مقام إبراهيم: الرمزية والدلالات
مقام إبراهيم: الرمزية والدلالات
الحمد لله الذي اتخذ نبيَّه إبراهيم خليلًا، وجعله أُمَّةً قانتًا لله حنيفًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، رسول الله وخليله، هداه إلى صراط مستقيم، دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين، صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فقد ورد ذكر نبي الله إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم تسعًا وستين مرة، تجلَّى في مجملها دوره قدوة للبشرية جمعاء، منذ أن بعثه الله وحتى قيام الساعة، ولِما لهذا الدور من خصوصية وأهمية في إعداد المجتمع الحنيف الذي يدين بتوحيد الله الخالص من كل شرك، فقد أحاط السياق القرآني بكل جوانبه موضحًا نشأته وعوامل قوته، والتحديات التي طرأت عليه، والحكمة في التعامل معها، ودلائل استمراره ودوامه، والتي يرمز لها مقام إبراهيم بشكل جَلِيٍّ؛ حيث ورد ذكره في الآي الحكيمة مرتين، مقترنًا تارة بالصلاة، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وتارة بالحج، بكل ما يتضمنه من شعائر ونُسُكٍ، واعتباره الحدثَ الاجتماعي الأبرز للمسلمين.
الملة الحنيفية:
بعث الله نبيه إبراهيم عليه السلام بالملة الحنيفية القائمة على توحيد الله، والميل عن كل ما يُعبَد من دونه، وقد تلازم الحديث في السياق القرآني عن ملة إبراهيم الحنيفية مقترنًا بنفي الشرك في مواضع عديدة، عبَّر عنها السياق القرآني غالبًا بـ”ملة إبراهيم حنيفًا”، ولا شك أن لهذا التلازم دلالةً على أصالة وقدم عقيدة التوحيد من جهة، وعلى امتياز نبي الله إبراهيم بشرف القدوة فيها من جهة أخرى، حتى إن الله هدى خاتم أنبيائه نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم للاقتداء به؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، بل جعله وأُمَّتَه أولى الناس به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وامتدح المقتدين به بأنهم أحسن الناس دينًا؛ فقال عز شأنه: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].
ولِما للملة الحنيفية من أهمية في بناء الشخصية الموحَّدة القوية، فقد ذمَّ سبحانه من رغِب عنها وعن الاقتداء بمعلمها الأول بسفاهة النفس؛ قال جل شأنه: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130].
القدوة الحنيف:
وضح السياق القرآني تفاصيلَ تكليف الله لنبيه إبراهيم بالقدوة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، فكان جديرًا باستحقاق هذا الشرف العظيم بإتمامه كلماتِ ربه، وحرصه على مَن يليه مِن ذريته.
وقد تعرض السياق القرآني أيضًا لفورية قبول نبي الله إبراهيم للتكليف الإلهي؛ فقال تعالى موضحًا سبب اصطفائه: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، فأورد التكليف والقبول في سياق قرآني تام الاتصال، ولم يكتفِ نبي الله بقبول الأمر، بل سارع للعمل بمقتضى القدوة، وإظهار حرصه على اقتداء من تبِعه، كيف لا وهو أبو الأنبياء؟ ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وحرَص مَنِ اقتدى به على اقتداء من بعده: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، ومن بعدهم على من بعده: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 95].
ونظرًا لما تتمتع به هذه القدوة من أهمية للبشرية جميعًا، فقد أحاط السياق القرآني بكافة عناصرها إحاطة وضحت ملامحها ومميزاتها، ولعل من أجمع صور هذه القدوة، وأبلغها على الإطلاق قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، فهو بذاته أُمَّة، والأمة كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “هو معلم الناس الخير”[1]، ولا يكون ذلك إلا لمن جمع أصول الخير كلها، وهو مديم لطاعة ربه، مائل عن كل شرك.
وقال تعالى واصفًا رأفته وصفاء قلبه: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، فهو حليم لا يحب المعاجلة بالعقوبة، شديد التضرع إلى ربه، كثير الإنابة إليه، وهي من أسمى صفات القدوة وأكملها على الإطلاق.
واستعرض السياق القرآني الكريم ما واجه خليلُ الله إبراهيم من صعوبات وتحديات، قابلها بما يقتضيه مقام القدوة الحنيف من الحكمة والثقة، فحاوَرَ الْمَلِكَ الْمُشْرِك بمنطق التوحيد البديهي الذي تدركه الفِطَرُ البشرية فبَهَتَهُ؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، وقد اتضح هذا المنطق أيضًا في حواره مع أبيه وقومه المشركين، عندما حاجُّوه في ربه وخوَّفوه بآلهتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81]، ليتداعى بعدها كيدُ قومه حتى عزموا على التخلص منه، وإخماد جذوة مِلَّتِهِ الحنيفية، فأخمد الله نارهم، بل جعلها بردًا وسلامًا على خليله الحنيف؛ قال تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، وتوالت بعد ذلك البشائر بهلاك الظالمين، والذرية الطيبة، فتمَّت نعمة الله على خليله الذي أدى جميع تكاليف ربه على أتمِّ وجهٍ؛ فكان كما قال عنه ربه سبحانه: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].
مقام إبراهيم: الرمزية والدلالات:
شرَّف المولى سبحانه وتعالى خليلَه إبراهيمَ بعمارة بيته العتيق، ووصف حاله وابنه إذ ذاك؛ فقال عز ذكره: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، فما إن شرعا بالعمل حتى سألا الله القبول، وما أرجى هذا المقام لإجابة الدعاء! وتتالت الدعوات وفيها منتهى الحرص على من سيرث دعوى التوحيد: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 128، 129]، فالبيت بيت الله، والدعوى توحيد الله والميل عن كل شرك، والقائم على ذلك خليل الله بمساعدة ابنه، والدعوى موجهة للبشرية جمعاء؛ لذا اقتضت حكمة المولى سبحانه وتعالى أن تُخلَّد تلك اللحظة، وتكون ذكراها حاضرةً في أذهان عباده الموحدين، فحفِظ ذلك الحجر الذي رسخت فيه آثار قدمي خليله حين وقف عليه، رافعًا بنيان البيت، وحاملًا أمانة التوحيد؛ ليكون ذلك المقام رمزًا للتوحيد الخالص، والملة الحنيفية التي شرعها الله لعباده الموحدين، وارتضاها لهم منهجًا وطريقًا.
وللمقام دلالات عديدة ألمح إليها الذكر الحكيم في الآيتين اللتين ورد فيهما ذكره من سورتي البقرة وآل عمران؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، وقال جل شأنه: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، فأبرزها دلالته على الأمان للموحدين السائرين على نهج الحنيفية في كل زمان ومكان، وإن شمل هذا الأمان عموم بيت الله الحرام، فإنه في مقام الحنيفية أخص، وللداخلين فيه آكَدُ.
ومنها أيضًا دلالته على شرف ورفعة بيت الله الحرام، وعظيم شأنه وبركته، فكان الأجدر بالذكر في سياق الكلام عن آيات أول بيت وضع للأنام.
ومنها دلالته على الوحدة والاجتماع، وهو ما يؤكده الأمر الإلهي بصيغة الجمع ﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾، ولاتخاذه مصلًّى تشريفٌ إلهي عظيم، وكذلك اقترانه بفريضة الحج، فتزدحم أقدام الموحدين في المقام، وتتحد قلوبهم على توحيد الله، فتقوى شوكتهم ويُبارَك جمعهم.
وفي عطف ذكره على جعل البيت مثابةً وأمنًا دلالة على تمتعه هو أيضًا بهذه المزية الرفيعة؛ فهو كما وصفه ابن عباس رضي الله عنه: “لا يقضون منه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه”[2].
ومنها كذلك دلالته على الطُّهْرِ الذي تتصف به قلوب الموحدين، فحيث عهِد المولى سبحانه وتعالى لإبراهيم وإسماعيل بتطهير بيته من الرجس والأوثان، كان مقام الحنيفية أولى بذلك الطُّهْرِ، وكانت قلوب الحنفاء من عباده الموحِّدينأسنى بهذا الفضل.