أسباب شرح الصدور (1) (خطبة)


أسباب شرح الصدور (1)

 

الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين والعاقبة للمتقين ولا عُدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيءٍ قائمٌ به وكل شيءٍ خاضعٌ له، غنى كل فقير، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف من تكلم سمع نطقَه ومن سكت علم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقُه ومن مات فإليه منقلبه. كل ملكٍ غيره مملوك، وكل قويٍ غيره ضعيف، وكل غنيٍ غيره فقير.

 

أما بعد:

فأوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله عز وجل القائل: ﴿ ‌وَاتَّقُوا ‌يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281] اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.

 

اسمعوا إلى المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول فيما روى الطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملَكٌ قائم أو ملَكٌ ساجد أو ملك راكع. فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك شيئا» [أخرجه الطبراني في الكبير (2/184، رقم 1751)].

 

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا، وإن منهم لملائكة قياماً صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة وملائكة سجودًا منذ خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» [رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم- صحيح الترغيب والترهيب/ 3626].

 

تُسبّح له السموات السبع والأرضين السبع، سبحان من تفرّد بالبقاء جل في علاه.

 

إذا ركب المسافرون وظل الحادي وارتبك الرُبّان واضطربت السفينة وهبّت الريح وجاء الموج كالجبال نادوا يا الله يا الله يا الله.

 

إذا وضِع السجين وراء القضبان وفارقه الأخوان والخلان والجيران نادى من وراء الحديد يا الله يا الله..

 

إذا ظل المسافر في الصحراء، وأدركه الظمأ وبعُد عن الأحباب والأصدقاء والأولياء نادى يا الله يا الله.

 

إذا حل الهم، وخيّم الغم، واشتد الكرب، وعظُم الخطب، وضاقت السبل وبارت الحيل. نادى المنادي: يا اللهُ يا الله (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) فيُفرّج الهم، ويُنفّس الكرب، ويُذلل الصعب: ﴿ ‌فَاسْتَجَبْنَا ‌لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88].

إذا أجدبت الأرض، ومات الزرع، وجفّ الضرع، وذبلت الأزهار، وذوت الأشجار، وغار الماء، وقلّ الغذاء، واشتد البلاء. خرج المستغيثون بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، فنادوا: يا اللهُ يا الله، فينزل المطر، وينهمر الغيث، ويذهب الظمأ، وترتوي الأرض ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ ‌هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].

 

إنه الله (جل جلاله).

إذا اشتد المرض بالمريض، وضعُف جسمه، وشحُب لونه، وقلّت حيلته وضعفت وسيلته، وعجز الطبيب، وحار المداوي، وجزعت النفس، ورجفت اليد، ووجف القلب، وانطرح المريض، واتجه العليل، إلى العليّ الجليل. ونادى: يا اللهُ يا الله، فزال الداء، ودب الشفاء، وسُمع الدعاء ﴿ ‌وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83-84].

 

إذا اعترض الجنين في بطن أمه، وعسُرت ولادته، وصعُبت وفادته وأوشكت الأم على الهلاك، وأيقنت بالممات. لجأت إلى مُنفّس الكربات، وقاضي الحاجات، ونادت: يا اللهُ يا الله، فزال أنينها، وخرج جنينها.

 

عباد الله: من الذي يشرح الصدور؟

من الذي يسهل الأمور؟ من الذي يفك الحيل؟ من الذي يفتح السبل؟ من الذي يمد الحبال؟ من الذي ينير الطريق؟ من الذي يجيب السؤال؟ من ذي الجلال؟ من ذي الكمال؟؟ من ذي الجمال؟؟ إنه الواحد الأحد.

 

يقول أحد السلف: كنا مع إبراهيم بن أدهم في البحر، فهاجت ريح، واضطربت السفينة، وبكوا، فقلنا: يا أبا إسحاق! ما ترى؟

 

فقال: «يا حي حين لا حي، ويا حي قبل كل حي، ويا حي بعد كل حي، يا حي، يا قيوم، يا محسن، يا مجمل! قد أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك»، فهدأت السفينة من ساعته.

 

نقف وإياكم مع وسائل شرح الصدور.

 

ما هي الوصفة النبوية القرآنية لشرح الصدور وتيسير الأمور؟

يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ ‌نَشْرَحْ ‌لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1] يقول جل وعلا لنبيه: أما ضاق صدرك؟ أما أتتك غيومٌ من الحزن وسُحُبٌ من القلق؟ أما كنت في كرب؟ أما عشت أزمة؟ أما مرت بك محنه؟ من الذي شرح صدرك؟ ((الله)) من الذي أزال همك؟ ((الله)) من الذي فتح عليك؟ ((الله)) من الذي نصرك؟؟؟ ((الله)).

 

نعمة شرح الصدر لا يدركها إلا من عاش المعاناة، وطاف به طائف من الكدر، وزاره الهم والغم فإذا التجأ إلى الله شرح الله صدره.

 

أرسل الله موسى إلى فرعون فلما اشتد كربه قال: ﴿ ‌قَالَ ‌رَبِّ ‌اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ﴾ [طه: 25-27].

 

وامتن الله على أولياءه فقال: ﴿ ‌أَفَمَنْ ‌شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]، وقال جل وعلا ﴿ ‌فَمَنْ ‌يُرِدِ ‌اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125].

 

كيف تنشرح صدورنا؟؟؟ كيف تزول همومنا؟؟ كيف تذهب غمومنا؟؟ كيف نرتاح؟؟؟ ما هي الطرق المثلى لشرح الصدور؟

 

إنها طرق للأولياء الصادقين عرفها الأنبياء والمرسلون، وسار عليها الزُهاد والعباد فكشف الله همهم وأزال كربهم جل في علاه.

 

أول ذلك التوحيد الخالص: الإيمان بالله، الثقة به، تفويض الأمر إلى الله، الاكتفاء بحسبه واطلاعه ونصرته و تأييده. حسبنا الله ونعم الوكيل هي رحيق التوحيد وسر التفويض وكلمة التوكل.

 

النار لا تحرق إبراهيم الخليل لأنه وهو يهوي إليها يقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل».

 

الكفار لا يُدركون محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه لأنهم قالوا: «حسبنا الله ونعم الوكيل». ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ‌لَمْ ‌يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174].

فالتوحيد الخالص والتوكل على الله يشرح الصدور ويزيل الهموم والغموم.

 

ذكر التنوخي وغيره أنه: وضع عالماً من علماء الأمة في حبس وفي قيد في أرض المقدس في فلسطين، وضعوه النصارى ووضعوا الحديد والأغلال في يديه ورجليه، فأمسى مهموماً، وأمسى حزيناً وبات مكدراً مغموماً، فصلى ركعتين ثم نام، وفي المنام رأى محمد صلى الله عليه وسلم، هذا العالم في القرن الرابع رأى في المنام أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم فيُسلّم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المسجون العالم الزاهد المجاهد الداعية يقول له «يا محمد حبسوك؟قال قلت نعم يا رسول الله. قال: وقيّدوك قلت: نعم يا رسول الله. وقال: وأغلقوا دونك الأبواب. قلت: نعم يا رسول الله. قال: أين أنت من دعاء الكرب الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما» قال فتذكرت الحديث وقلته. يقول العالم فسقطت قيودي في لحظه وأغلالي وفُتحت لي الأبواب. فخرجت بإذن الله. والحديث حديث الكرب اسمع إليه يهز الجبال تذوب له الصخور تهتز له الحجارة تسيل له العيون ترتجف له القلوب «لا إلهَ إلاّ الله العظيم الحلِيم، لا إلهَ إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ العرش الكريم، لا إلهَ إلا الله الحليم الكريم» [رواه البخاري في الدعوات (6345، 6346)، ومسلم في الذكر (2730)]. هذا دعاء الكرب وهذا سؤال الكرب وهذه كلمات الكرب فنجي هذا العبد وأمثاله كثير.

 

يونس عليه السلام يقع في ظلمات ثلاث ولا حبيب ولا صاحب ولا مجيب ولا ناصر ولا معين إلا الله. فقال كلمة المشهورة التي صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين إنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» [أخرجه أحمد (3/65- 66) [1462]، والترمذي في الدعوات [3505]]

.

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

عباد الله:

ثانياً مما يشرح الصدر الصبر على المقدور: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. والعوض من الله والثواب من الله روى الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:«إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيه ـ فصبر، عوّضته منهما الجنة».

 

فكان الأولياء إذا فقدوا عيونهم قالوا: «اللهم العوض منك» ابن عباس رضي الله عنهما يفقد عينيه، فيدخل حُسّاده يعزونه ومحبوه يهنئونه فيقول:

إن يأخذ الله من عيني نورهما
ففي فوادي وعقلي منهما نور
قلبي ذكيٌ وعقلي غيرُ ذي دخَلِ
وفي فمي صارمٌ كالسيف مشقورُ

 

يزيد ابن هارون العابد المحدث تذهب عيناه. قيل أين عينيك الجميلتان؟ قال أذهبهم بكاء الأسحار والعوض من الله، والشاهد العوض من الله.

 

في الترمذي يقول الله لملائكته وهو أعلم وأحكم وهو العدل: إذا قبضوا ولد العبد ثمرة فواده، تسكب روح ولده بين يديه. تتقاطر نفسه بين جوانحه. ثم ينظر فإذا اللوعة وحريق المصيبة بين أجنحته، فيقول: «إنا لله وان إليه راجعون الحمد لله»، قال الله لملائكته: «قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا قبضناه» والله هو من أمرهم أن يقبضوه: ﴿ ‌وَمَا ‌كَانَ ‌لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145].

 

لا تموت النفوس ولا تحيا، ولا ينزل القطر ولا تتحرك ورقه ولا يتم قرار ولا يقوم قائم إلا بأمر من الواحد الأحد: ﴿ ‌وَاللَّهُ ‌غَالِبٌ ‌عَلَى ‌أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].

قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: قبضنا ثمرة فؤاده. قال: ماذا قال عبدي المؤمن؟ قالوا حمدك واسترجع يعني قال: الحمد لله إنا لله وان إليه راجعون قال تعالى: «ابنوا لعبدي بيتنا في الجنة اسمه بيت الحمد» [أخرجه أحمد (4/415)، والترمذي في: الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب (1021)، وأبو داود الطيالسي (508) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه. وصححه ابن حبان (7/210- 2948)، والألباني في الصحيحة برقم (1408)]. بيتٌ في الجنة وهي الأمنية الغالية. إن كان عندك أُمنيه غير بيتٍ في الجنة في جوار الرحمن فلتخسأ الأمنية. إن كان عندك أمل أو مقصد فوق مقصد أن يكون لك بيتٌ في الجنة في جوار الديان الرحمن الجبار الغفار فليخسأ المقصد والرجاء.

 

آسيا امرأة في بيت الظلم والجبروت والخيانة والفشل واللعنة بيت فرعون. معها الحشم والخدم والجنود والبنود والدور والقصور وتقول: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي ‌عِنْدَكَ ‌بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].

 

فاصبر على المقدور وافعل فعل السلف الصالح فها هو عروة بن الزبير بن العوام – وهو أحد التابعين الكبار- رحل إلى عبد الملك بن مروان، وكان في رجله مرض ودبت إلى رجله الآكلة (السرطان)، فلما وصل إلى عبد الملك بن مروان استشرى المرض في رجله، فقال الطبيب له: لا حل إلا أن نقطعها لك، قال: وكيف ذلك؟ قالوا: تشرب خمراً حتى نستطيع أن نقطعها لك فلا تتألم.

 

فقال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني حتى إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها – لولا أن أسانيد هذه القصة صحيحة لما كاد المرء يصدقها! – قال: فلما دخل في الصلاة قطعوها فما أحس بها، فلما صار المنشار إلى قصبة الساق وضع رأسه على الوسادة ساعة؛ فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر من وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، فأخذ رجله المقطوعة وجعل يقبلها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم -سبحانه وتعالى- أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما يسخط الله، ثم أمر بها فغُسلت وطُيّبت ولُفّت في قطيفة وبعث بها إلى مقابر المسلمين.

 

وبعد أيام من قطع رجله، سقط ولده من على سطح الدار فمات، وقيل ضربه خيل برجله في إسطبل الخيول فمات، – وكان عنده سبعة أولاد- فبلغ ذلك عروة فقال: اللهم لك الحمد، أخذت واحداً وأبقيت ستة، وأخذت عضواً وأبقيت ثلاثة، اللهم لئن ابتليت فلقد عافيت، ولئن أخذت فلقد أبقيت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَئِنْ ‌شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

قال الإمام الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً وكان رابطنا يومئذ عريش مصر قال فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا بخيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقُل سمعه وبصره وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه. وهو يقول: «اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها على وفضلتني على كثيرٍ ممن خلقت تفضيلا». فقال عبد الله بن محمد قلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام فهم أم علم أم إلهام.

 

فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: «اللهم أوزعني أن أحمدك حمدًا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها على وفضلتني على كثيرٍ من خلقت تفضيلا»، فأيُّ نعمةٍ من نعم الله عليك تحمده عليها وأيُّ فضيلة تفضّل بها عليك تشكره عليها؟ قال: «وما ترى ما صنع ربي والله لو أرسل السماء عليّ ناراً فأحرقتني وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني ما ازددت لربي إلا شكرًا لما أنعم على من لساني هذا. ولكن يا عبد الله لي إليك حاجة تراني على أي حالة أنا!! أنا لست أقدر لنفسي على ضُر ولا نفع، ولقد كان معي بُني لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني، وإذا جُعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسّسه لي رحمك الله. فقلت: «والله ما مشي مخلوق في حاجة مخلوق كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجة مثلك».

 

قال: فمضيت في طلب الغلام فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: أنى لي وجه رقيق آتى به الرجل. فبينما أنا مُقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أتيته سلّمت عليه فرد على السلام فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: ما فعلت في حاجتي؟

 

فقلت أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي.

 

قلت هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً. قلت لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه. قال: نعم. قلت: فكيف وجده ربه؟ قال وجده صابراً شاكراً حامداً. قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيره عرضاً لمار الطريق هل علمت؟ قال نعم. قلت: فكيف وجده ربه قال صابراً شاكراً حامداً. أوجز رحمك الله قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر.

 

فقال المبتلى: «الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه فيُعذبه بالنار»، ثم استرجع وشهق شهقة فمات. فقلت«إنا لله وإنا إليه راجعون عظمت مصيبتي رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع‌. قال: فسجّيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكياً.

 

فبينما أنا قاعد إذ دخل علىّ أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه فكشفت عن وجهه، فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مره ويديه أخرى ويقولون: «يالها من عينٍ طالما غضّت عن محارم الله ويا له من جسمٍ طالما كان ساجداً والناس نيام». فقلت من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا هذا أبو قلابه الجرمي صاحب ابن عباس رضي الله عنهما لقد كان شديد الحب لله وللنبي – صلى الله عليه وسلم -.

 

فغسّلناه وكفّناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جنَّ عليَّ الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حُلَّتان من حُلَل الجنة وهو يتلو الوحي: ﴿ ‌سَلَامٌ ‌عَلَيْكُمْ ‌بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]. فقلت: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: أنى لك هذا؟ قال إن لله درجات لا تُنال إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء مع خشية الله عز و جل في السر والعلانية[1].

 

هذا وصلوا – عباد الله: – على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ‌يُصَلُّونَ ‌عَلَى ‌النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 


[1] ورواها الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب: الصبر والثواب عليه: (99)، ورواها الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج: (51)، ص: (114) وأشار إليها الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ،ج: (4). ص: (474).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
White Holes: Inside the Horizon review – Carlo Rovelli turns time on its head – The Guardian
اصبروا وصابروا فإن الله يتولاكم يا أهل غزة (خطبة)