أشكو إليك


أشكو أليكِ

 

سلامُ الله ورحماته عليكِ وأنتِ في جوار البر الرحيم، أكتُب إليكِ اليوم وكأنني أُقابل صفحة وجهكِ النَّضِر الصافي، حاولتُ التعقل كثيرًا، والبحث عن أحد أُزعجه بخواطري غيركِ فلم أجد، أنتِ وحدَك يا حبيبتي التي تنظرين في قلبي لا على وجهي كما يفعل الآخرون، هو سؤال حائرٌ لم أجد له إجابةً، ولا أستطيع أن أسأله غيرَك: (ما سرُّ هذا الحزن القابع في نفسي؟).

 

صدِّقيني يا حبيبتي هذا السؤال ليس ترفًا ولا مجرد خيطٍ لنسج حوار بيننا، بل هو على حقيقته، فقد ناء كاهلي بهذا الحزن الذي يُطفئ ضوءَ نفسي كلما توهَّج، أردِّد بيني وبيني أحيانًا أن هذا قانون الدنيا، وأنها دارُ اختبار، فكيف يسلو القلب عن الحزن وهو سيُسأل عن كل ثانية كان فيها يقظًا؟! وعن كل كلمة قالها أعطى لها بالًا أم لم يُعطِ، فأتقبَّل ذلك الحزن كصديقٍ ثقيل يصعُب مرافقته وأُجاهد للتعايش!

 

كنت تحملين عني كثيرًا يا حبيبتي، فسماعُ صوتك وحدَه كان يفتح لي طاقة نورٍ تنطلق منها رُوحي، فيغلب أمنُ نفسي حزنَها؛ لأنك هنا تُحبين وتتلهفين وتغفرين وتتغافلين!

 

كعادتي كنتُ كلما ضاقت بي الدنيا، لجأتُ إليك لأحطَّ رحالي على عَتبة قلبك الطاهر، فيسكُن شعابَ قلبي النورُ والسرور، ويتبدَّد غيمُه، أما وقد رحلتِ فقد اكتفيتُ بالله وحده، أَبوح له بما في سري وعلني، أرى لطفَه في كل حركة وسَكنة، يَربِط على قلبي كلما فزِع لفِراقك، فيُغنيني عن الناس!

 

لا أُخفيك أن الناس صاروا – بعد رحيلك – في حياتي مجرَّدَ أرقام، والوقت صار ساعات طويلة وليالي ليلاءَ كالتي شُدَّت بيذبل، جلَّ همي الآن يا أمي، كيف أقطَع الأيام آمنةً حتى ألقاك في جوار ربي الحليم اللطيف، كم هي طويلة هذه الساعات وثقيلة، يَخونني التعبير يا أمي كما كان يحدُث ونحن نتحدَّث معًا، فتكملين أنت ما قصدتُه وقصَّر لساني عنه! هكذا أنا الآن…

 

والله لا أشكو ربي – حاشاه – فهو الكريم الذي أراني كرمَه ولطفه رأيَ العين، وأَحاطني برحمته كما لم يتصور خيالي! لكننا في زمن يُشبه ذلك الزمن الذي وصفه نبينا صلى الله عليه وسلم: “والذي نفْسِي بِيدِهِ، لا تَذْهبُ الدنيا حتى يَمُرَّ الرَّجُلُ على القَبْرِ، فيَتمَرَّغُ عليه، ويَقولُ: يا ليْتَنِي كُنتُ مكانَ صاحِبَ هذا القبْرِ، وليس بهِ الدينُ، إلَّا البلاءُ”.

 

فنحن في زمن غريب يا حبيبتي، قديمًا كلما ضاقت علينا الدنيا كنا نقضي يومين أو ثلاثة بين أحضان الطبيعة نتسلق أشجار التوت، ونُشعل الكافور، ونكتشف طول منقار الهدهد بتتبُّع حَفْره في الأرض، ونؤوِّل هدير اليمام والكروان بما يَروقنا! نخلو بالله ونراه في كل شيء حولنا، فتَطيب النفس، وتتجدَّد وتُقبل على ربها راضية مرضيةً، أما الآن فأسبابُ الحزن تتسرَّب إلينا من كل مكان، مهما حاولنا إقامة الجدار بيننا وبينها انهدَم، فالأخبار والمواقع والرسائل تَجر الإنسان جرًّا إلى حَتْفه!

 

لو حكَّموني يا أمي لقلتُ: إن تسلُّل العالم لأيدينا وأسماعنا وأبصارنا، مخالف لطبيعتنا، فالله سبحانه رزقنا عاطفة جيَّاشة؛ لنسقي أولادنا وأحبابنا حبًّا وحَدبًا ولهفًا، فيُثمروا قوة وثقة وصلة بالله، فكان من عظيم أوامره – لنا جنس النساء -: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33]، لا لشيء سوى اللطف بنا، فهو سبحانه الأعلم بصنعتنا، وضع لها (كتالوج) فيه سرُّ حمايتنا، لكن لكل زمن بيتُه! فالقرار في زمننا لم يَعد معناه البقاء في البيت، ولا منع المرأة من العمل، لا، بل صار معناه إقامة جدار بيننا وبين منافذ الألم!

 

فبين أيدينا كلَّ يوم قتلٌ وخسف وانتحار وجوع، وظلم وتجبُّر، وطغيان وسلب، وعُري وابتذال، وهَلُمَّ شرًّا… منذ أن اعتدوا على الأرض وعلى خصوصية أهلها، وجعلوها قرية صغيرة، يتصل شرقها بغربها رغمًا عن البشر، ونحن في ألَمٍ دائم! ما كان يندهش له الصحابة رضوان الله عليهم، ويَعُدونه من عجائب آخر الزمان، صار مألوفًا في زمننا، فمن أين لي يا أمي بقلب يتحمل، وبنفسٍ تصبِر على الاعتزال! فالإعصار شديدٌ، وكلما أقمنا جدارًا يحمينا، حوَّلوه بمكرهم إلى شاشة جديدة بسعة الجدار، وأخرجوا لنا لسانهم ساخرين!

 

هل أزعجتُك يا أمي، دعينا نغيِّر دِفة الحديث، أتتذكرين جلستنا المتكررة طول الصيف، إنني أعيش على ذكراها، وعلى استرجاع أنفاسك المعطرة بالقرآن، وأتذكَّر وصفاتك للمحمَّلين بالهموم والأرزاء التي كانت تَملأ نفوسهم حكمةً ورضا، كما كانت تُثير ضحكهم وسعادتهم، وكأنك كنتِ تغسلين الروح كما كنت تقنعين العقل، كنتِ تقولين لهم: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

 

فأرُد عليك وأقول: شاهدي أسهل، وأذكِّرهم بقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

في زمننا يا أمي لم نعُد من الخاشعين، وليس لنا طاقة بعصيان أصحاب الهوى المفرِّطين، فهم القادة والساسة والسادة واللامعون في كل حَدَب وصوبٍ، ونحن المحني ظهورُهم مقابلَ الكِسرة والنسمة! فقد صدَّقوا أنفسهم أنهم المتحكمون في السحاب والأمطار والزلازل والأعمار، لم يعُد قولهم للناس كما قال النمرود: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، بل صار قولهم: (نحن نأتي بالشمس من المشرق)، لم يعُد يا أمي إلا أن يعبدهم الناس من دون الله!

 

أعلمتِ الآن لماذا اخترتُك أنت وحدك لأُثرثر معك؛ لأن العالم بعدك أصبح فارغًا إلا من أولئك الذين وصفتهم لك!

 

جعَلك الله يا قرةَ عيني في جنة وحريرًا، لك السلام ولأمي خديجة رضي الله عنها السلام، حتى يجمعني الله العليم الخبير بكما على خير حالٍ يُحبها لعباده الصالحين، ولعله قريبٌ، فلا أحبَّ لقلبي منكما بعد الله ورسوله!





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
سها فطن (قصيدة)
متى تستفيق البشرية من غفلتها وترجع إلى ربها؟