ[13]، فَلَمَّا رَكِبَا في السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إلَّا والخَضِرُ قدْ قَلَعَ لَوْحًا مِن ألْوَاحِ السَّفِينَةِ بالقَدُومِ، فَقالَ له مُوسَى: قَوْمٌ قدْ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا ﴿ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا[14]* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف:71-73]، قالَ: وقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وكَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا، قالَ: وجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نَقْرَةً، فَقالَ له الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِن هذا البَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبيْنَا هُما يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ إذْ أبْصَرَ الخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيَدِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقالَ له مُوسَى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً[15] ﴾﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا[الكهف: 74 – 75]، قالَ: وهذِه أشَدُّ مِنَ الأُولَى، قالَ: ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ[الكهف: 76، 77]، قالَ: مَائِلٌ، فَقَامَ الخَضِرُ فأقَامَهُ بيَدِهِ، فَقالَ مُوسَى: قَوْمٌ أتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ولَمْ يُضَيِّفُونَا، ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا[الكهف: 77]، قالَ: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إلى قَوْلِهِ: ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[الكهف: 78 – 82]، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِن خَبَرِهِما. قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ ﴿ وَكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وكانَ يَقْرَأُ: ﴿ وَأَمَّا الغُلَامُ فَكانَ كَافِرًا وكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.

 

ومن مجالات الصبر: الصبر في الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف:

فالصبر لازم في الحرب وعند لقاء العدو، وهو شرط للنصر، وقديما قالوا:” إنما النصر صبر ساعة “؛ (رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والطبري في تاريخه).

 

وقد أثني الله على الصابرين في الحرب، فقال تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ (أي الفقر) وَالضَّرَّاءِ(أي المرض) وَحِينَ الْبَأْسِ(أي الحرب) أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة: 177].

وحذر الله تعالى من الفرار وتولى الأدبار، وأمر بالثبات والصبر، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 45-47].

 

فوضع ستة شروط أولها: الثبات، وخامسها: الصبر، وهما من باب واحد، فلا ثبات بغير صبر ويؤكد القرآن الأمر بالصبر عند ختام الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ليغرى الأنفس به، ويثبت القلوب عليه.

 

وفي نفس السورة يربط القرآن بين الصبر في القتال والغلبة على العدو، فيقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 66،65].

 

وأعظم ما تشتد به الحاجة إلى الصبر في الحرب عندما ينفرط العقد، وتميل الريح ويضطرب الأمر، وتشيع روح الهزيمة في المقاتلين، وتنتشر الشائعات المثبطة للهمم، المحطمة للعزائم، كما حدث في غزوة أحد، بعد أن أخلى الرماة أماكنهم فانكشف جيش المسلمين، وانقض عليهم فرسان المشركين من الخلف، فاضطرب الميزان، وانتشر الذعر، وشاعت الشائعات بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فأوهن ذلك صفوف المسلمين وفت في أعضادهم، وزلزل روحهم المعنوية، ففر الأكثرون وبقي الأقلون، وهنا نزل القرآن يشيد بالذين ثبتوا وصبروا، وينكر على الذين تولوا وأدبروا: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران: 143،142].

ولا يجعل لهم عذرًا في الفرار من المعركة، ولو كان قد صح ما أشيع أن الرسول قد قتل، يقول: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].

إلى أن يقول: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران: 146].

وخيرُ مَن يمثل هذا النوع من الصبر في القرآن: طالوت والقلة المؤمنة معه من جنوده، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، على عدد أهل بدر، ولقد عقد طالوت لجنوده امتحانًا في بادئ الأمر ليختبر صبرهم، فقال لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة: 249].

هذه القلة التي نفذت الأمر، وأبت أن تشرب الماء وهي ظمأى إلا غرفة باليد، هي التي نجحت في الامتحان، وتبين صبرها عند الشدة، وهى التي اجتازت النهر مع طالوت: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (أي لكثرة عددهم وعدتهم)، ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ (أي من هؤلاء المؤمنين) ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250،249].

طلبوا أولًا أن يمنحهم الله الصبر، لأنه سبيل النصر، ومن روعة التعبير هنا أنهم لم يسألوا الله أي قدر من الصبر، بل سألوه أن يفرغه عليهم إفراغًا، أي يصبه عليهم صبًا، كأنه ماء يفرغ عليهم ليتطهروا به ويغتسلوا. وكانت العاقبة انتصار القلة المؤمنة الصابرة على الكثرة الطاغية الكافرة ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة: 251].

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بالصبر عند لقاء العدو، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فِي بَعْض أَيَّامه التي لَقِي فيها العدو ينتظر، حتى إذا مَالَتِ الشمس قام فِيهم، فقال: “يا أَيُّها الناس، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوِّ، وَاسْأَلوا الله الْعافية فَإِذا لَقِيتموهم فَاصْبِرُوا، وَاعلموا أَنَّ الْجَنَّة تحت ظِلال السُّيوف ثُمَّ قَال النَّبِي صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ مُنزِلَ الْكتاب، وَمُجْرِيَ السَّحاب، وَهازم الأَحْزاب: اهْزِمهم، وَانصُرنا علَيهم”.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة الحارث بن رِبْعِيِّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قامَ فيهم، فذكرَ لهم أَنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ، والإيمانَ باللهِ أفضلُ الأعمالِ، فقامَ رَجُلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فقالَ له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” نعم، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ، وأنتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ”. ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” كَيْفَ قُلْتَ؟” قال: أَرَأَيتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فقالَ له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” نعم، وأنتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلا الدَّيْنَ؛ فَإنَّ جِبْرِيلَ – عليه السلام – قالَ لِي ذَلِكَ”.

وأخرج البخاري ومسلم عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: دميت[16]إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال: “هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت”.

ومن مجالات الصبر: الصبر عند نزول الشدة والبلاء:

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: أرسلَتْ بنتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهِ، أنَّ ابنًا لي قُبِضَ فأْتِنا فأرسلَ يقرأُ السَّلامَ ويقولُ: إنَّ للَّهِ ما أخذَ ولَهُ ما أعطى وَكُلُّ شيءٍ عندَ اللَّهِ بأجَلٍ مُسمًّى، فلتَصبِرْ ولتَحتسِبْ فأرسلَتْ إليهِ تقسمُ عليهِ ليأتينَّها، فقامَ ومعَهُ سعدُ بنُ عبادةَ ومعاذُ بنُ جبَلٍ وأبيُّ بنُ كَعبٍ وزيدُ بنُ ثابتٍ ورجالٌ، فرفعَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ ونفسُهُ تقَعقعُ[17]– قال حسبته أنه قال: كأنها شن[18]– ففَاضَت عيناهُ فقالَ سعدٌ: يا رسولَ اللَّهِ! ما هذا؟ قالَ:” هذه رحمةٌ يجعلُها اللَّهُ في قلوبِ عبادِهِ وإنَّما يَرحمُ اللَّهُ من عبادِهِ الرُّحَماءَ”.

وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر – رضى الله عنهما -: أنَّ مَوْلاةً لهُ أَتَتْهُ فقالتْ اشْتَدَّ عليَّ الزَّمانُ وإنِّي أُرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى العراقِ قال فَهَلَّا إلى الشَّأْمِ أرضِ المَنْشَرِ اصْبِرِي لكَاعِ[19]فإني سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ مَنْ صَبَرَ على شِدَّتِها ولَأْوَائِها[20]كُنْتُ لهُ شَهِيدًا أوْ شَفيعًا يومَ القيامةِ”.

وأخرج الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع”؛ (صحيح الجامع: 282) (السلسلة الصحيحة: 146).

وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا لم تغادر منا واحدة، فأقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ تَمْشِي، لا واللَّهِ ما تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِن مِشْيَةِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ: مَرْحَبًا بابْنَتي ثُمَّ أجْلَسَهَا عن يَمِينِهِ أوْ عن شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هي تَضْحَكُ، فَقُلتُ لَهَا أنَا مِن بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالسِّرِّ مِن بَيْنِنَا، ثُمَّ أنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا: عَمَّا سَارَّكِ؟ قَالَتْ: ما كُنْتُ لِأُفْشِيَ علَى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بما لي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ لَمَّا أخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فأخْبَرَتْنِي، قَالَتْ: أمَّا حِينَ سَارَّنِي في الأمْرِ الأوَّلِ، فإنَّه أخْبَرَنِي: أنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُهُ بالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وإنَّه قدْ عَارَضَنِي به العَامَ مَرَّتَيْنِ، ولَا أرَى الأجَلَ إلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي، فإنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أنَا لَكِ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الذي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ: يا فَاطِمَةُ، ألَا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ، أوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هذِه الأُمَّةِ.

أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتقي الله واصبري”، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولي”.

وأخرج البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال: “قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثمَّ يُؤتى بالمِنْشَارِ فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصُدُّهُ ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غَنَمِه، ولكنكم تستعجلون”.

من مجالات الصبر: الصبر على تربية البنات:

فقد أخرج الترمذي من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهنَّ، كن له حجابًا من النار”؛ (صححه الألباني).

11- من مجالات الصبر: الصبر على موت الولد:

فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات ولدٌ لعبدٍ قال اللهُ تعالى لملائكتِه: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقولُ: قبضتم ثمرةَ فؤادِه؟ فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمَدك واسترجع، فيقولُ: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ، وسمُّوه بيتَ الحمدِ “.

وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَتَتِ امْرَأَةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بصَبِيٍّ لَهَا، فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللَّهَ له، فَلقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً، قالَ: دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: لَقَدِ احْتَظَرْتِ بحِظَارٍ شَدِيدٍ[21]مِنَ النَّارِ”.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِنسوةٍ مِنَ الأنصارِ: لا يَموتُ لإحداكنَّ ثلاثةٌ مِنَ الولدِ فتَحتَسِبُه؛ إلَّا دخَلَتِ الجنَّةَ. فقالتِ امرأةٌ منهنَّ: أوِ اثنينِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: أوِ اثنينِ.

أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة”.

ومن مجالات الصبر: الصبر في مجال العلاقات الإنسانية:

فالإنسان اجتماعي بطبعه لا يعيش في هذا المجتمع بمفرده، بل يخالط الأقارب والأصدقاء والجيران والأهل والزوجة والأولاد وزملاء العمل، وكل إنسان فيه ما يُمدح ويُذم، والعلاقات بين الناس لا تستقيم إلا بصبر بعضهم على بعض، فيصبر الزوج على زوجته والعكس، ويصبر الجار على جاره والعكس، ويصبر الوالد على والده والعكس، والأخ مع أخيه والعكس، والقريب مع قريبه والعكس، والمعلم مع تلميذه والعكس، فيلجم الإنسان نفسه بلجام الحلم ويكفها عن الغضب ودواعي الانفعال، والحرص على دفع السيئة بالحسنة، فينقلب العدو إلى صديق، والساخط المبغض إلى محب مخلص، وقد أمرنا الله بذلك في كتابه الكريم، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:35،34].

ويعدد القرآن أوصاف أولى الألباب الذين يستحقون عقبى الدار – أي الجنة – فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 22].

من مجالات الصبر: الصبر على أذى الناس:

فقد أخرج الإمام احمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم “.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ ناسًا مِن الأنصارِ قالوا يومَ حُنَينٍ حينَ أفاء اللهُ على رسولِه مِن أموالِ هوازنَ ما أفاء فطفِق رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعطي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئةَ مِن الإبلِ فقالوا: يغفِرُ اللهُ لِرسولِه يُعطي قُرَيشًا ويترُكُنا وسيوفُنا تقطُرُ مِن دِمائِهم قال أنَسٌ: فحدَّثْتُ ذلكَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن قولِهم فأرسَل إلى الأنصارِ فجمَعهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ[22]فلمَّا اجتمَعوا جاءهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال:” ما حديثٌ بلَغني عنكم “؟ فقال له قومٌ مِن الأنصارِ: أمَّا ذَوُو أسنانِنا يا رسولَ اللهِ فلَمْ يقولوا شيئًا وأمَّا ناسٌ منَّا حديثةٌ أسنانُهم فقالوا: يغفِرُ اللهُ لِرسولِه يُعطي أناسًا وسيوفُنا تقطُرُ مِن دِمائِهم فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:” إنِّي أُعطي رِجالًا حدِيثِي عهدٍ بالكفرِ أتألَّفُهم أفلَا ترضَوْنَ أنْ يذهَبَ النَّاسُ بالأموالِ وترجِعونَ إلى رِحالِكم برسولِ اللهِ؟ فواللهِ لَمَا تنقلِبونَ به خيرٌ ممَّا ينقلِبونَ”، فقالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قد رضِينا قال:” فإنَّكم ستجِدونَ أثَرَةً[23]شديدةً فاصبِروا حتَّى تلَقُوا اللهَ ورسولَه على الحوضِ”، قالوا: سنصبِرُ.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه: أن رجلًا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانًا، فقال: “إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض”.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: “يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”.

من مجالات الصبر: الصبر على ضيق العيش:

أخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي الله عنهما- أن ثلاثة نفر جاءوه، فَقالوا: يا أَبَا مُحَمَّدٍ، إنَّا وَاللَّهِ ما نَقْدِرُ علَى شَيءٍ؛ لا نَفَقَةٍ، وَلَا دَابَّةٍ، وَلَا مَتَاعٍ، فَقالَ لهمْ: ما شِئْتُمْ؛ إنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إلَيْنَا فأعْطَيْنَاكُمْ ما يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ، وإنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وإنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ.

ومن مجالات الصبر: الصبر على طاعة الله:

والقيام بواجب العبودية لله وطاعته من أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس.

 

قال تعالى مخاطبًا رسوله: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم: 65].

وقوله أيضًا: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132].

 

وقد استخدم القرآن هنا صيغة الافتعال من الصبر “اصطبر” مكان الصيغة المعتادة “اصبر”؛ لأن الافتعال يدل على المبالغة في الفعل فزيادة المبنى تدل في العادة على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لأن الطريق إلى طاعة الله مليئة بالمعوقات من داخل النفس ومن خارجها، وفيها يقول الشاعر:

إني ابتليت بأربع يرمينني
بالنبل عن قوس له توتير
إبليس والدنيا ونفسي والورى
يارب أنت على الخلاص قدير

 

وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان شهر الصبر، لأن الصيام يحتاج إلى مجاهدة نفس وترك الشهوات وملذات الدنيا.

 

فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر”، وفي رواية عند الترمذي: “…. والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان”.

والإنسان يحتاج إلى الصبر على طاعة الله في ثلاثة أحوال:

الأولى: قبل الطاعة: وذلك في تصحيح النية، وإخلاص العمل لله، والحرص من الرياء والسمعة ولذلك قدم الله تعالى الصبر على العمل، فقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[هود: 11].

الحالة الثانية: أثناء العمل، كي لا يغفل عن الله في حال عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويراعى أركان العمل وواجباته، ويحظر الفتور والتواني، حتى ينتهي من العمل، قال تعالى: ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:59،58]؛ أي صبروا إلى تمام العمل.

 

الحالة الثالثة: بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء، والبعد عن كل ما يبطل عمله، ويحبط أثره، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[محمد: 33]، وكما قال تعالى: ﴿ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264]، فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله.

 

من مجالات الصبر: الصبر في زمن الفتن:

أخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” يا أبا ذرٍّ! قلتُ: لبَّيكَ يا رسولَ اللَّهِ وسعديكَ، فذَكَرَ الحديثَ وقالَ فيهِ… كيفَ أنتَ إذا أصابَ النَّاسَ موتٌ يَكونُ البيتُ فيهِ بالوصيف[24] قلتُ اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ – أو قالَ ما خارَ اللَّهُ لي ورسولُهُ – قالَ:” عليكَ بالصَّبرِ- أو قالَ تصبرُ- ثمَّ قالَ لي:” يا أبا ذرٍّ! قلتُ: لبَّيكَ وسعديكَ، قالَ:” كيفَ أنتَ إذا رأيتَ أحجارَ الزَّيتِ قد غرِقَت بالدَّمِ؟ قلتُ: ما خارَ اللَّهُ لي ورسولُهُ، قالَ:” عليكَ بمن أنتَ منهُ “، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! أفلا آخذُ سَيفي وأضعُهُ على عاتقي، قالَ:” شارَكْتَ القومَ إذَن “، قلتُ: فما تأمُرُني؟ قالَ:” تلزَمُ بيتَكَ “، قلتُ: فإن دخلَ عليّ بَيتي؟ قالَ:” فإن خشيتَ أن يبهَرَكَ شعاعُ السَّيفِ، فألقِ ثوبَكَ على وجهِكَ يبوءُ بإثمِكَ وإثمِهِ “.

وأخرج الإمام مسلم من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتة جاهلية”.


[1] العوافي: جمع عافية.

[2] رواه الترمذي (2464) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وقال: حديث حسن، والضياء المقدسي في المختارة (3/ 121) برقم (921) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 100) وابن المبارك في الزهد (1/ 182)، وهناد في الزهد (2/ 389) من كلام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

[3] قرن الثعالب: هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.

[4] صعيد: الصعيد هنا الأرض البارزة.

[5] كبد القوس: مقبضها عند الرمي.

[6] الأخدود: هو الشق العظيم في الأرض، وجمعه أخاديد.

[7] أفواه السكك: أبواب الطرق.

[8] الحوت: السمكة.

[9] مكتل: هو القفة والزنبيل.

[10] فهو ثمَّ: أي هناك.

[11] الطاق: عقد البناء.

[13] بغير نول: بغير أجر.

[14] إمرًا: عظيمًا.

[15] زاكية: طاهرة من الذنوب.

[16] دميت: أي جرحت وخرج منها الدم.

[17] تتقعقع: تتحرك وتضطرب.

[18] شن: هو القربة الخلق الصغيرة.

[19] لكاع: يقال امرأة لكاع ورجل لكع، ويطلق ذلك على اللئيم، وعلى العبد، وعلى الغبي الذي لا يفهم كلام غيره، وعلى الصغير، وخاطبها ابن عمر بهذا إنكارا عليها وليس المراد وصفها بذلك المعني.

[20] أي لأواء المدينة، واللأواء: الشدة وضيق العيش.

[21] احتظرت بحظار شديد: أي احتمت بحمى عظيم من النار يقيها حرها، ويؤمنها من دخولها، لأنها صبرت على فقد ابنها.

[22] في قبة من أدم: القبة من الخيام: بيت صغير مستدير، ومن أدم معناه من جلود.

[23] أثرة: فيها لغتان إحداهما ضم الهمزة وإسكان الثاء، وأصحهما وأشهرهما: بفتحهما جميعًا، والأثرة الاستئثار بالمشترك.

[24] يكون البيت فيه بالوصيف: الوصيف: العبد، والأمة: وصيفة، وجمعهما: وصفاء ووصائف والمراد يكثر الموت حتى يصير موضع قبر يشترى بعبد، من كثرة الموتى وقبر الميت بيته.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Lost in Translation: Challenges and Triumphs of Translating قصص وروايات into English
From Thousand and One Nights to Modern Times: The Evolution of قصص وروايات