أثر الدعوة والمصلحين على المجتمعات (خطبة)
أثر الدعوة والمصلحين على المجتمعات
المقدمة:
قال تعالى: ﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴾ [غافر: 41، 42]، وقال جل جلاله: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المؤمنون: 73]، قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس: 25]، وقال الله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [آل عمران: 104]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19].
إليكم – أيها المسلمون – هذه الصورَ المشرقة من حياة أئمة الدعاة؛ وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ فهذا نبي الله نوح عليه السلام، قام في قومه خطيبًا وداعيًا، ومُذكِّرًا ومُوجِّهًا، وناصحًا أمينًا: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 10 – 13].
وهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يُجابِهُ قومَه، ويُبيِّن لهم عجز تلك الأصنام، وأنها حجارة لا تنفع ولا تضرُّ؛ قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، وأخبر تعالى عن خليله إبراهيمَ عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]، وهذا نبيُّ الله موسى عليه السلام أمره الله تعالى بأن يحمِلَ رسالةَ ربِّه إلى فرعونَ الطاغيةِ؛ قال سبحانه: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه: 24]، ونبي الله صالح عليه السلام حكى الله عنه بقوله: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، ونبي الله لوط عليه السلام لمَّا دعا قومه إلى الله، وحذَّرهم مغبَّةَ استمرارهم في تلك الفاحشة، ولكنهم رفضوا وعاندوا وكابروا، فجاءهم أمر الله الذي لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين؛ فقالوا لنبي الله لوط عليه السلام كما حكى عنهم رب العالمين: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56].
ألم تسمع ما حكاه الله تعالى عن نبيِّه شعيبٍ عليه السلام؟ وكيف كانت دعوته لقومه، ونصحه لهم، وشفقته عليهم؟ قال سبحانه: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 85].
أيها المسلمون، وهذا رسول الله وخليل الله وحبيب الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، قام 23 سنة ولم يقعُد؛ سعيًا في إصلاح ما أفسده أهل الشرك.
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام ينصح من كان معه في السِّجن، ويُبيِّن لهم سببَ ما هم فيه من البُعد عن دين الله، وشِرْكِهم بالله؛ كما حكى الله تعالى عن ذلك فقال سبحانه: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40].
وهذا لقمان عليه السلام؛ حيث إن الله جل جلاله ذَكَرَ شيئًا مُوجزًا من قصته مع ولده، وتقديم النصح له، وهو مُشْفِقٌ عليه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] إلى قوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، وهذا منه إرشادٌ وتوجيه وسعيٌ حثيث في إصلاح ولده.
أيها المسلمون، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل، وخليل الله، وحبيب الرحمن، بعثه الله تعالى في قومٍ كثُر فيهم الشرك، وتفشَّى لديهم الظلم، فتحرَّك ودعا، ورغَّب، وحذَّر، ووجَّه، ونصح، ذهب إلى الطائف، ورجع إلى مكة، وكان يلتقي بمن آمن به وصدَّقه سرًّا في دار الأرقم، فغيَّر الجزيرة العربية، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فأرسى قواعد العدل، وطهَّر الجزيرة من الأصنام، وربَّى قادة العالم ومَن فتحوا البُلدانَ، وأسقطوا عبادة الصُّلْبان، وأخمدوا نيرانَ أهل الشرك والضلال.
أيها المؤمنون، إن للمصلحين دورًا كبيرًا في الدعوة والنصح والإرشاد، وتوجيه الناس إلى الخير، وإن لهم كذلك دورًا عظيمًا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والسعي في إصلاح النَّشْءِ، وللمصلحين عبر التاريخ صولات وجولات في نشر الدين والحق، ونشر القرآن الكريم، ونشر وتعليم السُّنَّة النبوية، والأمثلة والنماذج على ذلك كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ومن هذه النماذج التي سَعَت وبذلت في إصلاح المجتمعات:
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير رضي الله عنه في بداية الدعوة، ووجهه معلِّمًا ومُبلِّغًا لدين الله تعالى، ففتح الله على يديه الخيرَ العميم، وأسلم قادةُ الأنصار، ومهَّد الطريق لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أرسله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مُعلِّمًا وموجِّهًا ومُبلِّغًا لدين الله تعالى، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تتابع إرسالُ الدُّعاة، والمعلمين، والمصلحين إلى القُرى والأودية؛ كي يوصلوا رسالة رب الأرض والسماء، فحقَّق الله تعالى على أيدي الصحابة الخيرَ العميم والنفع العظيم، وأصبحت تلك القبائل وتلك الأُمَّةُ من رُعاة الأبل قادةً للأُمم، وكلُّ ذلك بفضل الله تعالى، ثم بدعوة وجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بجهود أولئك المصلحين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين شرَّفهم الله بالدعوة والبلاغ ونشر العلم، وترسيخ أصول الإسلام وقواعده وأركانه، ثم جاء بعد ذلك دورُ العلماء بعد القرون المفضَّلة، وساروا على نفس الطريق الذي كان عليه رسول الإسلام، ومُعلِّم البشرية، والرحمة المهداة، محمدٌ صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، وعلى ما كان عليه الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار، وهكذا الأئمة الأعْلَام الذين طار بذكرهم وعِلْمِهم وإصلاحهم الرُّكْبانُ، ومآثِرُ هؤلاء العلماء باقيةٌ، وعلومهم مُتناقَلة، تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل.
ومن هؤلاء العلماء الأعلام: أئمة الحديث، وعلماء التفسير، والفقهاء، وعلماء العقيدة، وعلماء الأصول، واللغة العربية، وعلماء سائر فنون العلم، وها هي كتبهم تُدرَّس ويتداولها الطلاب والعلماء، وبها تزخَر مكاتب العالم، وهكذا قادة الجهاد الإسلامي عبر تاريخ هذه الأمة، مرورًا بالصحابة والتابعين وتابعيهم، ومَن جاء بعدهم مِنَ القادة العظماء الذين فتحوا السند والهند، وبلاد ما وراء النهر، والأناضول، ووصلوا إلى حدود فرنسا والصين، وغير ذلك من البقاع التي اجتاحَتْها خيولُ المسلمين، وهم يُعلنونها مُدوِّيةً: الله أكبر، الله أكبر.
أيها المسلمون، إنه لا بد أن نعرِفَ قدرَ أمثال أولئك العظماء، من أهل الحق والخير والدعوة، الذين هم ركيزة إصلاح المجتمعات، ونشر الخير والفضيلة؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 104].
قلت ما سمعتم…
الخطبة الثانية
أثر الدعوة والمصلحين على المجتمعات:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين؛ أما بعد:
فيا أيها المسلمون، سؤال مهم لنا جميعًا: هل نحن بحاجة إلى العلم والتعليم؟ وهل نحن بحاجة إلى علماء وطلاب عِلْمٍ، ومُربِّين ومدرسين؟ هل نحن بحاجة إلى مُصلحين ومُوجِّهين؟ هل نحن بحاجة إلى من يبادر إلى رفع مستوى الوعي والبصيرة؟ هل نحن بحاجة إلى خطباء ووعَّاظ، حتى يتحركوا في أوساط المجتمعات؛ من أجل النصح والإرشاد، والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحجيم أعمال ومواقع أهل الشر؟ أليس كذلك؟
أيها المسلمون، لماذا العالم اليوم يقف حَجَرَ عثرةٍ أمام أهل الحق والخير والدعوة، الذين هم ركيزة إصلاح المجتمعات بعد الله تعالى؟ لماذا الهجمة الشرسة على مسلَّمات الدين، وعلى حَمَلَةِ مشاعل النور والهدى؟ لماذا حملات التشويه على حَمَلَةِ هذا الدين؟ لماذا العزوف عن طلب العلم الشرعي؟ لماذا في كثير من البلدان الإسلامية تمَّ منع روَّاد النصح وحَمَلَةِ الحق، ومن تتوجَّع قلوبهم لحال الأمة؟ ولماذا الإعلام يقود حملات التشويه لأهل الخير، ولمن يسعى في إصلاح حال أمته، ويعملون على تشويه الذوات، والقدوات؟
أيها الناس، الذي يحصل هو أن بعض الناس كارهٌ للتديُّن، وكاره لانتشار مظاهر الخير والفضيلة، ولا يحب إلا أن يعيش في مستنقعات الرذيلة، فلا يراعي الحرمات، وربما أصبح هو الداعم الرئيسي لمظاهر الفساد؛ من الفساد العقدي، والفساد المالي، والفساد الإعلامي، والفساد الخلقي، وغير ذلك من أنواع الفساد الفكري.
فما هي مُهمَّة الأنبياء والرسل عليهم السلام؟ مُهمَّتُهم تعبيدُ الناس لرب العالمين، ونشر التديُّن الصحيح، ونشر الأخلاق الفاضلة، وبناء الأجيال الصادقة والعابدة، والزاهدة، والمجاهدة، فهذا كله يغيظ أعداءَ هذا الدين من اليهود والنصارى، والمنافقين وأهل الضلال، وهذه الأمة لن تعود إلى سابق عزِّها ومجدها وقيادتها للأمم، إلا إذا رجعت إلى دينها الحقِّ؛ الكتابِ والسُّنَّة.
وكذلك أن تعلم هذه الأمة قَدْرَ العلماء والدعاة والمصلحين، وأن تمكِّن هذه الأمة للعلماء والدعاة، والمصلحين والناصحين، من مخاطبة الناس مباشرة، ونشر التدين الصحيح، وتوجيه الأجيال إلى طريق العلم والخير، وأن يعلم هذا الشابُّ دورَه في الحياة، وأن عليه مسؤولية إخراج هذه الأُمَّة من هوانها، ومن الذل الذي سيطر على الأجيال وعلى الشعوب.
﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].
ألَا صلُّوا وسلِّموا على من أُمرتم…