أنوثة اللغة عند الشيخ “عبدالقاهر الجرجاني”


أنوثة اللغة عند الشيخ “عبدالقاهر الجرجاني”

 

مقدمة المقال:

ليس بدعًا أن نَسِم لغة الشيخ “عبدالقاهر الجرجاني” في مؤلفه الموسوم بـ(أسرار البلاغة) بالأنوثة، فاللغة كائن حي، وسمت بالمذكر والمؤنث، والمستعمل والمهمل، والغريب والدخيل، والشارد والمألوف، والتهذيب، والجمهرة، ولها مقاييس وخصائص، وسلامة وصحة وفساد، وتشاقيق وتصاريف وكأنها أم تلد وتنجب، كما وُسِم علماؤها بـ(أهل اللغة، أصحاب اللغة، أرباب اللغة)، ورُوعيت علائق جوارها كما يراعي الإنسان حقَّ جاره، فالإتباع في الحركة الإعرابية مراعاة للجوار مُقدَّم على القياس رعاية للتناسب والتشاكل والتضام والأُلْفة بين تراكيب الأبنية، وتُجاور الحركة الإعرابية الحرف المناسب لصوتها المنطوق، ويحمل الجمع على نظيره في البناء وهكذا.

 

إن الأنوثة في وصف لغة الشيخ أنوثة العاطفة ورقَّتها، ورهافة الحس، ولطافة الروح مع فحولة الفكرة، أنوثة تستهوي القارئ بجمال المعاني ورشاقتها، والتغزل في الأساليب، فتجد الإحساس العالي روحًا، والأصوات المستساغة سمعًا، والمناقشات الهادئة المثمرة، والغزل العفيف، والأحاديث المحتشمة، فالمرأة حاضرة في عقل الشيخ روحًا وصوغًا في تراكيبه؛ ولذا برئ أسلوبه من الجفاف والتعقيد، والجمود والحزونة، لقد أوحت المرأة إلى الشيخ بالجمال والإبداع والرقة، فخلص أسلوبه العلمي من الجفاف والتقريرية والمباشرة، فهو مُحِبٌّ لما يكتب، فلم يؤلف نَيْلًا لشهرة، أو طمعًا في جاهٍ أو ثروة، أو لحوقًا بالركب، أو تكثيرًا لمؤلفاته بل ألَّف إخلاصًا للعلم وحبًّا له، هو يكتب للحبيب/المتلقي فأبدع، ورقَّت كلماته، وكأنه كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فقد انصرفت الناشئة عن دراسة البلاغة العربية؛ لما يوجد في بعض تآليفها من جفاف المنطق، ووعورة التعبير، ومع كون الشيخ لُغَويًّا غزير الإنتاج في اللغة، واللُّغَوِيُّون تمتاز كتاباتهم بالحدة والإحكام؛ لأنهم يُقعِّدون اللغة ويعيدون ترتيب مسائلها إلا أن الشيخ لم تَتَبَدَّ هذه السمة في تأليفه للبلاغة العربية، فهو طراز فريد جمع في أسلوبه بين الإمتاع والإقناع.

 

إن الأنوثة في لغة الشيخ مرادفة للجمال: جمال داخلي ينبع من نفسه، وجمال خارجي جرى على لسانه غزلًا بمسائل العلم، فلا يسرد قواعدَ، ولا يفرض رأيًا بل يسهم في تشكيل وعي المخاطب بجمالية اللغة، ووجوب حياطتها وصونها، ومعاملتها معاملة القوارير، وكأنها الياقوت والمرجان، فالبلاغة علم، ولكنها تختلف عنه لغةً وتعبيرًا، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بشخصية منتِج هذا العلم وحامله، ولغة الشيخ في استشفاف أسرار البلاغة لغة شعرية خيالية، هاربة من الأُطُر المألوفة في التفكير والفهم، تتعدد تفسيراتها ومستوياتها وتأويلاتها؛ لشدة خصوبتها وثرائها، لغة قادرة على تفعيل المعرفة في الوعي الجمالي الذي لم يخصه بالدرس البلاغي بل طبقه على التفضيل الجمالي المادي أيضًا، وتوغل به إلى ميدان الجهاد الذي رمز إليه بالسيف والقلم؛ يقول: “وإنَّ الخِلْقَةَ إذا أكثر فيها من الوَشْم والنقش، وأُثْقل صاحِبُها بالحَلْي والوَشْي، قياسُ الحَلْي على السيف الدَّدَان، والتَوسُّعِ في الدعوى بغير بُرْهان”[1].

 

هذا النص يمكن أن يُعَدَّ قانونًا عامًّا في علم الجمال، فالبلاغة عند الشيخ ذات شقَّيْن: الأول: اجتماعي يهذب الذوق العام، ويرقى بإدراك المخاطب، والثاني: علمي، يعلم البلاغي الناقد وضع اليد على الأسباب والعلل، فيبرهن للنقد، ويعلمه كشف مواطن الجمال، ويهدف من ناحية أخرى إلى إقناع المخاطب والتأثير فيه واستمالته، وهذا أسلوب نافع في الدعوة، وبانٍ جسورًا معرفية بين بني البشر ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، ولن يحدث هذا التعارف إلا بحسن بيان يرتفع له حجاب السمع والقلب، وينزع حُمَّات السخائم والحقود، ويصل ما انقطع من الأنساب، ويعد النفوس ويزكيها لحمل الأمانة، وقد وعي الشيخ ما لحسن البيان من أهمية فوشى بيانه وحبَّره وحرره، وارتفع به عن المغالاة والتكلف لرصد فنون البديع بل أرسل معانيه على سجيتها تخطب لأنفسها ما يليق بها من أكفاء الألفاظ، يقول: “ولن تجد أيمنَ طائرًا، وأحسنَ أوَّلًا وآخرًا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلبَ للاستحسان، من أن تُرسل المعاني على سجيَّتها، وتَدَعها تطلب لأنفسها الألفاظَ، فإنها إذا تُركت وما تريد لم تكتسِ إلا ما يليق بها، ولم تَلْبَسْ من المعارض إلا ما يَزِينها”[2].

 

المرأة رمز في بيان الشيخ، حاضرة مكنى عنها بصفاتها، فهي تكره القسوة، وترغب عن القهر، وهكذا الجمال البلاغي يرفض القسر والقهر، ويتحرر من الأغلال إلا قيود الصحة اللغوية والسلامة التركيبية، إن علاقة الألفاظ بالمعاني عند الشيخ علاقة حية إنسانية، ورى بعلاقة المرأة بالرجل في قوله: “ولن تجد أيمنَ طائرًا”، فهذا التعبير وصف به رسول الله – صلى الله تعالى عليه وسلم- حينما خطب السيدة “عائشة “- رضي الله تعالى عنها – كما عرض بحق المرأة وحريتها في اختيار شريكها وعدم قسرها أو إجبارها، يقول: “…تُرسل المعاني على سجيَّتها..” فهو يثق بفطرتها واختيارها، ويقول: “وتَدَعها تطلب لأنفسها الألفاظَ” الألفاظ مذكر وهي لا تفيد حتى تركب مع ما تأتلف معه، وتسكن إليه في علاقة ضم ونسب واقتران، وهو كناية عن حق المرأة في اختيارالزوج الموافق لطبيعتها، والمناسب لخلالها وخلائقها، فعلاقة الألفاظ بالمعاني علاقة نسب وخيرة، والمجتمعات السليمة تأبى أن تقسر المرأة على زوج، وتترك لها حرية الاختيار، وقوله: “فأما أن تضع في نفسك أنه لا بد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم”[3] كناية عن عدم التكلف والتعمل، ورمز إلى نوعية الخطاب الذي تحب المرأة أن تُخاطب به وتسمعه، وهو خطاب الاسترسال، المرسل على سجية الطبع، البعيد عن التعمل والتصنع والتكلف، والخداع بالتزويق.

 

“عبد القاهر” ظامئ، يسطر العلم بروح الأدب والفن خالعًا عليه من رهافة حسِّه، وفيض مشاعره مستحضرًا المرأة رمز الجمال نصب عينيه في كتاباته، يتأنق ويترقق في غير أنوثة، عرض العلم بحيوية الأدب الغزلي وجاذبيته، فيكتب من شاعرية وجدانه، يتفنن ويبدع في تصوير معانيه وإشاعة الحياة فيها، فإذا هي قطع فنية من حيث العرض والتصوير، علمية من حيث اعتمادها على دعائم الفكر، أدَّب العلم، فطعمه بروح العلم، وعرضه بحيوية الفن وجاذبيته.

 

التأليف عند الشيخ مرتبط بالإبداع؛ ولذلك ارتفعت كتاباته عن النمطية والتكرار لأساليب موات لا تتسم بالحيوية والحركية والازدهار، فهو قائد علم الجمال البلاغي؛ وذلك لما يتميز به أسلوبه من قوة انفعالية تترك أثرًا قويًّا في السامع، تستثير عقله، وتُنبِّه خياله؛ للجدة والطرافة والإدهاش الذي يبدأ من حاسة السمع محدثًا حركة في العقل ونقلة تبدأ ولا تنتهي؛ ليتولد عنها الإكبار والإعجاب والإقناع (الاستمتاع والفائدة)، وهذه النشوة والشعور بالجمال يكمن في جانبين: جانب عقلي يمكن الحكم فيه على حقائق العلم التي ضمها مؤلف الشيخ بالصواب أو الخطأ، ومراجعتها وضبطها، وجانب وجداني متروك للمتلقي وذوقه، ولا سبيل فيه إلى الحكم بصواب أو بخطأ أو ضبط أو إحكام، فقيمة الجمال تنبع من تقديرنا للشيء، وتفضيلنا له، الجمال يرتبط دائمًا بالجانب الممتع أو السار أو المريح، وحكمنا عليه، ورغبتنا فيه، وبذلك يكون الشيخ بعث الحياة في الدرس البلاغي.

 

إن الأدب والإبداع (البلاغة) والمرأة أمور شديدة التركيب، فلا إبداع في الأدب إلا وللمرأة دور في بعثه أو تشكيله أو تركيبه؛ ولهذا كان أديب العربية “مصطفى صادق الرافعي” – رحمه الله تعالى – إذا أراد أن يبدع، ويُلهَم، ويجلو خاطره، ويصقل نفسه راح يفتش عن الحب، “راح يفتش عن “واحدة” يقول لها: تَعَالَيْ نتحابّ؛ لأن في نفسي شعرًا أريد أن أنظمه، أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها”[4]، ولم تنقل كتب التراجم والسير عن الشيخ “عبدالقاهر الجرجاني” مثل هذا، ولكن لغته الشاعرة في بيانه توحي به وتعرب عنه، ليُنظر إلى مطلع حديثه في “التمثيل”، يقول: “واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه، أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهة، وكَسَبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا”[5]. يميل العقل الإنساني إلى تفسير المعنى في ضوء علاقته بالمعاني الأخرى المحيطة به والمتفاعلة معه؛ ولذلك نَبَّه الشيخ وقرر إلى اتفاق العقلاء على ذلك، والسمات الجمالية التي تكتسبها المعاني بفضل وجود التمثيل دلالاتها رمزية، تقع في مستوى الشعور (الوعي) واللاشعور (اللاوعي) تحت مظلة الخيال، فيحدث الإبداع الذي يحتاج إلى التفسير العقلي بالضرورة؛ لنتعرف على الميزات والخصائص الكامنة في المعاني، فكيف تكتسى أُبَّهة؟ وتكتسب منقبة، وترفع من أقدارها، ويشب من نارها؟ إن الإبانة عن مزايا التمثيل بأسلوب التغزل في المعاني – والمعاني في لغتنا مؤنثة – رمز إلى التفضيل الجمالي الذي يستدعي مشاعر الاستحسان والإعجاب والميل؛ فتفضيلات الذكور- غالبًا – تعتمد على الشكل، وقد ألبس التمثيل المعاني أبهى حلل، وأونق وشي، وهنا تكمن الاحتمالات الإبداعية واللانهائية للسمات التي تجعل التمثيل محسنًا معنويًّا ولفظيًّا في آنٍ واحدٍ، والطاقات الهائلة للتنوُّع والتعدد، والتجلي والخفاء في الوقت نفسه، فما الذي يستثير للمعاني من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؟ إن هذه الاستثارة الجمالية استثارة متجددة الحدوث، تتعدد وتتنوع تبعًا لاختلاف المخاطبين، ولكن ما السمات التي تتجلى فيها هذه التجربة الجمالية؛ ليضمن لها بقاء الاستثارة وتحريك النفوس؟ عزا الشيخ أصل هذا الجمال إلى العقل عندما اشترط أن يؤول المعنى الممثل به إلى العقل، وأن يحوج إلى الفكر، وتحريك الخاطر، وبذلك يفك الشيخ قيود الجمال المقصورة على الشكل الخارجي، ويبعثها متجددة حية في المضمون الذي تتعاقب عليه الأجيال، فينظر كل منهم إلى الجمال من زاويته التي تختلف عن رؤية غيره، ولكنها تتفق في النهاية على التفضيل الجمالي، وتوظيف المعاني للشعور بالإمتاع والإقناع.


[1] أسرار البلاغة، ص9.

[2] السابق نفسه، ص 14.

[3] السابق نفسه، ص 14.

[4] حياة الرافعي، محمد سعيد العريان، ص73، مؤسسة هنداوي 2020م.

[5] أسرار البلاغة، ص 115.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
المجدي، بحوث في الوصية ومنجزات المرض وإقرار المريض، تقرير بحث السيد البروجردي
بطلان الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار (PDF)