من صفات عباد الرحمن: ترك شهادة الزور (خطبة)
من صفات عباد الرحمن: ترك شهادة الزور
الحمد لله الذي حرَّم على عباده شهادةَ الزُّور، وجعل قولَ الصدق وتجنُّبَ الكذب من العمل الصالح المبرور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الشكور، يجازي الذين لا يشهدون الزور بدخول الجنة، وكثير الأجور، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المنزَّه عن كل نقص وقصور، كان يبين أن شهادة الزور من أكبر الكبائر والشرور، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]؛ أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، ما زِلْنا نتحدث عن صفات عباد الرحمن وأنواعها، وهي عبارة عن صفات حسنة اتصفوا بها، وعن صفات سيئة تخلَّوا عنها، فاستحقوا بذلك دخول الجنة ورضوانها، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الجنة وكل عمل وقول يقربنا إليها.
فمن صفات عباد الرحمن تركُ شهادة الزور؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، وللعلماء قولان في تفسير هذه الآية؛ أحدها: “لا يشهدون الزور: أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب، فهو من الشهادة، وثانيهما: لا يحضرون مجالس الزور واللهو، فهو على هذا من المشاهدة والحضور”[1].
عباد الله، إننا نعيش في هذه الدنيا، ونتعامل فيما بيننا بالأموال والزواج، والشركات والديون، والمنافع وغيرها، وربما نتج عن هذا التعامل خلاف ونزاع، فنضطر إلى اللجوء إلى القضاء لنفض النزاع، ويأخذ كل ذي حق حقه، والقضاء لا بد له من الشهود الذين شاهدوا الأحداث وحضروها، ليؤدوا شهادتهم كاملة تامة، دون كذب أو نقص أو زيادة.
إلا أن من الناس من ضعُف إيمانه، وقل حياؤه من الله وخوفه، يشهد شهادة الزور، ويتعمد الكذب من أجل إحقاق الباطل، وإبطال الحق، ألَا فالويل لهؤلاء من عذاب الله، فكم من حقوق ضُيِّعت بسببهم؟ وكم من أملاك انتزعت من أصحابها؟ وكم أُسَرٍ شُتِّتت؟ وكم من مظلوم مقهور؟ وكم من مجرم قاتل حر طليق؟ وكم من بريء في السجون بسببهم؟
ولذلك عدَّها رسول الله من أكبر الكبائر؛ فعن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألَا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس، وكان متكئًا فقال: ألَا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))[2].
ولكي يدرك المسلمون خطورة شهادة الزور، انفعل النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكرها، فقد كان متكئًا، وغيَّر هيئته وجلس، ويكررها عدة مرات؛ لِما فيها من ضياع الحقوق وظلم الآخرين.
وشهادة الزور معصية كبيرة تشتمل على عدة معاصٍ؛ فهي تشتمل على تعمُّد الكذب، وعلى ظلم الآخرين، وعلى إعانة الظالم على ظلمه، وعلى تضليل القضاء، وعلى أكل مال الرشوة؛ لأن شاهد الزور غالبًا ما يأخذ رشوة على شهادته، ولعِظَمِ ضررِ هؤلاء على المجتمع؛ استحقوا أن تنزل عليهم أشد العقوبات، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلِد شاهد الزُّور أربعين جلدة، ويسخم[3] وجهه، ويحلِق رأسه، ويطوف به في السوق[4]،تشهيرًا به ليكون عبرة للآخرين.
ألَا فليعلم كل مَن طوَّعت له نفسه شهادة الزور أنه سيموت عما قريب، وأن هناك بعثًا وحسابًا يوم القيامة، وسيقف وجهًا لوجه مع ضحاياه أمام رب العالمين، وسيعلم عندئذٍ عِظَمَ الظلم الذي ارتكبه، حين لن يجد حميمًا ولا شفيعًا ينقذه من عذاب الله؛ قال الله تعالى: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [غافر: 16 – 20].
عباد الله، إن مفهوم شهادة الزور لا يقتصر على أداء الشهادة أمام القاضي فقط، بل يتسع ليشمل كل مجالات حياتنا، فكل مجال يتعمد فيه الإنسان شهادة الكذب فهو من شهادة الزور، فالتاجر الذي يعمد إلى السلع والبضائع، فيُغيِّر تاريخ نهاية صلاحيتها؛ من شهادة الزور، والطبيب الذي يعطي شهادة المرض لإنسان ليس مريضًا أصلًا، لكي يتغيب بها عن عمله، أو يحصل على تعويضات؛ من شهادة الزور، والمراقب للمشاريع والطرقات والبنايات وغيرها، الذي يصدر شهادة بأنها صالحة وموافقة للشروط المتفق عليها، وهو يعلم أنها ليست كذلك؛ من شهادة الزور، والأشخاص الذين يتعمدون تزوير الشهادات العلمية، وتوقيعات الآخرين والفاتورات وغيرها من شهادة الزور… وكلها بأشكالها وأنواعها يترتب عليها الفساد، وإلحاق الضرر بالبلاد والعباد.
ألَا فَلْنَتَّقِ الله عباد الله، ولنتجنب كل قول وفعل يؤدي بنا إلى الإضرار بالآخرين، ليكون لنا في نصيب في الدار الآخرة في جنات النعيم؛ قال ربنا سبحانه: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، اللهم اجعل عاقبتنا دخول الجنة يا رب العالمين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ادعوا الله يستجِبْ لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أصل هذه الخطبة قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، القول الثاني في معنى “لا يشهدون الزور” أي: لا يحضرون مجالس الزور.
فعباد الله الصالحون لا يحضرون في مجلس تشهد فيه شهادة الزور، من أجل ظلم أحدهم والاعتداء عليه؛ لأن حضورهم في حد ذاته إعانة للظالم على ظلمه.
والمؤمن حتى وإن اضطر إلى الحضور في مجلس مثل هذا، فلا يجوز له أن يسكت عن المنكر، بل يجب عليه أن ينصر أخاه، ظالمًا كان أو مظلومًا؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجِزه – أو تمنعه – من الظلم فإن ذلك نصره))[5].
فإذا لم يستطع نصرة أخيه بلسانه وشهادته، غادر المكان وأنكر ذلك بقلبه، وذلك أضعف الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[6]،فاللهم وفِّقنا جميعًا لطاعتك وطاعة رسولك يا رب العالمين.
هذا، وأكْثِروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين؛ فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمرَ، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة الأكرمين، خصوصًا الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم وفِّق ولاة أمر المسلمين لما فيه خير البلاد والعباد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأدِمْ على بلدنا الأمن والأمان وعلى سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر يا رب العالمين، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا ولأشياخنا، ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا ولأشياخنا، ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].