آية الكسوف والخسوف (خطبة)


آية الكسوف والخسوف

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق الشمس والقمر وأجراهما بقدرته ومشيئته في السماء إلى المشارق والمغارب، فسبحانه مِن إله! ما أعظمه! خضَعَت له جميع مخلوقاته العلوية والسُّفلية، وأشهد أنْ لا إله إلا هو سبحانه، أظهر لعباده مِن آياته دليلًا، وهَدى مَن شاء مِن خلقه فاتخذ ذلك عبرة، وابتغى إلى نجاته سبيلًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أبلغُ الخلق بيانًا، وأصدقهم قيلًا، وأتقى مأمور، وأهدى آمِر، فصلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الألباب والبصائر والتوبة والإنابة، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحشر والمآب، وسلّم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:

 

فاتَّقوا الله عبادَ الله، وابتَغوا إليه الوسيلةَ، وتوكَّلوا عليه وأنيبُوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطَمَعًا، واذكروا وُقوفَكم بَين يدَيه.

 

يقول الله تعالى جل ذِكْرُهُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].

 

فكم مِن الآيات المُفزِعات، والعِظات الزَّاجرات، والعِبَر المتتابعات، والمُنذِرات المتعاقبات، تمُرُّ علينا في كون خلق الأرض والسماوات، لا يَخاف عندها قلب، ولا تَدمع لها عين، ولا يَحصل حينها توبة، ولا معها وبعدها إكثار مِن طاعة، وإقلاع عن معصية، وقد حذَّرَنا ربُّنا -جلَّ وعلا – أنْ نكون كالكافرين في الإعراض عن آياته الحادثة والمشاهدة، فقال سبحانه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 105 – 107].

 

وفي القريب – يا عباد الله – قد يحدث الله في سماء أرضه بإذنه آية يُخوِّف بها عباده، ألا وهي خسوف القمر، وقد قال – عزَّ شأنه – مُرهبًا مِن آياته ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].

 

وصحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خطب الناس بعد صلاة الكسوف: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ))؛ متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

 

فهل يحصل لنا المقصود مِن حدوث هذه الآية العظيمة؟ آية الخسوف والكسوف، فخافت القلوب وفزِعت، وتغيَّرت الوجوه واضطربت، وأقلعت النفوس عن الذنوب وتابت، وزادت الأعمال الصالحة وحَسُنت.

وفي هذا يقول الإمام العابد العثيمين – رحمه الله -: “إنَّ الشمس والقمر آيتان مِن آيات الله، ومخلوقان مِن مخلوقات الله، ينجليان بأمره، وينكسفان بأمره ورحمته، فإذا أراد الله تعالى أنْ يُخوِّف عباده مِن عاقبة معاصيهم ومخالفتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كله أو بعضه، إنذارًا للعباد، وتذكيرًا لهم، لعلهم يُحدِثون توبة، فيقومون بما يجب عليهم مِن أوامر ربهم، ويُبعِدون عمَّا حرَّم عليهم؛ ولذلك كثر الكسوف في هذا العصر، فلا تكاد تمضي السَّنة حتى يَحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعًا، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترَفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتميُّ والغاية الأكيدة، وإنَّ كثيرًا مِن أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف فلم يُقيموا له وزنًا، ولم يحرِّك منهم ساكنًا، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وجهلهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمادهم على ما عُلِم مِن أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي مِن أجلها يُحدِث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية، وإنَّ الكسوف في الشمس أو القمر تخويف مِن الله لعباده، يُخوِّفهم مِن عقوباتٍ قد تَنزِل بهم، انعقدت أسبابها، ومِن شرورٍ مُهلكة انفتحت أبوابها، والكسوف نفسه ليس عقوبة، ولكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ))، فهو تخويفٌ مِن عقوبات وشُرور تَنزِل بهم لمخالفة أمر الله وعصيانه، ولقد ضلَّ قوم غفلوا عن هذه الحكمة، فلم يروا في الكسوف بَأْسًا، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يرجعوا إلى ربِّهم بهذا الإنذار، ولم يقفوا بين يديه بالذُّلِّ والانكسار، وقالوا: هذا الكسوف أمر طبيعي، يُعلم بالحساب، فو الله ما مثل هؤلاء إلا مثل مَن قال الله عنهم مِن الكفار المعاندين: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾ [الطور: 44].

 

أيها الناس، إنَّ كسوف الشمس أو خسوف القمر لَحَدَثٌ عظيمٌ مُخيفٌ، وتنبيهٌ جسيمٌ مِن الله لعباده وتحذير، وواعظ لهم وزاجر شديد، ويؤكد ذلك أيضًا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كُسِفت الشمس في زمنه، في السَّنة العاشرة مِن الهجرة، في يومٍ شديد الحَرِّ، وما حصل له مِن أحوال، وما عُرض عليه في صلاته مِن أمور الآخرة، حتى إنَّه صلى الله عليه وسلم مِن شِدة فزعه وخوفه مِن كسوف الشمس خشي أنْ تكون الساعة قد حانت؛ إذ صَحَّ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّه قال: ((خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ))؛ متفق عليه.

 

بل ومِن فزعه صلى الله عليه وسلم أخطأ في لباسه، فأخذ درع أهله بدَل الرِّداء، وخرج وهو يجُرُّه جرًّا ولم ينتظر ليلبسه حتى أتى المسجد، فصحَّ عن أسماء رضي الله عنها أنَّها قالت: ((كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفَزِعَ فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ)).

 

وصحَّ عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّه قال: ((خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى المَسْجِدِ))؛ رواه النسائي.

 

ولمَّا وصل صلى الله عليه وسلم المسجد أمَرَ مُناديًا ينادي: “الصلاة جامعة“، فاجتمع الناس، فصلَّى بهم صلاة غريبة لا نظير لها في الصلوات المعتادة، حيث صحَّ عن عائشة رضي الله عنها ((أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِيًا: «الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ»، فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ))؛ متفق عليه.

 

ومِمَّا ثبت في شأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للكسوف مِن أمور:

أولًا: أنَّ قراءته صلى الله عليه وسلم فيها كانت طويلة جدًّا، حتى إنَّ قيامه الأوَّل فيها قُدِّر بنحو سورة البقرة، فصحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: ((فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ))؛ متفق عليه.

 

بل إنَّ بعض أصحابه تجلَّاه الغَشْيُ بسبب طول القراءة، فصحَّ عن أسماء رضي الله عنها أنَّها قالت: ((فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِيَامَ جِدًّا، حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ، فَأَخَذْتُ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ إِلَى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي))؛ متفق عليه.

 

وثانيًا: أنَّ ركوعه وسجوده صلى الله عليه وسلم كان فيها طويلًا جدًّا، حيث صحَّ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّه قال: ((فَقَامَ يُصَلِّي بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ))؛ رواه النسائي.

 

وثالثًا: أنَّه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها، حيث صحَّ عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: ((جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلاةِ الخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُعَاوِدُ القِرَاءَةَ فِي صَلاةِ الكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ))؛ متفق عليه.

 

أيها المسلمون، لقد عُرِض للنبي صلى الله عليه وسلم في مقامه بصلاة الكسوف مِن أمور الآخرة ما يزيد المؤمن مِن ربِّه خوفًا ورهَبًا، ورجاء فيما عنده وطَمَعًا، وحبًّا له وإجلالًا وتعظيمًا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم تصديقًا وتسليمًا وانقيادًا، ومِن ذلك:

أولًا: أنَّه صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار؛ حيث صَحَّ أنَّ الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ، فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ))؛ رواه أبو داود وغيره.

 

وثانيًا: أنَّه صلى الله عليه وسلم رأي بعض الناس يُعذَّبون في النار؛ حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار))؛ رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.

 

وثالثًا: أنَّه أُوْحي إليه صلى الله عليه وسلم بفتنة الناس في قبورهم؛ حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ مِثْلَ – أَوْ قَرِيبَ مِنْ – فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ))؛ رواه أحمد من حديث أسماء رضي الله عنها.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الواحد القَهَّار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مُقلِّب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.

 

عباد الله، لمَّا انتهى النبي صلى الله عليه وسلم مِن صلاة الكسوف تكَلَّم في الناس وخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قاله وصحَّ عنه: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا، وَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ))؛ متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

 

أيها الناس، لقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الكسوف الأمْرُ بالفزع إلى الصلاة، وإلى ذكر الله، ودعائه، واستغفاره، وتكبيره، وتهليله، وحمده، حتى يُكشف ما بِنا، وأمَر بالصدقة، وعتق الرقاب، فصحَّ عن عبدالرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه أنَّه قال: ((لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي انْكِسَافِ الشَّمْسِ الْيَوْمَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَيُكَبِّرُ، وَيَحْمَدُ، وَيُهَلِّلُ، حَتَّى جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ))؛ رواه أبو داود.

 

وفي هذا يقول الإمام الزاهد العثيمين رحمه الله: فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق تدفع تلك الأسباب؛ ا هـ.

 

أيها الناس، إنَّ الكسوف والخسوف لا علاقة لهما بحياة أو موت أحد مِن الناس ولو عظُم ونَبُل، وإنما ذلك مِن اعتقاد أهل الكفر والجاهلية الأولى، وقد صحَّ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنَّه قال: ((انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ))؛ أخرجه مسلم.

 

وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم مِن مَارِيَة الْقِبْطِيَّة رضي الله عنه وعنها.

 

فجعلني الله وإياكم مِمَّن إذا ذُكِّر ادَّكَر، وإذا وعِظ اعتبر، وإذا أُعطِي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، واغفر لنا ولوالدينا ولباقي أهلينا ولجميع المسلمين، الأحياء مِنهم والأموات، وأدخلنا معهم في جنانك، وأعتقنا مِن عذابك والنار، إنك واسع الفضل غفور رحيم.

 

ألا وصلُّوا – عباد الله – على رسول الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّد، وارضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاءِ الأربعة الرَّاشدين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين.

 

اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم مَتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على مَن عادانا، واجعلنا أهلًا لأن يُستجاب دعاؤنا يا رب العالمين.

 

اللهم اجعلنا صالحين في ظواهرنا وبواطننا حتى نكون أهلًا لأن يُستجاب لنا.

 

واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبَلِّغْنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.

 

اللَّهُمَّ احْفَظْ بلادَنا وبلادَ المُسْلمينَ منْ كُلِّ سُوءٍ ومكْروهٍ.

 

اللَّهُمَّ رُدَّ كَيْدَ الأعْداءِ في نحورهِم، واجْعَلِ الدَّائِرَةَ عليْهم.

 

اللَّهُمَّ احْفَظْ للمسْلمينَ دينَهُم ودنْياهُم، ووحْدَتَهُم وأمْنَهُم.

 

اللَّهُمَّ لا تُؤاخذْنا بما فعل السُّفهاءُ مِنَّا.

 

اللَّهُمَّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيرًا فوفِّقْهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شَرًّا فأهْلِكْهُ بشرِّهِ، وأرحِ البِلادَ والعبادَ منْ شَرِّهِ.

 

اللَّهُمَّ وَلِّ أُمُورَنَا خِيارَنا، وَلا تُوَلِّ أُمُورَنا شِرارَنا.

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَـاكَ، وَلا تَجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ فَسَقَ وَعَصَاكَ.

 

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا، وَارْحَمْ وَالِدِينَا، وَارْحَـمْ مَنْ عَلَّمَنَا، وَالمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الصدقة بسبعمائة ضعف
(PDF) Biomimicry in Architecture (book by Michael Pawlyn) – ResearchGate