يا أصحاب السيارات اتقوا الله في أرواح الناس
يا أصحاب السيارات اتقوا الله في أرواح الناس
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى حرَّم دم المسلم وماله وعرضه، وجعله معصوم الدم، وجعل حرمته مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة؛ ولذلك يقول سيدنا عبدالله بن عمر رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا))[1] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حرمته أعظم من حرمة الكعبة.
بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم:((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ))[2] يعني:زوال الدنيا بكل ما فيها وما خلقه الله عليها، أهون عنده جل وعلا من أن يسفك دم امرئ مسلم بغير حق، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ..))[3].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا))[4] يعني: لا يزال المؤمن في سعة، وفي رجاء رحمة الله تعالى وعفوه ومغفرته، ما لم يصب دمًا حرامًا فإنه يضيق عليه الأمر على نحو يكون فيه أمر المغفرة والتجاوز ضيقًا عسيرًا.
ومع كل هذه التحذيرات نجد الاستهانة بأرواح الناس وممتلكاتهم، وخاصة من بعض أصحاب السيارات والستوتات وأصحاب الدرَّاجات النارية ودرَّاجات الشحن الكهربائي في الشوارع والطرقات، فتجد هناك من يستخف بأنظمة المرور التي فيها السلامة للجميع، وهناك من يمشي بسرعة جنونية ويعتبرها شطارة، وهناك من أصحاب المركبات في مناسبات الأعراس من يتسابقون فيما بينهم وبسرعة مفرطة، وهذا كله استخفاف بأرواح البشر، وإهلاك للأنفس والأموال.
فكم من أبٍ خرَج من بيته إلى عمله سليمًا معافًى ولكنه لم يعد إليه بسبب حادث مُروري! وكم من أمٍّ ودَّعت ولدها الوحيد ليذهب إلى وظيفته، ثم بعد خروجه جاءها الخبر بأنه قد توفِّي في حادث مروري! وكم من زوجة أعدَّت طعام الغداء أو العشاء لزوجها فتأخَّر عن موعد رجوعه للبيت، ثم جاءها الخبر، بأنه في المستشفى بسبب حادث مروري! كم في المستشفيات من شخصٍ أصبَح حبيس الفراش، أو معاقًا فقَد القدرة على الحركة والتنقُّل، وأصبَح عالَةً على الآخرين، والسبب: حادث مروري! وكم في مجتمعاتنا ممن فقدوا أطرافهم كلها أو بعضها أو ذاكرته أو أصيب بشلل موضعي أو نصفي أو كلي جعلهم رهائن الأسِرَّة البيضاء، والسبب السرعة المفرطة من أصحاب الستوتات ودرَّاجات الشحن! وكم، وكم هي هذه الصور المؤلِمة التي قلَّما يَسلم منها بيت أو أسرة! أرأيتم كيف أصبحت السيارات من أكثر أسباب هلاك الناس، حتى إنها أحيانًا تفوق قتلى الحروب، فهل ينتبه المسلم لذلك؟!
أين نحن من أخلاق عباد الرحمن الذين يمشون بوقار وسكينة، الذين قال الله فيهم: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): أَيْ: بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ[5].
أين من أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم في ركوبه على راحلته، فعندما سار من عرفة إلى مزدلفة، ومعه ذلك الجمع الهائل من الحجيج، فكان يكبح من سرعة راحلته بشد زمامها حتى كادَ رأسها أن يلامس رحلها، وذلك خشية أن يشق على المسلمين في سيرهم، أو أن يضايق أحدًا منهم في طريقه، وكانيناديهم ويرفع يده اليمنى قائلًا: “يا أيها الناس، السكينةَ السكينةَ”[6].
أين السكينة والوقار عند الكثير من أصحاب السيارات والدرَّاجات؟! أنا أقولها وبكل صراحة عند الكثير من الناس اليوم: ثقافة الاحترام مفقودة، ثقافة الكلمة الطيبة مفقودة، ثقافة الالتزام بأنظمة المرور مفقودة، ثقافة المشي بوقار وسكينة مفقودة، ثقافة الوقوف في المكان الصحيحة مفقودة، والسبب هو الاستهانة بأرواح الناس وممتلكاتهم.
لذلك أنا أقول لكل من يتهوَّر ويمشي بسرعة جنونية، ولا يلتزم بأنظمة المرور، ويعرض أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر من أصحاب السيارات والستوتات والدرَّاجات النارية ودراجات الشحن.
اتقوا الله في أرواح الناس وممتلكاتهم، فكل من يعرض أرواح الناس وممتلكاتهم للضرر فهو آثم ولو لم يصب أحدًا، فبمجرد ترويعهم وإخافتهم فهذا أثم عظيم ومعصية كبيرة.
أما إذا كنت سببًا في إزهاق الأرواح وضياع الأموال فلتعلم أنك قاتل، وأن المقتول سيأتي يوم القيامة آخذًا بتلابيب قاتله وأوداجُهُ تشخَبُ دمًا ويقف أمام الله تعالى يقول: يا رب، سل هذا فيمَ قتلني؟ سل هذا فيمَ قتلني؟
يا من تتهور وتمشي بسرعة جنونية ولا تنتبه للشارع ثم تؤدي سرعتك إلى قتل نفس، ماذا ستقول لربك غدًا؟ إذا كنت نجوت من عقاب البشر بسلطتك بمنصبك أو بجاهك أو بأموالك أو بلسانك فتذكر أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تُخْفي الصدور، والعقاب سيكون أليمًا.
يا من تستهين بأرواح الناس، يا من تمشي بسرعة مفرطة، أتدري ماذا أعَدَّ الله تعالى لقاتل النفس متعمدًا؟
أعَدَّ الله تعالى له خمسة أشياء، والآية صريحة والعلماء يقولون: الآية تنطبق على كل من يتعمد في الحوادث، فاسمعوا إلى هذه الآية التي توعَّد الله تعالى فيها قاتل المؤمن بغير حق بوعيد شديد فقال: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93] واجعل تحت ﴿ مُتَعَمِّدًا ﴾ خطًّا، الذي يقود سيارته أو ستوتته أو دراجته بسرعة مفرطة ويتسبب في قتل إنسان، ألا يفعل ذلك متعمدًا؟! الجواب: نعم… الذي يقود سيارته ويرفع صوت الأغاني ويرقص في أثناء القيادة ويترك سيارته تمشي وحدها أو ينشغل بالهاتف ويتسبب في قتل إنسان ألا يفعل ذلك متعمدًا؟! الجواب: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
أتحداك أيها الشاب، أتحداك أيها السائق، يا من تتهوَّر في قيادتك أن تضع أصبعك تحت نار الدنيا لدقيقة واحدة، فكيف بنار جهنم ليس لدقيقة واحدة بل ﴿ خَالِدًا فِيهَا ﴾.
ليسأل كل من يعبث بأرواح الناس: لماذا كل هذا الوعيد لقاتل النفس؟! لأن الروح عند الله غالية، ومن غلاء الروح يقول تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، فكيف بالذي يتسبَّب في قتل عائلة كاملة، كم من سائق بسبب سرعته الجنونية وانشغاله بهاتفه تسبب في قتل عائلة كاملة، أليس هذا هو القتل العمد والفساد في الأرض!
فلا بد أن يقف الجميع (القانون والعشائر وأولياء الأمور) وقفة جادة كي نوقف هذه المجازر التي تقع في الشوارع والطرقات؛ لأننا إذا خرجنا لا نأمن على أنفسنا، هل سنعود إلى بيوتنا سالمين غانمين أم سنكون ضحايا لهؤلاء المتهورين الذين لا يبالون بأرواح الناس وممتلكاتهم ولا يحترمون أحدًا، إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
تتعلق بالتنبيه على أمرين مهمَّين:
الأمر الأول: نحتاج من أجل الحدِّ من الحوادث المرورية إلى قانون رادع بحيث تكون العقوبات مؤلمة للذي يتهور في قيادته للمركبات ويستهين بأرواح الناس وممتلكاتهم، فنطالب الجهات المختصة بفرض عقوبات وتطبيقها على جميع المخالفين، فمن أمن العقاب أساء الأدب، فالذي يتجاوز السرعة المحددة، والذي ينشغل بهاتفه، والذي يُشغِّل الأغاني بصوت مرتفع وينشغل بها عن الطريق لا بُدَّ أن تُفرَض عليه عقوبات صارمة حتى تتحوَّل شوارعنا وطرقاتنا إلى طرق آمنة، وكما تقول القاعدة: الالتزام الصحيح لا يُكلِّفك شيئًا، ولكن عدم الالتزام قد يُكلِّفك حياتك.
الأمر الثاني: كل سيارة تعطَّلت بسبب حفريات الشوارع، وكل روح أزهقت بسبب عدم إصلاح الطرق، فالإثم تتحمَّله الحكومة المحلية لعدم تعجيلها وإصلاحها لهذه الطرق وتركها بدون إصلاح، وعدم محاسبتها للمُقصِّرين.
فكل من يكون سببًا في تأخُّر إصلاح الطرق ويعرض المسلمين للضرر والخطر فهو آثم ومسؤول أمام الله تعالى، والله سائل كل راعٍ عما استرعاه: أحفظ أم ضيَّع، وهذا ما نبَّه عليه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: لو عثرت بغلة بأرض الفرات لسألني الله عنها لِمَ لَمْ تسوِّ لها الطريق يا عمر.
فلا بُدَّ من أن يتعاون الجميع للحفاظ على أرواح الناس وأموالهم وأن نأخذ بأسباب السلامة وإلَّا تحوَّلت طرقنا وشوارعنا إلى مصائب وكوارث، أسأل الله السلامة للجميع.
[1] سنن ابن ماجه، كتاب الفتن – بَابُ حُرْمَةِ دَمِ الْمُؤْمِنِ وَمَالِهِ: (2/ 1297)، برقم (3932).
[2] سنن الترمذي، أَبْوَابُ الدِّيَاتِ – بَابُ مَا جَاءَ فِي تَشْدِيدِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ: (3/ 68)، برقم (1395).
[3] صحيح البخاري، كتاب العلم- باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ: (1/ 26)، برقم (67).
[4] صحيح البخاري، كتاب الديات- باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ﴾ [النساء: 93]: (9/ 2)، برقم (6862).
[5] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (6/ 121).
[6] صحيح مسلم، كتاب الحج – بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (2/ 891)، برقم (1218).