آيات باهرات (خطبة)


آياتٌ باهراتٌ

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، أنزل آياته المحكماتِ بالحقِّ المبين، على رسوله الأمين، لهداية الناس أجمعين، أحمَده سبحانه بما هو له أهلٌ من الحمد وأُثني عليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبَّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ورفع السماواتِ بغير عمد بقدرته، ومدَّ الأرض ودحاها، وبالجبال أرساها، وأجرى فيها الأنهار، وأخرج من تربتها الزروع والثمار، سبحانه يُغشي الليلَ النهارَ، جعل ذلك آيةً لأولي الأبصار والأفكار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، أرسله ربه في أُمَّةٍ قد خلت من قبلها أُمَمٌ، ليتلو عليهم القرآن فيُخرجهم من الظُّلَم، ويحُثُّهم على الإيمان بالله الذي أوجدهم من العدم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

البرقُ والرعد والصواعق من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته، فيُصيب بالصواعق سبحانه من شاء، ويصرفها عمن يشاء، يكاد سنا بَرْقِهِ يذهب بالأبصار، كل ذلك بتدبير الله وقدرته سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 12، 13].

 

﴿ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 13]، كما أصاب أربدَ بن ربيعة، حين جادل النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ﴾ [الرعد: 13]، والواو للحال، وقد جادل أربدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرني عن ربِّنا، أمن نُحاسٍ أم حديد؟ فأحرقته الصاعقة، ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13]؛ أي: القوة، فلا مفرَّ منها إذا شاء الله وقدَّر وقضى، فلا حجر ولا بيت ولا كهف يَحُول بينها إذا قضى الله وأراد، فتضرب وتصيب فلا استثناء لأي مكان؛ قال تعالى: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 19]، والصواعق جمع صاعقة، وهي كما يقول ابن جرير: كل أمر هائل، رآه الرائي أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعَطَبٍ، وذَهابِ عقلٍ.

 

والصاعقة يُرسلها الله عز وجل فيصيب بها من يشاء، وهي – سبحان الله! – قد تصيب الرجل على فراشه مع امرأته، فيهلِك الرجل وتَسْلَم المرأة، أو تصيب الشاة يجرها صاحبها ويسلَم هو؛ لأن الله تعالى يرسلها، فيصيب بها من يشاء، والمسألة ليست هكذا جُزافًا، بل كل شيء عند الله تعالى بمقدار، وهذه الصاعقة يقولون بأنها لو اجتمعت جميع مولدات الكهرباء في الدنيا بأقوى ما يكون، فإنها لن تبلغ ما تحمله من قوة، فتبارك الله أحسن الخالقين!

 

نذكر بعضًا مما دلَّت عليه السُّنَّة الصحيحة عن البرق، فقد قيل: إنه شواظ يزجُر به السحاب، كما ذكر ذلك الإمام القحطاني في أبياته، وأن هناك مَلَكًا موكَّلًا بالمطر:

والرعد صيحة مالك وهو اسمه
يُزجِي السحاب كسائق الأظعانِ
والبرق شوظ النار يزجرها به
زجر الحداة العيس بالقضبانِ

 

ففي مسند أحمد، وسنن الترمذي، وصححه الألباني من حديث ابن عباس قال: ((أقبلت يهودُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن الرعد، ما هو؟ قال: مَلَكٌ من الملائكة موكَّل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله، فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجرُه بالسحاب إذا زَجَرَه، حتى ينتهي إلى حيث أُمِر، قالوا: صدقت…)).

 

قال ابن عبدالبر في الاستذكار: “جمهور أهل العلم يقولون: الرعد ملك يزجُر السحاب، ويجوز أن يكون زجره لها تسبيحًا؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الرعد: 13]”.

 

وقد وردت أحاديثُ أخرى صِحاح وحِسان، تبيِّن ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عند حدوث هذه الظواهر الكونية، التي تدل على كمال المعرفة بالله، وأنه سبحانه هو المحدِثُ لها، وأنها تدل على تنزيه الله، وتعظيمه، وحمدِهِ؛ فقد أخرج أحمدُ والبخاريُّ في الأدب المفرد، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن ابن عمر قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمِعَ صوت الرعد، والصواعق، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تُهلكنا بعذابك، وعافِنا قبل ذلك))؛ لأن احتمال الإهلاك والتعذيب بهذه الآيات الكونية أمر قريب ممكن.

 

وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبدالله بن أبي جعفر: أن قومًا سمِعوا الرعد فكبَّروا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم الرعد فسبِّحوا، ولا تُكبِّروا)).

 

وذلك لِما فيه من التأدُّب بأدب القرآن وأسلوبه في قوله تعالى: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الرعد: 13]، ولأن دلالته على تنزيه الله من النقص والشريك أولى من دلالته على التعظيم.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وليُّ الصالحين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله إمام الأنبياء والمرسلين، وأفضل خَلْقِ الله أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد عباد الله:

 

فيستحب عند سماع الرعد أن يُقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته؛ لما في حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: “سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته”، ثم يقول: “إن هذا لَوعيدٌ لأهل الأرض شديد”؛ [رواه الإمام مالك في الموطأ].

 

وألَّا يشير الإنسان إليه، ولا يُتبع بصره إياه؛ وقال الإمام البهوتي في (شرح منتهى الإرادات): “وإذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، ولا يُتبع بصره البرقَ؛ للنهي عنه”؛ ا.هـ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

مع التزام الإرشادات والتوصيات التي تقررها الجهات المختصة والدراسات العلمية في هذا الشأن؛ منها: تجنُّب الوقوف بجوار الأشجار، ومنها: الإسراع بالدخول إلى أقرب مبنى في حالة التواجد في الشارع أثناء ذلك، ومنها: مراعاة البعد عن الوقوف في المرتفعات العالية وقرب الأبراج المعدِنية؛ لأن هذه الأماكن تُعَدُّ أهدافًا لشرارة البرق، كما نصحوا بعدم استخدام الهاتف، أو لمس الأشياء المعدنية؛ لأن كل هذه الأشياء تعُدُّ موصلًا فعَّالًا للكهرباء، وهي الأقرب لتفريغ الشِّحنات الكهربائية فيها.

 

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على إمام المرسلين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين؛ فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه؛ حيث قال عزَّ قائلًا عليمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعَفاف والغِنى.

 

اللهم إنا نسألك أن ترزق كلًّا منا لسانًا صادقًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا منيبًا، وعملًا صالحًا زاكيًا، وعلمًا نافعًا رافعًا، وإيمانًا راسخًا ثابتًا، ويقينًا صادقًا خالصًا، ورزقًا حلالًا طيبًا واسعًا، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ووحِّد اللهم صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق، واكسِرْ شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.

 

اللهم ربنا احفظ أوطانَنا، وأعِزَّ سلطاننا، وأيِّده بالحق، وأيِّد به الحق يا رب العالمين.

 

اللهم ربنا اسقِنا من فيضك المدرار، واجعلنا من الذاكرين لك في الليل والنهار، المستغفرين لك بالعشيِّ والأسحار.

 

اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا، يا ذا الجلال والإكرام.

 

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

 

ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

 

عباد الله:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
ابن أبي الدنيا وكتابه (تاريخ الخلفاء) دراسة تاريخية وصفية (WORD)
9 Short Story Collections About Women’s Bodies – Electric Literature