أصداء روح مرهقة
أصداء روح مرهقة
استفاق متأخرًا بعد أن قضى ليلة حالكة السواد، زاره فيها دون استئذان قلقٌ حادٌّ واضطرابٌ، ما أغمض أجفانه حتى ألقى في أمعائه بعض عقاقير الإستازولام التي وصفتها له الطبيبة النفسية؛ لأنه يعاني الأرقَ، يصعب عليه النوم كلما استرجع ذكرياته.
شعر بارتخاء غريب، أراد أن يغطَّ في النوم مرة أخرى، لكن عيناه حطت بالمصادفة على الساعة المعلقة على الحائط، كأن المصادفة تُذكِّره بالمحاضرة التي نسي أمرها، انتفض من مكانه، أدرك أنه تأخَّر كثيرًا، بسرعة ودون أن يعي ما يفعل جمع أوراقه المبعثرة على المكتب، وضع المعطف على كتفيه ظنًّا منه أن ارتداءه سيؤخِّره أكثر.
لحسن حظه ما إن أغلق باب البيت حتى وقفت سيارة أجرة أمامه. “الكلية” خاطب السائق بنبرة ثقيلة وهو يزيل العمش (العماص) من عينيه، اكتفى السائق بتحريك رأسه موحيًا إليه بالركوب. أخذ محله في الكرسي الخلفي من السيارة، وحطَّ رأسه على النافذة، ثم سافر بعينيه في كل الاتجاهات، الأمطار في الخارج تهطل بغزارة وكذلك الأفكار على رأسه، لم يتوقف عقله قط عن التفكير، أخبرته الطبيبة النفسية أنه يعاني اضطراب الكرب التالي للرضح؛ ما يجعله شديد القلق وخائفًا من المجهول، رأى المارَّة في عجلة من أمرهم، كأنهم يستبقون لشيء ما لا يحيطون به علمًا، وخز خفيف شعر به في صدره، وتعسَّر تنفُّسه، أنزل زجاج النافذة بغية التخلُّص من الضيق، وما إن استقرت روحه بعض الشيء حتى عاد للتفكير مجددًا باحثًا عن علة يتعلَّل بها أمام أستاذه ليسمح له بالدخول ومواكبة المحاضرة، لم يجد كذبة أفضل من إخباره أن مرض والدته أجبره على السفر إلى مدينة فاس لرؤيتها، لم يتذكر هل سبق أن اختار هذي الحجة في وقت مضى لنفس السبب، الوقت يمضي على عجل، وكل دقيقة تمرُّ هي بمثابة ارتفاع احتمال رفض قبول الدخول، توجه للسائق قائلًا: “أنزلني هنا، لم يبق الكثير على الوصول، سأكمل المشوار على الأقدام عابرًا هذا الطريق المختصر”، بخُطًى غير ثابتة مشى مسرعًا وفكرة أن شيئًا فظيعًا سيحدث لا تغادره، تذكر ما قالته له الطبيبة في آخر جلسة بأن يشغل تفكيره بأشياء إيجابية، حاول لكنه فشل، إعطاء النصائح للآخرين شيء سهل إن لم تكن تعاني مثلهم، فيَدُ أخته التي تلوح من وسط الأمواج قبل أن تلفظ آخر أنفاسها غرقًا لا ولن تُمحى من ذاكرته. ها قد وصل أخيرًا، طرق باب القاعة ثم فتحها، نظر إليه الأستاذ بغلظة وغضب، ودون أن يسمح له بالتعلل والاعتذار طلب منه الغروب عن وجهه، لم يكتفِ بهذا؛ وإنما أخبره أن أمثاله لا يستحقون الوجود في الكلية وأن مكانه في الأسواق للكدح والعمل الشاقِّ، تعالت الضحكات داخل القاعة، تقطير سائل ساخن على أذنه كان سيكون أهون عليه من سماع صدى تلك الضحكات، كلمات الأستاذ كانت جارحة بالقدر الأكثر من الكافي، أطرق رأسه وغادر، اسودَّت السماء في عينيه ولا مكان عنده يذهب صوبه غير بيته الصغير الذي ما يزيده إلا حزنًا واكتئابًا، لمن يلجأ؟ ولا صديق بقربه يفضفض له ويقاسم معه كربه، كان يحمل خيباته المتتالية وذكرياته السيئة وحده، الطريقة التي عامله بها الأستاذ كانت قطرة أفاضت الكأس.
خرج من الكلية حاملًا غمًّا ثقيلًا لم يعد قادرًا على تحمُّله، وجلس في أحد المقاعد في الحديقة قرب الكلية، أراد أن يرتاح قليلًا لكن التفكير المفرط زاره مرة أخرى وبشدة لا توصف، شيء ما كان في رأسه لا يستطيع التخلص منه، أخرج من جيبه علبة العقاقير التي وصفتها له الطبيبة ليأخذها في مثل هذي الحالات وأكدت عليه أن حبةً واحدةً تكفي، ابتلع الحبة الأولى منتظرًا أن تخمد نيران رأسه، لكن الصراخ كان يزداد. مدَّ يده إلى الثانية ثم الثالثة، كأنما يعارك ألمًا لا يعرف نهايته. رفع عينيه نحو السقف الأبيض، بدا له أن شيئًا ما يوشك أن ينفجر داخله. جلس للحظة يحدق في العلبة بيد مرتجفة، ثم وضعها جانبًا، مستسلمًا لصمت ثقيل يلفُّه من كل اتجاه ويفتك به من كل جانب. أحسَّ ببرودة الدم يتسرَّب من أذنيه وأنفه، سقط أرضًا مخلفًا وراءه أسرارًا مجهولة لا يعرفها سواه.