هل ينصح بدراسة كتاب (محك النظر) و(معيار العلم) في المنطق؟


الحمد لله.

أولًا: العلم علمان:

– علمٌ نقليٌّ، وهو علم القرآن والسُّنَّة، وتتفرَّع منه عدة علوم، كالتفسير، والحديث، والفقه.

– وعلمٌ عقليٌّ، وهو اللي يمتاز به الإنسان عن بقية المخلوقات، وتتفرَّع منه عدة علوم أهمها: علم المنطق الذي يساعد على شحذ العقول البشرية، وصحة الإدراك والفهم.

وعلمُ المنطقِ الذي هو عبارة عن قواعد تعصم مراعاتها العقل عن الخطأ في الفكر: موجود في عقل الإنسان بالغريزة والفطرة، لأن استعماله لهذه القواعد سابق على تدوينها.

وقد استعمله إبليس –عليه لعنة الله- في تأييد دعواه أنه خيرٌ من آدم، فقال فيما حكاه عنه القرآن الكريم: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ الأعراف/12، فقاس نفسه وآدم، على النار والطين؛ يريد أنَّ قوةَ النار على الطين دليلٌ على أن الأضعف حكمه أن يخضع للأقوى، فيكون آدم أولى بالسجود له.

 وقد أخطأ في قياسه من وجوه، بينها شيخ الإسلام فقال: “حجة إبليس في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ: هي باطلة؛ لأنه عارض النص بالقياس. ولهذا قال بعض السلف: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

ويظهر فسادها بالعقل، من وجوه خمسة:

أحدها: أنه ادعى أن النار خير من الطين، وهذا قد يُمنع؛ فإن الطين فيه السكينة والوقار والاستقرار والثبات والإمساك ونحو ذلك، وفي النار الخفة والحدة والطيش، والطين فيه الماء والتراب.

الثاني: أنه وإن كانت النار خيرا من الطين؛ فلا يجب أن يكون المخلوق من الأفضل، أفضل؛ فإن الفرع قد يُختص بما لا يكون في أصله، وهذا التراب يخلق منه من الحيوان والمعادن والنبات، ما هو خير منه.

والاحتجاج على فضل الإنسان على غيره، بفضل أصله على أصله، حجة فاسدة احتج بها إبليس، وهي حجة الذين يفخرون بأنسابهم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قصر به عمله لم يبلغ به نسبه).

الثالث: أنه وإن كان مخلوقا من طين، فقد حصل له بنفخ الروح المقدسة فيه، ما شرُف به؛ فلهذا قال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ الحجر/29،  فعلَّق السجود بأن ينفخ فيه من روحه؛ فالموجب للتفضيل هذا المعنى الشريف الذي ليس لإبليس مثله.

الرابع: أنه مخلوق بيدي الله تعالى، كما قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ص/75، وهو كالأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عبد الله بن عمرو في تفضيله على الملائكة حيث قالت الملائكة: (يا رب قد خلقت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون وينكحون؛ فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا؟ فقال: لا أفعل. ثم أعادوا. فقال: لا أفعل. ثم أعادوا، فقال: وعزتي؛ لا أجعل صالح من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن، فكان).

الخامس: أنه لو فرض أنه أفضل، فقد يقال: إكرام الأفضل للمفضول، ليس بمستنكر” انتهى من من “مجموع الفتاوى” (15/5-6).

وكذلك استعمل إبراهيم عليه السلام هذه القواعد في قوله تعالى حكاية عنه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ الأنعام/76، فهو قياس أيضًا من الشكل الأول، حذفت مقدمتُهُ الأولى، استغناء عنها بلازم الثانية: لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ، وهو قياس صحيح يثبت دعواه أن هذا الكوكب ليس ربًّا له.

وقيل: إنه من الشكل الثاني، وتقديره: القمر آفل، وربي ليس بآفل، فالقمر ليس بربي.

ولما كانت هذه القواعد موجودة في العقل بالغريزة، وُجد كثير من العقلاء لا يعرفون علم المنطق، ومع هذا كانت أفكارهم مستقيمة، ولم يُؤَثِّر فيهم شيئًا جهلُهم بهذا العلم، لأنَّ غرائزهم السليمة، لم تفسدها مؤثرات الحياة، لكن المناطقة يزعمون أن الأعم الأغلب من البشر فسدت غرائزهم، فكانوا في حاجة إلى تدوين قواعد هذا العلم، لتكون عونًا لهم في تحصيل ثمرة هذا العلم، وهي: عصمة العقل عن الخطأ في الفكر.

وقد ناقش شيخ الإسلام فكرة كون المنطق عصمة للفكر، فقال: “وهؤلاء يقولون إن المنطق ميزان العلوم العقلية، ومراعاته تعصم الذهن عن أن يغلط في فكر، كما أن العروض ميزان الشعر، والنحو والتصريف ميزان الألفاظ العربية المركبة والمفردة، وآلات المواقيت موازين لها، ولكن ليس الأمر كذلك؛ فإن العلوم العقلية تُعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الإدراك، لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين، ولا يُقلد في العقليات أحد؛ بخلاف العربية، فإنها عادة لقوم لا تُعرف إلا بالسماع، وقوانينها لا تعرف إلا بالاستقراء. بخلاف ما به يعرف مقادير المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات؛ فإنها تفتقر إلى ذلك غالبا. لكن تعيين ما به يكال ويوزن، بقدر مخصوص: أمر عادي، كعادة الناس في اللغات” انتهى، من “الرد على المنطقيين” (ص/26-27).

ثانيًا:

سبق لنا بيان حكم تعلم المنطق بالتفصيل في جواب السؤال رقم: (119899).

وسبق لنا الكلام عن أبي حامد الغزالي في جواب السؤال رقم: (13473) فيُرجى مراجعة الجوابين.

ثالثًا:

هذان الكتابان هما من المحاولات المبكرة لصياغة علم المنطق، ودمجه في العلوم الإسلامية، وقد غالى أبو حامد الغزالي في تقدير قيمة المنطق، ومنزلته من العلوم؛ فقال في مقدمة كتابه: “المستصفى” (1/10): “نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول، وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي، وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلًا”.

رابعاً:

إذا كان لطالب العلم المحصل نهمة في تحصيل العلوم، واحتاج إلى دراسة شيء  من كتب المنطق، للوقوف على اصطلاحات أهله، ومعرفة ما تداولته العلوم المختلفة من قوانينه واصطلاحاته؛ فلا بأس أن يدرس ما تيسر له من هذه الكتب المعينة له على مقصده، سواء كانت دراسته في الكتابين المذكورين، أم في غيرهما من كتب الفن المصنفة.

والأحسن في اختيار الكتب المعين، أن يرجع فيه إلى الأستاذ أو الشيخ الذي يدرسه العلم، وهو الذي يختار له الكتاب الذي يدرس فيه.

وأغلب من يبدأ دراسة المنطق، في البلاد العربية – المشرقية منها خاصة – يبدأ بدراسة “السلم المنورق” للأخضري، مع شيء من شروحه الكثيرة.

وبعضهم يبدأ بمتن “إيساغوجي” مع شيء من شروحه وحواشيه، وهي أكثر، وأعلى رتبة من شروح “السلم”. والبدء بـ”إيساغوجي” في بلاد العجم، أكثر منه في البلاد العربية.

وإشكال الكتابين المذكورين: أن تداولهما “الدرسي” قليل جدا، أو كالمعدوم؛ فما لم يكن عند الطالب شيء من التحصيل السابق، لم تحصل له فائدة الكتابين على الوجه.

والله أعلم.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
المسن الماشي وطفل المصحف
النصر الحاسم