أحتاج توبة المنافقين
♦ الملخص:
شابٌّ مسرف على نفسه، يحاول التوبة، لكن محاولاته تبوء بالفشل؛ ما جعله يُعرِض عن الدين بالكلية، وهو يعتقد أنه في حاجة إلى توبة أشدَّ من غيره؛ لأنه منافق، ويسأل: ما النصيحة؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم.
أنا شابٌّ مسرف على نفسي، قارفت ذنوبًا كبيرة وصغيرة، حاولت التوبة مرارًا وقطعَ كل العلائق والعادات السيئة مثل التدخين، مع الانتظام في الصلاة في المسجد، لكني أمَلُّ سريعًا، ويعود الأمر أسوأ مما كان عليه، وأرى ذلك دليلًا على عدم قَبول توبتي، وفي استقامتي لا تتركني الوساوس؛ فيتسرب إليَّ شعور بأن الابتلاء لن يتركني حتى ولو أذعنت لأمر الله؛ قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، فلا أجد مخرجًا من معاناتي، أيضًا أتصور أن المسلمين درجاتٌ، فمنهم من يقبل الله منه القليل من العمل، ويخلط الأعمال الصالحة بالسيئة، ومن خلال ما مررت به أرى نفسي من نوعٍ آخر غير هذا النوع، وقد قرأته في كتب التفسير في قول الله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 146]؛ فالمنافقون مطالبون بأشد أنواع الاستقامة والتوبة، دون أن يكون أجرهم أعلى من أجر غيرهم من أصحاب القلوب الصافية؛ لأن الله قال بعدها: ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 146]، ولم يقل: وأولئك مؤمنون، فهم في منزلة أدنى من غيرهم، ومن ثَمَّ فلن يسعني إلا توبة المنافقين.
أشعر أنني مُهان عند ربي عز وجل، فكثيرًا ما سألته أن يرزقني حسن الخاتمة عاجلًا غير آجل، وأن يعوِّضني عن العادات السيئة بأخرى مباحة؛ كأن يرزقني لذة العلم، حتى أستمر على التوبة، لكن الله لا يستجيب دعائي؛ فأُعرِض إعراضًا كليًّا عن الدين، فيسوء الأمر أكثر، أقول هذا لا لأتهم ربي سبحانه حاشاه، لكن هذا ما يحصل، عندما أنظر من بعيد، أتساءل: لماذا لم أُخلَق مثل الذين صفت قلوبهم، وسمت أخلاقهم؟ لماذا حياتي على هذه الشاكلة؟ فبِمَ تنصحونني؟ وجزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أخي الكريم، أنت تمرُّ بتشاؤم وقنوط ووسوسة، وكلاهما من تزيين الشيطان، وتلبيس إبليس، أعاذنا الله منه.
فأما التشاؤم والقنوط فيجب أن تَعِيَ وتعلم وتدرك أن ذنب التشاؤم والقنوط لا يقل خطرًا عن ذنب المعصية ذاتها؛ لأن الله تعالى كريم توَّاب رحيم، أمَرَ بالتوبة، وهو يقبل التوبة عن عباده، ولا يرضى لعباده هذا التشاؤم، ويكرهه، ولا يرضى لهم هذا اليأس والقنوط: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الزمر: 53] باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]؛ أي: لا تيأسوا منها، فتُلقُوا بأيديكم إلى التَّهْلُكَةِ، وتقولوا: قد كثُرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريقٌ يُزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقَون بسبب ذلك مُصرِّين على العصيان، متزودين ما يُغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرِفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجُوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ أي: وصفه بالمغفرة والرحمة وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسُحُّ يداه من الخيرات آناءَ الليل والنهار، ويوالي النِّعم على العباد والفواضل في السِّرِّ والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونَيلهما أسبابٌ، إن لم يأتِ بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلُّها، بل لا سبب لها غيره، الإنابةُ إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع، والتأله والتعبُّد، فهلُمَّ إلى هذا السبب الأجلِّ، والطريق الأعظم[1].
فإن باب التوبة والرحمة واسع؛ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة: 104]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، وقال تعالى في حق المنافقين: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ [النساء: 145، 146]، وقال: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ثم قال: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 73، 74]، وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ [البروج: 10]؛ قال الحسن البصري: انظر إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جدًّا.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قَتَلَ تسعًا وتسعين نفسًا، ثم ندِم، وسأل عابدًا من عُبَّاد بني إسرائيل: هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالمًا من علمائهم: هل له من توبة؟ فقال: ومن يَحُول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها، فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله أن يقيسوا ما بين الأرْضَينِ، فإلى أيهما كان أقرب، فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبرٍ، فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عند الموت، وأن الله أمر البلدة الخيِّرة أن تقترب، وأمر تلك البلدة أن تتباعد؛ هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]؛ إلى آخر الآية، قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عُزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74]، ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولًا من هؤلاء، من قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا، فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه[2].
وأما الوسوسة، فعلاجها بطرح هذه الأفكار المخذِّلة الآيسة من رحمة الله، والدخول في الطاعة بكامل الجوارح، وملازمة المسجد أوقات الصلوات، والصدقة والبر والإحسان، وعدم الالتفات لما يحدثه الشيطان، والاشتغال بالذكر والدعاء، وإن استمرت الوسوسة، فراجع مختصًّا موثوقًا بالطب النفسي، وفَّقك الله.