وقفات بعنوان: يوم عاشوراء يخاطبكم
وقفات بعنوان: يوم عاشوراء يخاطبكم
أما بعد:
فها نحن نعيش في اليوم العاشر من شهر الله المحرَّم، وهذا اليوم كان يومًا معظمًا في الجاهلية،وكانت اليهود تتخذه عيدًا، هذا اليوم يحمل في طياته وبين جنباته الدروس والعبر والعظات، هذا اليوم هو اليوم الذي نجَّى الله تعالى فيه نبيًّا من أولي العزم من أنبيائه، وأغرق فيه عدوًّا من أعدى أعدائه، نجَّى فيه سيدنا موسى عليه السلام ومَنْ معه من المؤمنين، وأغرق فرعون ومن معه من الظالمين، هذا اليوم عظَّمَه سيدنا موسى عليه السلام وعظَّمَه سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فتعالوا لنستمع إلى سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنه وهو يحدثنا عن هذا اليوم فيقول: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: ((مَا هَذَا؟))، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: ((فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ))، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ[1].
وحِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ))، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[2].
فما دمنا نعيش في اليوم العاشر من شهر الله المُحرَّم، تعالوا لنقف وقفات مهمة مع هذا اليوم نستذكر من خلالها الدروس والعِبَر والعِظات، لعلها تكون نورًا تضيء لنا طريق الظلام في هذه الحياة المظلمة، ونجاة لنا من أهوال يوم القيامة.
الوقفــة الأولى: يوم عاشوراء يخاطبكم: أن العاقبة للمتقين وأن الدائرة على الظالمين:
فيوم عاشوراء جاء ليذكر الأمة أن العاقبة للمتقين، وأن الدائرة على الظالمين، وأن امتداد الباطل يسير، مهما طغى وتجبَّر وساد وتكبَّر، وأنه لا تقف أي قوة أمام قوة الله تعالى، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
فهذا فرعون الذي أصيب بداء يقال له: (جنون العظمة) حتى أصبح يرى نفسه فوق مستوى البشر، وهذا ما دعاه أن ينادي ويقـــول: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، فرعـون الذي أفسد في الأرض بجاهه وسلطانه وماله وقـــوته ومنصبه حتى قال لقومه: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾[القصص: 38]، وقال أيضًا: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: 51، 52].
فيا ترى ماذا فعل الله مع هذا الطاغية؟ وكيف كانت عاقبة هذا الجبار العنيد؟
إن الله تعالى جعل عاقبته من جنس عمله، ففرعون كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بأن أجرى الماء من فوقه، وجعل الله تعالى هلاكه وجنودِه على مرأى من المؤمنين، لتحصل مع نعمةِ إهلاك العدو نعمةٌ أخرى، وهي النظر إلى هلاكه؛ ليشفي صدور المؤمنين ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92].
أنا من خلال هذا الموقف أقف مذكِّرًا فأقول: يا من تكبَّرت على الناس بمالك، تذكر نهاية فرعون الذي تكبَّر على الناس بماله كيف كانت عاقبته؟! يا من ظلمت الناس بمنصبك: تذكَّر عقاب الله لفرعون يوم أن ظلم الناس بمنصبه! ويا من تطاولت على الناس بجاهك وقوتك، تذكَّر كيف أن الله أهلك فرعون يوم أن تطاول على الناس! يا من أصبتم بداء العظمة وتعاليتم على الناس، تذكروا أن الله قال في نهاية سورة القصص، هذه السورة التي تحدثت عن فرعون: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]،ولكن أين من يعتبر؟ وأين من يتَّعِظ؟
أنا أقول لكل من يغترُّ بالباطل وأهله: إن الباطل مهما علا وانتفش فإن نهايته إلى زوال، واسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين الحق والباطل: تمشَّى الباطل يومًا مع الحق، فقال الباطل: أنا أعلى منك رأسًا، قال الحق: أنا أثبت منك قدمًا، قال الباطل: أنا أقوى منك، قال الحق: أنا أبقى منك، قال الباطل: أنا معي الأقوياء والمترفون، قال الحق: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123]، قال الباطل: أستطيع أن أقتلك الآن، قال الحق: ولكن أولادي سيقتلونك ولو بعد حين.
فيوم عاشوراء يخاطبكم ويقول: إن العاقبة للمتقين، وإن نصر الله تعالى لأوليائه قريب، وإن الكافرين وإن غرَّتهم مهلة الزمان وركنوا إلى قوتهم وسلطانهم فإن عاقبتهم إلى الهلاك.
الوقفـــة الثانية: يوم عاشوراء يخاطب أصحاب النِّعَم: بالشكر تدوم النِّعَم، وبالكُفْر تزول.
فالمسلم إذا أنعم الله تعالى عليه بنعمة فلا بُدَّ من أن يقابلها بالشكر، فبالشكر تدوم النِّعَم وتزيد، ولكن حينما لا يقابلها بالشكر فهي مهددة بالزوال، ولهذا لما كانت النجاة لسيدنا موسى عليه السلام يوم عاشوراء منة كبرى ونعمة عظيمة سارع بالشكر لهذه النعمة بأن صام ذلك اليوم لله تعالى، وأيضًا صامه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه.
فبالشكر تدوم النِّعَم، وبالكفر تزول، فأين من يشكر الله على نِعَمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى؟
فيا مَنْ أعطاك الله المال ومنع غيرك هل أدَّيْت شكر هذه النعمة؟ يا مَنْ رزقك الله الوظيفة وحرم منها الكثير، هل أدَّيْت شكر هذه النعمة؟ يا مَنْ أكرمك الله بمسكن واسع وبسيارة ولم يمتلكهما غيرك، هل أدَّيْت شكر هذه النعمة؟ يا من رزقك الله بزوجة صالحة تعينك على دنياك وأُخْراك، هل أديت شكر هذه النعمة؟ يا من أعطاك الصحة والعافية وابتلى غيرك بالأمراض، هل أديت شكر هذه النعمة؟ يا مَنْ دَفَع الله عنك المصائب التي كثرت على العراقيين، هل شكرت الله على هذه النعمة؟
هذا حوار أسوقه إلى كل ساخط، إلى كل من يُردِّد دائمًا: (بماذا أنعم عليَّ ربِّي)، إلى كل من لم يرض بما قسمه الله له.
هذا رجل ذهب إلى أحد العلماء، وشكا إليه فقره، فقال العالم: أَيَسُرُّك أَنَّك أَعْمَى، وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أَيَسُرُّك أَنَّك أَخْرَسُ، وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أيسرُّك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أيسرُّك أنك مقطوع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا؟ فقال الرجل: لا، فقال العالم: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك نِعَم بخمسين ألفًا[3].
فعَرَف الرجل مدى نعمة الله عليه، وظل يشكر ربَّه ويرضى بحاله ولا يشتكي إلى أحد أبدًا.
بل يروى أن رجلًا ابتلاه الله بالعمى وقطع اليدين والرجلين، فدخل عليه أحد الناس فوجده يشكر الله على نِعَمه، ويقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، فتعجَّب الرجل من قول هذا الأعمى! مقطوع اليدين والرجلين ومع ذلك يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، فسأله: على أي شيء تحمد الله وتشكره؟ فقال له: يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا وبدنًا على البلاء صابرًا، فأين الشكر يا مَنْ أعطاك الصحة والعافية؟
فيوم عاشوراء يخاطب كل من رزقه الله نعمة: إذا أردتم أن تحافظوا على هذه النِّعَم فاشكروا الله عليها، وإلَّا فإنها معرضة للزوال، وتذكَّروا قوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الشاكرين، وأن يبارك لنا في جميع أيامنا، وأن يجعلها شاهدًا لنا لا علينا، وأن يُمتِّعنا براحة البال، وصلاح الحال، وقبول الأعمال، وصحة الأبدان، آمين اللهم آمين.
الخطبة الثانية
مع الوقفة الثالثة: يوم عاشوراء يخاطبكم: أيها المسلم، أنت إنسان متميز.
إن المسلم الحقيقي هو المسلم المتميز الذي يفتخر بدينه ولا يسير خلف من أمرنا بمخالفتهم من اليهود والنصارى، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم يوم قال: ((فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، لم يكتفِ بهذا، بل قال صلى الله عليه وسلم: ((لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ))[4].
هنا النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُنبِّه إلى خطر كبير، أراد أن يقول: يا مسلمون، أنتم متميِّزون، إيَّاكم أن يجعل اليهودي عصاه في رحالكم فتلجؤوا إليه، إياكم أن يجعل النصراني منهجه في عقولكم فتنتموا إليه… إنما أنتم من القرآن تأخذون، ومن الإسلام تقتبسون، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيرون، فأين الشابُّ المسلم الذي يعتزُّ بإسلامه؟ أين الفتاة التي تفتخر بإسلامها؟
أنا من خلال هذا الموقف أقول للشاب الذي سار خلف الغرب: إلى متى تبقى وأنت تتنازل عن دينك ومبادئك وتقاليد أهلك وعشيرتك الطيبة؟ أين الاعتزاز بدينك وشخصيتك؟!
في كل مرة نراك تذهب إلى الحلَّاق، ليُرتِّب شعيراتك بطريقة مزرية، وتلبس البنطال الضيق، والقميص الناعم، تمشي بتكسُّر وتميُّع، لماذا كل هذا؟ ماذا جرى؟
لأن مغنيًا قصَّ شعره هكذا، أو راقصًا شدَّ عصابةً على رأسه، بل هناك من الشباب من يفتخر؛ لأنه يمشي كما يمشي ذلك اللاعب، ويتحدَّث كما يتحدَّث الممثل الفلاني، أين شخصيتك؟ أو مروءتك؟ أين الاعتزاز بدينك؟! والله عيب على الشاب الذي تُحرِّكه كلمات مغنٍّ، وتقوده تصرُّفات راقص، وتأسره طباع لاعب أو ممثل.
أيها الشاب المسلم، أين أنت من حديث نبيِّك العظيم صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))[5].
قال العلماء: “(مَنْ تشبَّه بقومٍ)؛ أي: تزيَّا في ظاهره بزيِّهم وفي تعرفه بفعلهم، وفي تخلُّقه بخلقهم، وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي وكأنَّ التشبُّه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن”[6]، فهل ترضى أن تحشر مع الممثلين والمغنين والراقصين الساقطين يوم القيامة؟
فيوم عاشوراء يخاطب المسلم ويقول له: أنت قائد الطريق فينبغي أن تكون متميزًا متبوعًا لا تابعًا، المسلم الحقيقي لا تذوب شخصيته في الآخرين، وإنما هم الذين يذوبون فيه؛ لأن معه الحق والهدى واليقين.
فالواجب على المسلم أن يعتزَّ بدينه ويتمسَّك به ويحذر من الانحراف عنه إلى طريق المغضوب عليهم والضالِّين من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأن يجعل حديث نبيِّنا صلى الله عليه وسلم نصب عينه: ((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))[7].
أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الاعتزاز بديننا والتمسُّك به، اللهُمَّ كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان، يا قوي يا جبَّار.
[1] صحيح البخاري، كتاب الصوم – باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: (3/ 57) برقم (2004).
[2] صحيح مسلم، كتاب الصيام- باب أَي يَوْمٍ يُصَامُ فِي عَاشُورَاءَ: (2/ 797)، برقم (1134).
[3] إحياء علوم الدين للغزالي: (4/ 124).
[4] صحيح مسلم، كتاب الصيام- باب أي يَوْمٍ يُصَامُ فِي عَاشُورَاءَ: (2/ 798)، برقم (1134).
[5] سنن أبي داود، كتاب اللِّباس – باب في لبس الشُّهْرَة: (6/ 144)، برقم (4031).
[6] فيض القدير للمناوي: (6/ 104).
[7] سنن أبي داود، كتاب اللِّباس – باب في لبس الشُّهْرَة: (6/ 144)، برقم (4031).