أركان الإيمان (خطبة)


أركان الإيمان

 

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [أي: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها] ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. مَن يطعِ اللهَ باتِّباعِ كتابِه، ويطعِ الرسولَ باتِّباع سُنَّتِه، فقد فاز فوزًا عظيمًا، أما بعد:

فإنَّ خيرَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، و﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الأنعام: 134].

 

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال سبحانه مبينًا علمه بكل ما سيقع، وأن كل شيء من القدر مكتوب عنده: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه))، فهذه أركان الإيمان الستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيرِه وشرِّه.

 

أيها المسلمون، الإيمان اعتقادٌ وقولٌ وعمل، اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، يزيدُ بالطاعات، وينقصُ بالمعاصي، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقَتْه الأعمال الصالحة، فمن آمن وعمل صالحًا في سرِّه وعلانيته فهو المهتدي الصادق، ومن أظهر الإيمان وأبطن الكفر والمعاصي فهو المنافق، ولا يدخل الجنة إلا من كان مؤمنًا يعمل الأعمال الصالحة في سرِّه وعلانيته، قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأنعام: 48]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ﴾ [الطلاق: 11]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].

 

أيها المسلمون، الإيمان بالله أن نؤمن بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فنؤمن بأن الله هو الربُّ الخالق المالك المدبِّر لجميع ما في الكون، وأنه وحده الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه، وكل معبود غيره فعبادتُه باطلة، قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، ونؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاتِه الكاملة العليا، قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8]، وقال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، فالله واحد أحد، لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4]، الصمد الكامل في صفاته، المقصود في حاجات عباده، فالله هو الواحد الذي لا مثيل له، ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، هو الخالق وما سواه عبدٌ مخلوق، ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213]، ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].

 

أيها المسلمون، والإيمان بالملائكة أن نؤمن بأن الله خلقهم من نورٍ لعبادته وتنفيذ أوامره، وأنهم: ﴿ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 26، 27]، ﴿ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20]، وقد وكَّلهم الله بأعمال يقومون بها بأمره ومشيئته، كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾ [النازعات: 3 – 5]، فمنهم جبريل، وكَّله الله بالوحي ينزله من عند الله على من يشاء من أنبيائه، ومنهم ميكائيل، وكَّله بالمطر والنبات، ومنهم ملَكُ الجبال الموكَّل بها، ومنهم ملائكة موكَّلون بالأجِنَّة في أرحام الأمهات، ومنهم الملائكة الموكَّلون بكتابة الأعمال، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 – 12]، ومنهم ملَكُ الموت، وكَّله الله بقبض الأرواح، وله أعوانٌ من الملائكة، ومنهم الملائكة الموكَّلون بالإنسان في قبره، ومنهم مالِكٌ خازنُ النار، وله أعوانٌ يتولَّون عذابَ أهلِ النار، وهم الزبانية، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31].

 

أيها المسلمون، والإيمان بالكتب المنزَّلة أن نؤمن بأن الله أنزل كتبًا على رسله، لهداية الناس، وأنزل كلَّ كتاب بلغةِ الرسول الذي أُنزل عليه الكتاب، ومنها: صُحُف إبراهيم، والتوراة التي أنزلها الله على موسى، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، والقرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع تلك الكتب أنزلها الله على رسله ليبلغوا الناس كلام الله، وليخرجوهم من الظلمات على النور، وليحكم الناس بها، فهي كُتُبُ هدايةٍ وتشريع، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، وقال سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 213]، وجعل الله القرآن العظيم ناسخًا للكتب السابقة، وتكَفَّل بحفظه، فهو محفوظ من التغيير والتبديل، بخلاف الكتب السابقةِ التي غُيِّرتْ وبُدِّلَت وحُرِّفَت، قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

أيها المسلمون، والإيمان بجميع الرُسُل واجبٌ، فنؤمن بكل رسول أرسله الله، قال الله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 136، 137]، فاليهود والنصارى آمنوا ببعض الرُّسُل وكفروا ببعض، وهذا كفرٌ مبين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 150 – 152]، فيجب أن نؤمن أن الله تعالى بعث رُسُله لهداية الناس، وأقام بهم الحُجَّة، ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وهم أكملُ الناس عقلًا، وأعظم إيمانًا، وأكثرهم صلاحًا، مؤتمنون صادقون، وهم بشرٌ كانوا يعبدون الله، ويدعون الناس إلى عبادة الله، ولم يدَّعُوا لأنفسهم شيئًا من الألوهيَّة، ولا يدَّعون علم الغيب، ولا التصرُّف في الكون، وخاتمُهُم محمدٌ سيدُ الأنبياء والمرسلين لا نبيَّ بعده، ويجب على جميع الناس الإيمانُ به واتِّباعُه، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، بعثه الله للإنس والجن، والعرب والعَجَم، ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

 

ونؤمن بأن دين الإسلام الذي أرسل الله به رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي ارتضاه لعباده، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

أيها المسلمون، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بيوم القيامة الذي يبعث الله فيه عباده أحياء للحساب والجزاء، فنؤمن بقدرة الله على بعث عباده بعد أن صاروا ترابًا وعِظامًا، فهو على كل شيء قدير، فيقوم الناس من قبورهم لربِّ العالمين، ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104]، ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، فيجمع الله الأوَّلين والآخرين في أرض المحشر، ﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 47، 48]، فيحاسب الله الخلائق يوم القيامة، ويُعطى كلُّ إنسان صحيفة أعماله بيمينه أو بشماله وراء ظهره، ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].

 

وتُوزنُ أعمال العباد، ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 1 – 8].

 

ونؤمن بكل ما جاء في القرآن والسُّنَّة من أخبار ذلك اليومِ وأهوالِه، وأشدُّ ذلك المرورُ على الصراط المنصوب على جهنم، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [القمر: 6 – 8]، فيُدعى الناسُ إلى المرور على الصراط، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا))، ويُعطى كلُّ مؤمن نورًا على قدر أعماله الصالحة التي عملها في الدنيا، فمنهم مَنْ نورُه كالجبل، ومنهم مَنْ نورُه كالشجرة، ومنهم مَنْ نورُه كطرفِ إصبعِه، يُضيءُ مرةً ويُطفَأ أخرى، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 12 – 15].

 

اللهم الطف بنا عند المرور على الصراط، وثبِّت أقدامنا، وأتمم لنا نورنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعل الجنة ثوابًا للمؤمنين الصالحين، وجعل النار مثوى الكافرين والفُجَّار والمنافقين، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فيا أيها الناس، الدنيا أمد، والآخرة أبد، فلنتَّقِ الله، ولنستعد ليوم لقائه، ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 4 – 6].

 

أيها المسلمون، الإيمان يدعو صاحبه للخشوع والتوبة، والاستعدادِ للقاء ربه، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

 

أيها المسلمون، ومن أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشرِّه، وهو تقدير الله تعالى للمقادير بما سبق به علمُه، واقتضته حكمتُه، قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]، وقال جَلَّ جلالُه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، فكل شيء بقضاء وقدر حتى الحياة والموت، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145]، بل ما من حشرة فما فوقها من الدوابِّ إلا وقد كتب الله رزقها، ويعلم أين تستقر في حياتها في مسكنها، وأين تكون بعد موتها، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا تسقط ورقة من أي شجرة في أي بقعة في أي لحظة إلا بتقدير الله ومشيئته، وذلك مكتوب عنده، كما قال الله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]، وقال الله سبحانه: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]، والله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم بكل ما سيكون في حياتنا، وبعد موتنا، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].

 

أيها المسلمون، كلُّ شيء خلقه الله في الكون قد علم الله بوقوعه قبل أن يقع، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال الله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، ولا يكون شيءٌ في السماوات والأرض إلا بمشيئة الله وتقديره، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء في الكون فقد خلقه الله، ولا خالقَ إلا اللهُ وحده.

 

أيها المسلمون، القدر سرُّ الله في خلقه، يجب الإيمان به من غير تكلف، فهو كالشمسِ لا يزداد الناظر إليها إلا ضعفًا في بصره، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، فقد جعل الله للعبد اختيارًا وقدرة ومشيئة، وأمره أن يفعل الخير ويترك الشر، فإن فعل الخير باختياره ومشيئته فقد علم الله ذلك منه، وإن اختار الشر فقد علم الله ذلك منه، فالقدر سابقٌ لا سائق، ومشيئة العبدِ تحت مشيئةِ الله، كما قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 27، 28].

 

أيها المسلمون، هذه أركان الإيمان الستة التي يجب علينا الإيمان بها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فمن آمن بها علمًا وعملًا فهو من الفائزين، وله الحياة الطيبة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة، وإن حقق المسلمون الإيمان نصرهم الله على أعدائهم، ولا نجاة لنا من الخسران في الدنيا والآخرة إلا بتحقيق الإيمان والأعمال الصالحة، قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال سبحانه: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وقال: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3]، أقسم الله بالعصر وهو الزمن، كما يقال: عصر النبي، وعصر الصحابة، والعصر الحاضر والماضي، والله يقسم بما شاء، أقسم بالعصر ليؤكد لنا هذا الخبر المخيف، أقسم أن جميع الناس في خسارة، جميع الناس إلى النار والعياذ بالله، إلا من اتصف بأربع صفات، ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.

 

فلنحقق أيها المسلمون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولنحذر أن نكون من المنافقين أو الغافلين، ولنعمل الأعمال الصالحة التي تصدق الإيمان، ولنتواصى بالحق، وهو الإيمان والعمل الصالح، نتواصى بالقرآن والسنة، ولنتواصى بالصبر على طاعة الله، والصبر عن المعاصي، والصبر على الأقدار المؤلمة، ونعلم أنها بقضاء الله وقدره، وبذلك نكون من الفائزين بالجنة.

 

اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، اللهم أتْمِم لنا نورنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين، اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، اللهم اجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

 

اللهم وصل وسلم على نبينا محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
فضل صيام يوم عاشوراء
أسطورة تغيير الجنس