من آداب طالب العلم (2)


من آداب طالب العلم رقم (2)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:

فلا زال الكلام على آداب طالب العلم وما ينبغي أن يتحلى به، فمن ذلك:

1- التحلي بالمروءة وما يحمل إليها من مكارم الأخلاق وطلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وتحمُّل الناس والأنفة من غير كبرياء، والعزة في غير جبروت، والشهامة في غير عصبية، والحمية في غير جاهلية، والمروءة: هي استعمال ما يجمل العبد ويزيِّنه من الأعمال والأقوال والهيئات، وترك ما يدنِّسه ويشينه في كل ذلك، سواء مع الخالق أو مع المخلوق، وسواء تعلق ذلك به أو تعداه إلى غيره.

قال ابن حبان رحمه الله: والمروءة عندي خصلتان: اجتناب ما يكره الله والمسلمون من الفعال، واستعمال ما يحب الله والمسلمون من الخصال [1].

ومكارم الأخلاق هي أن يتخلق المسلم بالأخلاق الفاضلة الجامعة بين العدل والإحسان، فيأخذ بالحزم في موضع الحزم، وباللين واليسر في موضع اللين واليسر، وعليه أن يجتنب خوارم المروءة في طبع أو قول أو عملٍ من حرفةٍ مهينةٍ، أو خلة رديئة، كالعجب والرياء والبطر والخيلاء، واحتقار الآخرين، وغشيان مواطن الرِّيَب، قال أبو حاتم البستي رحمه الله: الواجب على العاقل تفقُّد الأسباب المستحقرة عند العوام من نفسه؛ حتى لا يثلم[2] مروءته، فإن المحقرات ضد المروءات تؤذي الكاهل في الحال بالرجوع القهقرى إلى مراتب العوام وأوباش الناس[3].

2- التمتع بصفات الرجولة؛ من الشجاعة، وشدة البأس في الحق، والبذل في سبيل المعروف، والحذر من ضعف الجأش، وقلة الصبر.

فالشجاعة هي الإقدام في محل الإقدام، ويلزم أن تُسبق برأي وتفكير وحنكة، ولهذا قال الشاعر:

الرَّأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُّجعانِ
هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثَّانِي
فَإِذا هُما اجتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ
بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ

فلابد من رأي؛ لأن الإقدام في غير رأي تهوُّر، وتكون نتيجته عكس ما يريده هذا المقدام، وكذلك شدة البأس في الحق بحيث يكون قويًّا فيه صابرًا على ما يحصل من أذًى أو غيره في جانب الحق.

والبذل في المعروف يشمل بذل المال والجاه والعلم، وكل ما يُبذل للغير في سبيل المعروف.

3- هجر الترفه: لا ينبغي لطالب العلم أن يسترسل في التنعم والرفاهية، «فإن البذاذة من الإيمان»[4].

قال عمر رضي الله عنه: «إياكم والتنعم وزي العجم، وتَمعدَدوا[5] واخشوشنوا».

والمقصود بالبذاذة: ترك التنعم والترفه.

والإنسان الذي يعتاد الرفاهية يصعب عليه معاناة الأمور؛ لأنه قد تأتيه على وجه لا يتمكَّن معه من الرفاهية، ومثال ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالاحتفاء أحيانًا [6].

نجد بعض الناس لا يحتفي، وإنما ينتعل دائمًا ولو عرض له عارضٌ، وقيل له: تمشي مسافة قصيرة بدون وقاية للرجل، لوجد بذلك مشقة عظيمة، وربما تُدمى قدمه من مماسة الأرض، لكن لو عوَّد نفسه على الخشونة وعلى ترك الترفه دائمًا، لحصل له خيرٌ كثير.

إن البدن إذا لم يُعوَّد على مثل هذه الأمور، لم يكن عنده مناعة، فتجده يتألم من أي شيء من ذلك، لكن من عنده مناعة لا يهتم به.

والتنعم يكون باللباس والبدن وغيره، والمراد بذلك كثرته؛ لأن التنعم بما أحل الله على وجه لا إسراف فيه من الأمور المحمودة بلا شك، وعلى طالب العلم أن يختار اللباس الحسن؛ لأن الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن، والناس يُصنِّفون الرجل من لباسه، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من الرصانة والتعقل، أو التمشيخ والرهبنة، أو التصابي وحب الظهور.

وكذلك الحذر من لباس الإفرنج؛ قال عمر بن الخطاب: «أحب إليَّ أن أنظر القارئ أبيض الثياب»؛ أي ليعظم في نفوس الناس فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.

والناس كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه لله: كأسراب القطا مجبولون على تشبُّه بعضهم ببعض.

أما لباس التصابي: «بأن يلبس الشيخ الكبير سنًّا ما يلبسه الصبيان من رقيق الثياب وما أشبه ذلك، وهذا من الأمور التي لا ينبغي للإنسان أن يفعلها.

أما اللباس الإفرنجي، فهو اللباس المختص بهم بحيث لا يلبسه غيرهم، إذا رآه الرائي قال: إن لابسه من الإفرنج، وأما ما كان شائعًا بين الناس من الإفرنج وغيرهم، فهذا لا يكون فيه التشبه، لكن قد يحرم من جهة أخرى مثل أن يكون حريرًا بالنسبة للرجال أو قصيرًا بالنسبة للنساء، أو ما أشبه ذلك،

وفي الحديث: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ[7]»[8].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] روضة العقلاء ونزهة العقلاء ص (218).

[2] الثلم هو: الخلل.

[3] روضة العقلاء ونزهة العقلاء، ص (234).

[4] حديث في سنن أبي داود برقم (4161)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (2 /784) برقم (3507).

[5] تمعددوا: أمر باللبسة الخشنة المنسوبة إلى معد بن عدنان.

[6] مسند الإمام أحمد (39 /389) برقم (23969)، وقال محققوه: إسناده صحيح إن كان عبد الله بن بريدة سمعه من أحد صحابييه.

[7] جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (4031)، وقال شيخ الإسلام 2 في الفتاوى (5 /331): إسناده جيد.

[8] شرح حلية طالب العلم للشيخ ابن عثيمين2 (ص: 60-66).



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الدول المشاركة في بناء “الحزام والطريق” تواصل تعزيز العلاقات الشعبية
مبادرة “الحزام والطريق” تمهد طريقا نحو التنمية والازدهار المشتركين