{أمة يدعون إلى الخير}


﴿ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

 

قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 104، 105].

 

﴿ وَلْتَكُنْ ﴾ اللام لام الأمر، لما أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هم فيه إلى حسنى ما هم عليه حتى يكون الناسُ أمةً واحدةً خيرة.

 

ولذلك كان هذا الكلام حريًّا بأن يعطف بالفاء، ولو عطف بها لكان أسلوبًا عربيًّا إلا أنه عدل عن العطف بالفاء تنبيهًا على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريًّا بأن يؤمر به فلا يكون مذكورًا لأجل التفرع عن غيره والتبع.

 

وصيغة ﴿ وَلْتَكُنْ ﴾ صيغة وجوب، وهي أصرح في الأمر من صيغة «افعلوا» لأنها أصلها. فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلًا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير، وقد كان الوجوب مقررًا من قبل بآيات أخرى مثل: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3]، أو بأوامر نبوية. فالأمر لتأكيد الوجوب أيضًا للدلالة على الدوام والثبات عليه، مثل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾ [النساء:136].

 

﴿ مِنْكُمْ ﴾ «مِنْ» قيل: إنها بيانية؛ أي: بيان الجنس، وقيل: إنها تبعيضية، وهي تحتملهما معًا.

 

فعلى أنها بيانية يكون المعنى: ولتكونوا أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؛ أي: إن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى -تقدست كلماته-: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ مثل قول القائل: ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد؛ أي: ليكن منك رجل خير ورجل جهاد.

 

فالمعنى أن يكونوا هم الأمة؛ أي: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر أن يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتدّ سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يَجدُّ في شئون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كل في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلًا يرفثُ في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلًا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلًا لا يصلي حَثَّه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لَا بالجفوة والعنف، فإن الجفوة لَا تجدي بل تبعد، والمودة تُجْدي وتُقرِّب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.

 

وأما القول على أن «مِنْ» تبعيضية، فيكون المعنى: ليكن بعض منكم أمة -أي طائفة- تؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير من كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فتوجيهُ الخطابِ إلى الكل مع إسناد الدعوةِ إلى البعض لتحقيق معنى فرضيّتِها على الكفاية وأنها واجبةٌ على الكل لكن بحيث إنْ أقامها البعضُ سقطت عن الباقين، ولو أخَلَّ بها الكلُّ أثِموا جميعًا لا بحيث يتحتَّم على الكل إقامتُها على ما يُنبىء عنه قولُه عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، ولأنها من عظائم الأمورِ وعزائمِها التي لا يتولَّاها إلا العلماءُ بأحكامه تعالى ومراتبِ الاحتساب وكيفية إقامتِها، فإن من لا يعلمُها يوشِكُ أن يأمرَ بمنكر وينهى عن معروف، ويُغلِظَ في مقام اللينِ، ويُلينَ في مقام الغِلْظة، وينكِرَ على من لا يزيده الإنكارُ إلا التماديَ والإصرار.

 

وعلى ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان: أحدهما موجه إلى الأمة كلها، وهو إعداد هذه الطائفة التي تقوم بالإرشاد العام والتوجيه الفكري والنفسي، وتزويدها بكل ما يمكنها من أداء مهمتها، والقيام بالواجب عليها على الوجه الأكمل، وثاني الواجبين هو واجب هذه الطائفة التي تكونت، والوجوب عليها أخص من الوجوب الأول، وكذلك الشأن في كل الفروض الكفائية، فيها وجوبان: وجوب خاص على من عندهم الأهلية الخاصة للواجب الكفائي، ووجوب عام على الأمة كلها، وهو تمكين هؤلاء الخاصة من القيام بواجبهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه.

 

وقد رجح الزمخشري أن تكون «مِنْ» تبعيضية، وقال في ذلك: “«مِنْ» للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يُرتِّب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف، وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه، وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لَا يزيده إنكاره إلا تماديًا، أو على من الإنكار إليه عبث؛ كالإنكار على الجلادين وأضرابهم”.

 

﴿ أُمَّةٌ ﴾ الأمةُ هي الجماعةُ التي يؤمُّها فِرَقُ الناسِ؛ أي: يقصِدونها ويقتدون بها، وقيل: بل أصل الأمة من كلام العرب: الطائفة من الناس التي تؤم قصدًا واحدًا: من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعيَّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم: أمة العرب، وأمة غسان، وأمة النصارى.

 

والأمة في القرآن الكريم وردت على معانٍ متعددة، منها الطائفة، ومنها المِلَّة والشريعة، ومنها الإمامة، ومنها الزمن والسنين.

 

فمثالها في الطائفة أو الجماعة هذه الآية ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [الأعراف: 38] ﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 159] ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181] ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقًا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدًا.

 

ومثالها في المِلَّة [أي: العقائد وأصول الشرائع] قوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22]؛ أي: على مِلَّة، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 51، 52]؛ أي: إن جميع الأنبياء ورسل الله على مِلَّة واحدة ودين واحد.

 

ومثالها في الإمامة: قوله جل ذكره: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل:120]؛ أي: إمامًا يقتدى به.

 

ومثالها في الزمن والسنين: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]، وقوله: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ [هود: 8]؛ أي: بعد زمن أو بعد فترة.

﴿ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ كل إنسان تتوجَّه الدعوة إليه فليدعوه، ولهذا كان المفعول محذوفًا من أجل العموم، والخير كل ما جاء به الشرع فهو خير، ويشمل ما كان خيرًا في الدين وما كان خيرًا في الدنيا، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7].

 

﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ المعروف كل ما عرفه الشرع وأقَرَّه من العبادات المأمور بها فعلًا، وقيل: هو ما يعرف، وهو مجاز في المقبول المرضي به؛ لأن الشيء إذا كان معروفًا كان مألوفًا مقبولًا مرضيًّا به، وأريد به هنا: ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح؛ لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.

 

﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ المنكر ما أنكره الشرع من الأعمال والأخلاق. وقيل: المنكر مجاز في المكروه، والكره لازم للإنكار؛ لأن المنكر في أصل اللسان هو الجهل، ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد؛ لأنهما من المكروه في الجِبِلَّة عند انتفاء العوارض.

 

ولام التعريف في: الخير، والمعروف، والمنكر.. تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة، فيشبه الاستغراق العرفي.

 

وجعل الأمر بالمعروف بعد الدعوة إلى الخير؛ لأن الدعوة سابقة على الأمر، فأنت تدعو أولًا، ثم تأمر ثانيًا، ثم تغير ثالثًا، وهذا يلتبس على كثير من الدعاة، يظنون أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر شيء واحد، والأمر ليس كذلك، فالدعوة إلى الخير عامة؛ الخطيب إذا خطب الناس في الجمعة وأمر ونهى يقال: داعٍ إلى الخير، الرجل إذا قال: يا أخي، صلِّ، اتق الله، يا أخي لا تغش الناس، اتق الله، فهذا أمر بمعروف ونهي عن منكر. ولي الأمر إذا رأى آلة عزف وكسرها هذا تغيير منكر، ولكل درجات.

 

فبعد أن أمر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله تعالى، والاستمساك بالقرآن الكريم، والالتفاف حوله، وعدم التفرق والانقسام – بيَّن سبحانه وتعالى السبيل لهذا الاعتصام، والطريق للوحدة الفاضلة التي لَا تفرق فيها، ولا اختلاف يفكُّ عُراها، ويهدم بنيانها، وذلك السبيل هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

قال أبو السعود: أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشادِه إثرَ أمرِهم بتكميل النفس وتهذيبِها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتًا للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بأن يقومَ بعضُهم بمواجبها ويحافظَ على حقوقها وحدودِها ويذكرَها الناسَ كافةً ويردَعَهم عن الإخلال بها.

 

والدعاءُ إلى الخير عبارةٌ عن الدعاء إلى ما فيه صلاحٌ دينيٌّ أو دنيويٌّ، فعطفُ الأمرِ بالمعروف والنَّهْيِ عن المنكر عليه بقوله تعالى: ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ مع اندراجهما فيه من باب عطفِ الخاصِّ على العامِّ لإظهار فضلِهما وشرفهما وعلوِّهما على سائر الخيراتِ؛ كعطف جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام.

 

والمعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقًا مع الفطرة الإنسانية التي لَا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه، ومهما يحاول الذين يريدون حل المجتمعات الفاضلة وهدم بنيانها، من إنكار لتلك الحقائق، وادعاء أنها ليست مقومات الإنسانية، وأنها اتفاقات زمنية، وأوهام سيطرت على العقول – فلن يصلوا إلى غاياتهم، وإن ادَّعوا أن ما يقولونه هو طبيعة الوجود؛ ولذا سموا أنفسهم وجوديِّين؛ وذلك لأن كلامهم ضد طبائع النفوس، وضد السمو الإنساني عن الطبيعة الحيوانية، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإن الأعرابي الذي سئل: لماذا آمنت بمحمد، فقال: ما رأيت محمدًا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول: لَا تفعل، وما رأيت محمدًا يقول في أمر: لَا تفعل، والعقل يقول: افعل. أكبر إدراكًا من هؤلاء المتفلسفة، وأكثر اتصالًا بطبائع الوجود الإنساني منهم، وهم في حقيقة أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالًا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية. خاصة وأن كل الاتجاهات الوجودية أسقطت العقل وإنتاجه الفكري واعتباره النسخة المزيفة للإنسان.

 

والأمة التي تُقصد وتكون من صفوة الأمة لها عملان متمايزان بنص الآية؛ أحدهما: الدعوة إلى الخير، وثانيهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

أما الأول فهو توجيه الأمة إلى النفع العام، فالخير هو كل أمر نافع في الدنيا أو في الآخرة؛ كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء بوثائِق من الدين والنصوص المحكمة التي لَا تقبل التخلف، وإنشاء المساجد ودور التعلم وتوجيهها التوجيه السليم، فكل هذا دعوة إلى الخير، وبعبارة عامة شاملة الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والأدبية.

 

أما الثاني وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمراد به نشر الفكر الإسلامي، وبيان الحقائق الدينية، وتوجيه النفوس إليها وجذبهم نحوها، ودفع كل ما ليس بإسلامي، وإقامة الحق والعدل، وهو مقام سامٍ لَا يصل إليه إلا ذوو الهِمَّة والتُّقَى من الرجال، وهو شاقٌّ إن أُدِّي على وجهه، بحيث يرشد الحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، لَا يخشى في الله لومة لائم، لَا يحجم إذا كان المنكر من قوي ظالم، ويغلظ ويعنف إن كان المنكر ممن لَا يخشى بطشه ولا يُرجى عطاؤه، ولا يتأوَّل لتصرفات من يخاف شره ويطمع في خيره.

 

فإن كان المرشد على ذلك النحو فقد سار في طريق النبيين، ولقد قال أبو الدرداء: “لتأمرُن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانًا ظالمًا، لَا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وينتصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم”.

 

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تعلو كل مرتبة عن الأخرى بمقدار ما يكون فيها من مشقة وتعرض للعنت مع الجدوى والفائدة؛ ولذا كان أعلاه ما يوجه إلى الجائرين من الحكام والأمراء؛ فروى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)، وبذلك اعتبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه المرتبة جهادًا.

 

واعتبر من يقتل في سبيلها شهيدًا، كمن يقتل في الحرب، بل اعتبره في أعلى درجات الشهداء، فعن جابر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)؛ [الحاكم، وفي صحيح الجامع: حسن].

 

وإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وخصوصًا للأمراء والحكام- هو الذي أضاع المسلمين في الماضي، وأضاع بني إسرائيل قبلهم، ففي سنن أبي داود عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 78] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 81]، ثُمَّ قَالَ: (كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا) وفي زيادة (أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)؛ [ضعيف].

 

ولما كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتوقُّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التغيير، وإفهام الناس ذلك، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسموا تلك الولاية بـ «الحسبة»، وقد أولى عمر بن الخطاب في هاته الولاية أم الشفاء، وأشهر من وليها في الدولة العباسية ابن عائشة، وكان رجلًا صُلْبًا في الحق، وتسمى هذه الولاية في المغرب: «ولاية السوق» وقد ولياها في قرطبة الإمام محمد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشج من أصحاب ابن القاسم توفي سنة 220. وكانت في الدولة الحفصية ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربما ضمت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصية.

 

﴿ وَأُولَئِكَ ﴾: فيه من معنى البُعْد للإشعار بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل.

 

﴿ هُمُ ﴾: ضمير فصل يفصِلُ بين الخبر والصفةِ، ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه.

 

﴿ الْمُفْلِحُونَ ﴾: الناجون من الكربات، الحاصلون على المطلوبات، ففيه أمران: «سلامة، وكسب»؛ ولهذا تعتبر كلمة «الفلاح» من أجمع الكلمات، فالمفلح هو الفائز بمطلوبه الناجي من مرهوبه.

والتعريف في ﴿ الْمُفْلِحُونَ ﴾ إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرِفُه كلُّ أحدٍ من حقيقة المفلحين.

 

وهو تبشير عظيم، ووعد كريم لمن اتَّصَف بما قبل هذه الجملة.. أي أولئك الذين قاموا بهذا الواجب هم الأحِقاءُ بكمال الفلاحِ، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب، ففي النص قصر؛ أي: نفي وإثبات، فهو يثبت الفلاح لهم، وينفي الفلاح عن غيرهم ممن لم يقم بهذا الواجب المقدس، فهو مناط عزة الأمة ورفعتها وقوتها وتقدمها، ونشر العدل والحق والإيمان في ربوعها.

 

والإشارة هنا إلى الأمة كلها سواء اعتبرنا (مِن) بمعنى بعض؛ أم اعتبرناها بيانية، وإذا كانت بيانية فالأمر ظاهر لَا يحتاج إلى بيان؛ لأن الأمة هي في جملتها الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، الداعية إلى الخير، وأما على أن الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر هي طائفة معينة من مجموع المؤمنين، فإن النتيجة من حيث الفوز والفلاح لَا تعود على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحدهم، بل الفائدة تعود عليهم أجمعين؛ إذ إن ضرر الترك يعود عليهم أجمعين، وإنه لا نجاة للأمة إلا إذا تواصَوْا بالحق وتواصَوْا بالصبر، وتواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ضرب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلًا لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوم يركبون سفينة، ووجدوا واحدًا يخرق السفينة، فإن تركوه غرق وغرقوا معه، وإن أخذوا على يده نَجا ونجوا معه.

 

والمقصود من هذه الآية أن تكون فِرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْري: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ).

 

وروى مسلم عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ).

 

وروى أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ).

 

ثم بعد أن بيَّن سبحانه وجوب الاعتصام بحبل الله، وأن الاعتصام به مدعاة الوحدة والقوة والاجتماع على الحق، وبيَّن طريقه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى نتائج التفرُّق ناهيًا عنه، محذرًا منه، مبيِّنًا نتائجه في الدنيا والآخرة، وأول نتائج التفرُّق هي العمى عن الحق مع وضوحه وقيام البيِّنات عليه.

 

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ تفرقوا في أبدانهم ولم يجتمعوا، وصاروا أحزابًا، واختلفوا في قلوبهم وفي مناهجهم، فصار لكل حزب منهج معين يفرح به ولا يتزحزح عنه، ويرى أن من سواه على ضلال.

 

وقدم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف عِلَّة التفرق، وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارنتها، وفي عكسه قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282].

 

وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُفضي إلى التفرُّق والاختلاف؛ إذ تكثر النزعات والنزغات، وتنشق الأمة بذلك انشقاقًا شديدًا.

 

﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ البيِّناتُ على قول ابن عباس: “آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل مِلَّة”، وقيل: الدلائل التي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قُيِّضت لها أفهام.

 

فنهى سبحانه وتعالى بهذا عن التفرُّق بأبلغ تعبير، وألطف إشارة، فقد كان النهي عن أن يكونوا كمن سبقوهم في التفرُّق، وذلك نهي مع الدليل الموجب للنهي، والغاية التي ترتبت على النهي عنه، وذلك بالإشارة إلى ما كان ممن سبقوهم؛ إذ تفرقوا أحزابًا وَشِيَعًا كل حزب بما لديهم فرحون، فتفَرَّق اليهود طوائف، وتفَرَّق النصارى طوائف مثلهم، وكل طائفة تُكَفِّر الأخرى، أو ترميها بالزيغ والضلال، وقد ترتب على التفرُّق وتوزُّع أهوائهم ومنازعهم أن اختلفوا في إدراك الكتاب مع وضوحه، ومع ما جاءهم من البيِّنات الموضحة المبينة التي قامت مثبتة للحق، وهو واحد لَا يتعَدَّد، وإن ذلك فيه بيان نتيجة التفَرُّق، وهو الاختلاف مع وجود الحق، وهو تأكيد لمضمون النهي؛ لأنه إذا كان التفرُّق مؤديًا إلى استبهام الحق أمام المختلفين مع وضوحه في ذاته، فإن الافتراق في ذاته أمر قبيح، وإن هذه الصيغة فوق ذلك فيها الاعتبار بمن سبقوا، ووضع صورة واقعية لنتائج الافتراق.

 

ولذا كان قوله تعالى: ﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقوا ﴾ أكثر معاني من (ولا تتفرفوا) وهي في هذا المقام أبلغ وأبْيَن، ولأن الآيات السابقة فيها كلام عن أحوال اليهود والنصارى، ومناقضتهم للحقائق الإسلامية، ومحاولتهم تضليل المسلمين عن الحق الصريح، فكان من المناسب أن يُشار إلى حالهم، ونتائج تفرُّقهم، وإعراضهم عن الحق بعد إذ تبين لهم.

 

وقد يقول قائل: إن الاختلاف يؤدي إلى التفرُّق مع أن ظاهر الآية أن الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف، ونقول في ذلك: إن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدي إليه هو اختلاف تفكير، ولا بد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون، وأما الاختلاف الذي يؤدي إلى الافتراق، فهو بلا شك يؤدي إلى الضلال، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرْق معين، وكذلك التفرق السابق على الاختلاف، فإنه يكون نوعًا من تحكم الهوى، أو العصبية النسبية، أو العصبية الإقليمية، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية، فلا تستقيم الحقائق، ولا تدركها العقول مع قيام البينات.

 

قال ابن عاشور: وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق، هو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضًا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبينة على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار، وهو المعبر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقًا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة.

 

﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾: وهو بيان منه سبحانه لنتائج هذا الضلال في الآخرة. وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهي الثابتة بقوله تعالى: ﴿ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.

 

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِاللهِ بْنِ لُحَيٍّ، قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً – يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ -، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ) وَاللهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ؛ [إسناده حسن].

 

قال الرازي – عفا الله عنه-: اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين؛ أحدهما: أنه عابهم على الكفر، فقال: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ ﴾ [آل عمران: 98]، ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر، فقال: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 99] فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولًا بالتقوى والإيمان، فقال: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ [آل عمران: 102، 103]، ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ [آل عمران: 104]، وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل.

 

وفي الآية مسألتان:

المسألة الأولى: في قوله: ﴿ مِنْكُمْ ﴾ قولان أحدهما: أن (مِنْ) ههنا ليست للتبعيض لدليلين؛ الأول: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110].

 

والثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية: كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة (مِنْ) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض؛ كقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [الحج: 30] ويقال أيضًا: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر، يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا ههنا، ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبًا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾ [التوبة: 41]، وقوله: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [التوبة: 39]، فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.

 

والقول الثاني: أن (مِنْ) ههنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضًا على قولين أحدهما: أن فائدة كلمة (مِنْ) هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين.

 

والثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان: الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديًا، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122].

 

والثاني: أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة هذا إيجابًا على البعض لا على الكل، والله أعلم.

 

وفيه قول رابع: وهو قول الضحاك: إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعلم الدين.

 

المسألة الثانية: هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء، أولها: الدعوة إلى الخير، ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة، فنقول: أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته، وتقديسه عن مشابهة الممكنات، وإنما قلنا: إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا؛ لقوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].

 

إذا عرفت هذا فنقول: “الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر، فذكر الجنس أولًا، ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمذكورة في كتب الكلام”.

 

فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته. فهناك «دعوة» إلى الخير؛ ولكن هناك كذلك «أمر» بالمعروف، وهناك «نهي» عن المنكر، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان، فإن «الأمر والنهي» لا يقوم بهما إلا ذو سلطان.

 

هذا هو تصوُّر الإسلام للمسألة، إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى، سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، سلطة تتجَمَّع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر، وتحقيق هذا المنهج يقتضي «دعوة» إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج، ويقتضي سلطة «تأمر» بالمعروف «وتنهى» عن المنكر؛ فتطاع، والله يقول: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان، فهذا شطر، أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوُّره، زاعمًا أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!

 

والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِنْ ثَمَّ تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم، وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المُتسلِّط، وفيهم الهابط الذي يكره الصعود. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد، وفيهم المنحل الذي يكره الجد، وفيهم الظالم الذي يكره العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف، ويعرفون المنكر، ولا تفلح الأمة، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفًا، والمنكر منكرًا، وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى وتطاع.

 

ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين: الإيمان بالله، والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف، وجعل القيام به شريطة الفلاح، فقال عن الذين ينهضون به: ﴿ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة:5].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
When the C.I.A. Messes Up – The New Yorker
Book Review: What Happened to You? Conversations on Trauma, Resilience, and Healing by Bruce D. Perry and Oprah Winfrey – Bibliotheca Alexandrina