أماني القبور ويوم النشور
أماني القبور ويومِ النشور[1]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المسلمون، يعيش الإنسان في هذه الدنيا وله أمانٍ يرجو حصولها، ومآرب يسعى إلى الوصول إليها، وأمامه في أمانيه الممكنة طرق تُبلِّغه إيَّاها، فمتى ما جدَّ أدرك الأمل، ومن سار على الدرب وصَل.
فالطالب يتمنى النجاح في دراسته، والجامعي يتمنى الحصول على وظيفة تناسب طموحاته، والموظف يتمنى الترقي إلى درجة وظيفية أعلى من درجته، والفقير يتمنى الغنى، والمريض يتمنى العافية، والعزب يتمنى الزواج، والمتزوج يتمنى أن يكون له أولاد؛ وهكذا تتعدد الأماني ويصل كثير من أهلها إليها.
لكن هناك -معشر المسلمين- أماكن لا يصل المتمنون فيها إلى أمانيهم، ولا يستطيعون بلوغ رغباتهم ومطالبهم رغم إلحاحهم، وتقديم ما يستطيعون للوصول إلى تلك الأماني، وهناك يعلنون الندم على أشياء لو استطاعوا فعلها في ماضيهم لفعلوها، ولكنهم حيل بينهم وبينها.
تلك الأماني هي أماني الموتى في قبورهم، وأمانيهم الدنيوية يوم نشورهم.
فلو رأيتموهم وهم يحترقون في لهيب الحسرات، وتتقطَّع أكبادهم ألمًا على قطع تلك الأمنيات؛ لسألتم الله ألَّا تكونوا منهم، وألَّا يصير مصيرُكم مصيرَهم.
فتعالوا اليوم لنعرض بعض تلك الأماني من أفواه متمنيها، وكيف جاء الجواب عنها؛ حتى نستعدَّ اليوم لما يصلح حالنا هناك؛ فلا نتمنى ما يتمنون، ولا نندم كما سيندمون، ولا يصير حالنا إلى ما إليه سيصيرون.
عباد الله، من تلك الأماني التي يتمناها الراحلون عن هذه الحياة إلى الحياة الآخرة: العودة إلى الدنيا؛ ليكونوا من المؤمنين، وللرُّسُل من المصدِّقين.
فإنهم حين يرون العذاب، ويذوقون أليم العقاب، ويتلظون في جحيم التقريع والعتاب؛ يُفيقون من سكرتهم، ويصحون من غمرتهم، ويعترفون بخطيئتهم، فيتمنون حينئذٍ الرجعة إلى دار العمل بعد أن تركوها، والاستعداد للحساب بعد أن نسوه.
يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 12]، وقال سبحانه: ﴿ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 44 – 46].
ويتمنون هناك حضور شفعاء للتخليص من شدتهم، إن لم يكن هناك قبول بردهم إلى دنياهم، ولكن هيهات ما يحبون، فقد حيل هناك بينهم وبين ما يشتهون، قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [الأعراف: 53]، وقد علم الله أنهم لو عادوا لرجعوا إلى سكرة غفلاتهم، ومقارفة خطيئاتهم، قال جل وعلا: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28] [الأنعام:27-28].
إن أولئك المفرِّطين إذا علموا بانتهاء مهلة هذه الحياة بمجيء رسول الموت؛ فإنهم يطلبون الرجعة لكي يُصحِّحوا مسارهم؛ لأنهم أيقنوا حينئذٍ أن لا نجاة لهم إلا بتصحيح الطريق.
فعند الموت حين تنجلي عن قلب كلٍّ منهم غشاوة الضلالة، وتظهر له الحقائق برؤية طلائع عالم الشهادة؛ يطلب الرجعة ليعمل عملًا صالحًا كان قد تركه، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100] فهل يُعطى ما تمنَّى، فيعود إلى الدنيا؟ اسمعوا الجواب: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100].
بل يدرك هنالك أن الصدقة لها شأن عظيم في النجاة، وأن الانضمام إلى سلك الصالحين سبيل إلى حسن المجازاة؛ فلهذا يطلب التأخير والعودة ليتصدَّق على الفقراء، ويكون من عباد الله الصالحين، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10]، فما الجواب لهذه الأمنية يا عباد الله، قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 11].
حتى الصلاة يتمنَّى الميت أن يرجع إلى الدنيا ليُصلِّي ركعتين منها؛ لعلهما تخففان عنه شيئًا من العذاب، أو ينال من صلاتهما قليلًا من الثواب، فاسمع يا من يسهو عن الصلاة، ويا من يُقصِّر في إقامة خمسها، ويا من يتكاسل عن نوافلها؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: ((مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟))، فَقَالُوا: فُلَانٌ، فَقَالَ: ((رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إلى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ))[2].
وعندما يرى الإنسان المفرط نار جهنم يؤتى بها يتذكر ويتعظ ويتوب ولكن بعد فوات الأوان؛ فيتمنى حينئذٍ أنه قدَّم شيئًا صالحًا في حياته الدنيا لينفعه في حياته الأخرى، قال جل وعلا: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 23، 24].
كما أن الإنسان المسرف على نفسه حين يرى العذاب يطلب الكرة إلى الدنيا ليكون من المحسنين في عبادة الله، والمحسنين إلى عباد الله، قال تعالى: ﴿ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 58].
فهل أعطي ما يهواه، وبُلِّغ ما يتمناه، اسمعوا الجواب: ﴿ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 59].
ويوم أن يُلقى في نار السعير، ويُقلَّب وجهه في لهيب ذلك العيب الكبير؛ يتحسر على ما فرط، ويتمنى لو رجع إلى دار الدنيا ليطيع ربه الذي عصاه، ويتبع رسوله الذي ترك هداه، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ﴾ [الأحزاب: 66]، ويتمنَّى المجرم يومئذٍ لو استطاع أن يفدي نفسه من عذاب الله بأبنائه وزوجته وعشيرته وجميع من في الأرض، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: ﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ﴾ [المعارج: 11 – 14]، فيأتي الجواب بأن الأمر ليس كما يتمناه من ورد أخراه وقد ضيع دنياه، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج: 15].
أيها المؤمنون، ومن تلك الأماني في يوم النشور: أمنية حصول البعد عن جلساء السوء والرفقاء المضلين الذين زيَّنوا المعاصي لصاحبهم حتى قارفها، وباعدوا بينه وبين الطاعات حتى تركها، فجاءه الموت وهو على تلك الحال الضالة، فحضرته الندامات، وأحاطت به الحسرات، يوم رأى عاقبة الجليس المزل، والقرين المضل.
قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 – 29]، وقال جل وعلا: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [الزخرف: 38].
فاختر جليسك -أيها المسلم- اليوم من الصالحين، قبل أن تصير من النادمين على مجالسته يوم الدين؛ فالصاحب ساحب، والقرين بالقرين يقتدي.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ))[3].
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي إذَا كُنْت فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ وَلَا تَصْحَب الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي[4] |
أيها الإخوة الفضلاء، ومن الأماني التي لا يعطاها أهلها: أمنية عدم استلام صحف الأعمال يوم القيامة، وعدم الجزاء على ما فيها، وتمني عدم البعث إلى الحساب، وأن لو كانت موتة الدنيا لا قيام منها.
فحين تتطاير الصحف في عرصات الحساب يأخذ أهل النار صحفهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، وحينئذٍ يطلقون صوت الأمنية قائلين: يا ليتنا لم نُعْطَ كتبنا، ولم نعلم ما جزاؤنا، ويا ليت الموتة التي متناها في الدنيا كانت هي القاطعة لأمرنا، ولم نبعث بعدها، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾ [الحاقة: 25 – 27]، فيا لها من حسرات ما أشدها! ومواجع ما أحَرَّ لظاها!
بل يتمنى الكافرون حين يرون العذاب أنهم ما جاءوا إلى الحياة، ويتمنون أن يكون مصيرهم كالبهائم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَقْضِي اللهُ بَيْنَ خَلْقِهِ: الْجِنِّ، وَالإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ، وَإِنَّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الْجَمَّاءَ مِنَ الْقَرْنَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ تَبِعَةً عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأُخْرَى، قَالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: ﴿ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]))[5].
ومن الأماني المردودة على أصحابها: أن يتمنى الكفار والعصاة يوم القيامة أن لو انشقت الأرض وابتلعتهم؛ مما يرون من أهوال الموقف بين يدي الحكم العدل، ومما يخشونه من العذاب والفضيحة والخزي، قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 41، 42].
فما أعظمه من موقف لو فيه تفكَّرنا، وتأثرت به قلوبنا؛ فلو كان ذلك منا لأصلحنا كثيرًا من أحوالنا!
عباد الله، إن أهل النار فيها يتمنون أماني عديدة، منها ثلاث أمانٍ:
فعندما يصلون إلى نار جهنم يتمنون الخروج منها معترفين بظلمهم قائلين: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 107]، ولكن ترد عليهم هذه الأمنية فيقول الله لهم: ﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108].
حتى إنهم حين يرون عصاة الموحِّدين يخرجون من النار -بعد أن يمكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا- يتمنون لو أنهم كانوا مسلمين حتى يخرجوا معهم إلى الجنة؛ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، يَقُولُ الْكُفَّارُ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟، قَالُوا: بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلامُكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟، قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخِذْنَا بِهَا. فَيَسْمَعُ اللهُ مَا قَالُوا، فَيَأمُرُ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجُ كَمَا خَرَجُوا، وَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 1، 2]))[6].
وعندما ترد أمنية الخروج عن الكافرين يتمنون حصول التخفيف من العذاب ولو يومًا واحدًا، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 49].
فماذا كانوا جواب هذه الأمنية؟ قال تعالى: ﴿ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [غافر: 50].
ويوم أن تنغلق عنهم أبواب الأماني يتمنون أمنية الخلاص؛ ألا وهي الموت هناك؛ حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب، قال جل وعلا: ﴿ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [الزخرف: 77]، فماذا جاءهم من الجواب؟ قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [الزخرف: 77، 78]، فيا لها من نهاية أليمة، وإجابة محزنة عظيمة!
نسأل الله ألَّا يجعلنا من أهل هذه الأماني، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون، ما ذكرنا في الخطبة الأولى هو أماني أهل النار، فهل لأهل الجنة أمانٍ أيضًا؟
نعم، لهم أمانٍ كثيرة، ولكنها على قسمين:
القسم الأول: أمانٍ تتحقق، بل ينالون منها فوق ما كانوا يتمنون، وهي الأماني المتعلقة بالجنة ونعيمها، قال تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴾ [يس: 57]، وقال: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ﴾ [الزخرف: 71].
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ))[7].
والقسم الثاني: الأماني التي لا تتحقق لأهل الجنة وهي أمانٍ في القبور، وأمانٍ يوم النشور.
فأما الأماني في القبور فإن الصالحين يتمنون تعجيل قيام الساعة والرجوع إلى أهليهم؛ حتى يُبشِّروهم بما لقوا من الكرامة، فحين تسألهم الملائكة فيجيبون على سؤالاتهم يقول الملائكة لكل واحد منهم: ((قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا)) قال في الحديث: ((ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إلى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ))[8]، وفي رواية: ((فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إلى أَهْلِي، وَمَالِي))[9].
وأما أماني يوم النشور فهي الأماني المتعلقة بطلب العودة إلى الدنيا للإكثار من الأعمال الصالحة، وذلك حين يرون عظم الجزاء، وسابغ العطاء لعباد الله الأتقياء.
فيوم يرى الشهيد عظم ما أعَدَّ الله للشهداء في سبيله المخلصين في القتال لأجله؛ يتمنى العودة إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرارًا؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا، فَيُقْتَل عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ))[10]، وفي رواية: ((لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)) [11].
والمؤمنون المعافَون عندما يشاهدون يوم القيامة جزيل الثواب للصابرين على البلاء في الدنيا؛ يتمنون أن لو كانوا لقوا في الدنيا أشد البلاء؛ ليحصلوا على أحسن الجزاء مثل إخوانهم؛ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ))[12].
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: “لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ، إلى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللهِ، لَحَقَّرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إلى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ”[13].
فيا أيها المسلمون، ها نحن اليوم في حياة الأماني، وقادرون فيها على تحقيق تلك المطالب التي يتمنَّاها أهل القبور، ويرجوها الراجون يوم النشور.
فلماذا لا نقبل سراعًا إلى الله وطاعته، ولمَ لا زلنا مقيمين على معصيته، أفلا يكفينا الحديث عن هذه الأماني المردودة عبرة؛ حتى لا نتمناها ولا نعطاها؟
فيا أيها البعيد عن الله أقْبِل، ويا أيها العاصي لا تُسوِّف توبتك بل عجِّل، ويا أيها المُقصِّر في الطاعات سارع ولا تمهل؛ فأنت اليوم تستطيع وغدًا لا تستطيع.
قدِّمْ لنفسك توبةً مرجوَّةً قبل الممات وقبل حبس الألْسُن بادِرْ بها علق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن[14] |
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ رحمه الله: “مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ، آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ، آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلَاسِلَهَا وَأَغْلَالَهَا؛ فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟، قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إلى الدُّنْيَا؛ فَأَعْمَلَ صَالِحًا. قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الْأُمْنِيَةِ، فَاعْمَلِي”[15].
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن يزيد العبدي رحمه الله: “أَتَانِي رِيَاحٌ الْقَيْسِيُّ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، انْطَلِقْ بِنَا إلى أَهْلِ الآخِرَةِ نُحْدِثْ بِقُرْبِهِمْ عَهْدًا. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَأَتَى إلى الْمَقَابِرِ، فَجَلَسْنَا إلى بَعْضِ تِلْكَ الْقُبُورِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، مَا تَرَى هَذَا مُتَمَنِّيًا لَوْ مُنِّيَ؟ قُلْتُ: أَنْ يُرَدَّ وَاللَّهِ إلى الدُّنْيَا فَيَسْتَمْتِعَ مِنَ طَاعَةِ اللَّهِ، وَيُصْلِحَ. قَالَ: فَهَا نَحْنُ. ثُمَّ نَهَضَ، فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ”[16].
نسأل الله أن يجعلنا مِمَّن استمع هذا القول فاتَّبَع أحسنه.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير.
[1] ألقيت في جامع الشوكاني في: 24/ 1/ 1445هـ، 11/ 8/ 2023م.
[2] رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
[3] رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وهو حسن.
[4] أدب الدنيا والدين (ص: 166).
[5] أخرجه ابن جرير في تفسيره، وإسناده صحيح.
[6] رواه الحاكم وابن أبي عاصم وابن حبان بسند صحيح.
[8] رواه الترمذي بسند حسن.
[9] رواه أحمد بسند صحيح.
[12] رواه الترمذي بسند حسن.
[13] رواه أحمد بسند صحيح.
[14] بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 229).
[15] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 26).
[16] ذم الهوى (ص: 597).