إدارة نبي الله سليمان لمملكته في القرآن
إدارة نبي الله سليمان لمملكته في القرآن
تناولت سورة النمل الحديث عن عصا موسى، وأوضحت أنها لم تأطر الناس على اتباع الحق ولم تكن آية واحدة بل تسع آيات، ولم ينتفعوا بها، فكانت هذه القصة توطئة للحديث عن نبي الله سليمان، وكيف أن الله مكَّنه، فأخضع الناس للإسلام على يديه حتى ملكة سبأ بما أعطاه الله من مواهب ومعجزات تفوق قدرات البشر؛ كتواصله من النمل والطير والجان، فكأن ذلك إشارة إلى أن الحضارات المادية التي يصنعها الإسلام والتقدم التكنولوجي أو المعجزات الخارقة قد تُلْهِم بعض الناس وليس كل الناس كي ينظروا للإسلام بمنظور يحملهم على الإيمان به، وكأنهم يأطرون إليه أطرًا، وذلك حين يرون شكر المسلم لربه كما كان حال سليمان، بينما ترى آخرين لا يلهمون بذلك؛ بل تجدهم أكثر جحودًا واستكبارًا؛ كفرعون وقومه، وذلك راجع إلى الطبيعة النفسية لهؤلاء البشر وليس إلى الطبيعة المادية للمعجزة النبوية أو الجهد البشري الذي يبذله المسلمون لتعمير الكون، فملكة سبأ أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، في حين استكبر قوم فرعون على الحق وعلوا عنه، وكذلك انحرفت فطرة بني إسرائيل.
وقد وقفت سورة النمل عدة وقفات في إظهار سليمان وهو يدير مملكته، فاستظهرت علمه وقوَّته وضبطه وربطه وقيادته وانفعاله لرؤية الباطل أو السماع عنه، والتحرك لاستنقاذ الناس من عبادة الشيطان، وعدم قبوله للمساومة أو الرشوة في دين الله، واستعانته بالله فيما سخره له من قدرات خارقة للعادة، وحيلته لاختبار ملكة سبأ.
وفي هذا السياق عرفت الآيات بنبي الله سليمان؛ فهو من نسل نبي الله داود، كما حكت ما فعله نبي الله سليمان في ثلاثة مواقف، الأول مع النملة، والثاني مع الهدهد، والثالث مع ملكة سبأ.
تمهيد:
التعريف بنبي الله سليمان بن داود:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 15، 16].
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾؛ أي: العلم بالله وبصفاته، فهو أشرف من غيره، وهذا العلم حاصل لجميع المؤمنين لكن الله فضلهما بمزيد من العلم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمؤمنين: ((أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ))، وكان يقول: ((إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا))[1]، قال العلماء: (وهو ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض)[2]؛ ولذلك بوَّب البخاري بابًا بعنوان (بَاب قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225])[3].
قوله: ﴿ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فحمد الله هو نتيجة تحصيل العلم؛ لأن الحمد عمل، والعلم لا بد وأن يؤدي إلى العمل به، وكل علم لا يتوصل به إلى حمد الله فليس بعلم، نقل ابن كثير في تفسيره: (إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان حَمْدُه أفضل من نعمته)[4]، قال الشوكاني: (والعطف هنا على محذوف والتقدير: (ولقد آتيناهما علمًا فعملا به وقالا الحمد لله)، (ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقًا بعمل القلب؛ وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية)[5].
قوله: ﴿ فَضَّلَنَا ﴾: قال العلماء: وجه التفضيل (علم القضاء، والعلم بكلام الطير والدوابِّ) [6]، لكن للرازي رأي آخر؛ وهو أن الله فضلهما بالعلم عن الله وصفاته، بحيث يصير المرء مستغرقًا فيه، فلا يخطر بباله شيء من الشبهات، ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان، ولا ساعة من الساعات)[7].
وقد فهم سليمان ذلك فقال: ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]؛ أي: أن ترى الله في كل نِعَمِه التي أنعم بها عليك فتزداد شكرًا.
قوله: ﴿ فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: قال الرازي: (لم يفضلا أنفسهما على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع)[8]، وتخصيص ذلك بالمؤمنين؛ لأن المؤمن مفضل عن الكافر بإيمانه بالله، وهذا ظاهر، وإنما التفاوت حاصل بين المؤمنين في النعم، فيكون التفاضل بينهم بحسب الشكر عليها؛ أي إن الله فضلهما بالإعانة على الشكر كما فضلهما بالنعم.
قوله: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾؛ أي: ورث سليمان العلم من داود عليه السلام؛ لأن الأنبياء لم يورثوا أي شيء من الدنيا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ علم الدين منهم نال الفضل والمنزلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))[9].
قوله: ﴿ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴾: كان من جملة ما تعلمه منطق الطير، وفي ذلك كناية عن علمه غير ذلك، يقول ابن عاشور: (والاقتصار على منطق الطير إيجاز؛ لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان، وأسرعها نفورًا منه، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطًا بالإنسان حاصل له بالأحرى)[10].
ومن الطريف أن نعلم أن الطيور تحذر الحيوانات في الغابات التي تعيش معها من خطر قريب، والحيوانات عندما تعلم من الطيور اقتراب إنسان أو حيوان مفترس تسرع في الهرب، فتغريد الطيور هو وسيلة لتحذير الحيوانات الصديقة من اقتراب الحيوانات المفترسة، وصوت التحذير يكون ثابتًا وبدرجة ملحوظة، ويختلف صوت التحذير عند اقتراب الحيوان المفترس على الأرض من نوع لآخر، وهكذا علم الله الطير وظيفته ويسَّره لها.
وذلك يعني أن نبي الله “سليمان” كان يملك شبكة استخبارات واسعة على بقاع الأرض لتواصُله مع الطير، فالرؤية من العلو تكشف معلومات استخباراتية بدقة، والقدرة على التحليق لمسافات تزيد من كمية المعلومات، فإذا ما تعلم سليمان منطق الطير، استطاع مناقشة الطير، فلم يُسلم بالمعلومة التي تأتيه وحسب، وإنما يقوم باستقصائها وتحليلها ومراجعتها مع الطير ليستفهم أهميتها وكيفية توظيفها، فكل مُيَسَّر لما خُلِق له.
وقوله: ﴿ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ أي: إن حاله مثل حال الملوك وأكثر، كما كان ذلك هو حال ملكة سبأ عندما نقل الهدهد المعلومة الاستخباراتية بشــــــأنها فقال: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]، فكلاهما أوتي من كل شيء كما يعيش الملوك، لكن ملك سليمان يفوق كل ملك، ولا ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن لأحد من قبله؛ لقوله: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]، وذلك من باب الابتلاء والاختبار، لينظر الله أيشكر أم يكفر؛ ولذلك لم يكفَّ سليمان عن شكر ربِّه.
وقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾، وهكذا تكون النعمة جزء من الابتلاء، ويكون الشكر الواجب محل الجواب، فيحصل الفضل بالتوفيق للشكر، قال الزمخشري على القول أطلق على سبيل الشكر والمحمدة[11].
القصة الأولى:
سليمان والنملة:
قال تعالى: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 17 – 19].
قوله: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾: (أخبر الله عن مسير سليمان بجنوده من جميع الكائنات التي سخَّرها الله له من الجن والإنس والطير، وانتظامها في صفوف أي جنود توزع وتُساق بانتظام، بحيث لا يتقدم بعضها بعضًا فيرد دائمًا أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على وادي النمل)[12]؛ وذلك لأن الجيوش تقاتل كما تتدرب، وليس معنى أنها في حالة سلم أن تركن للراحة والدعة، فالجيوش كلما تحركت زادت سرعتها وقدرتها القتالية، وكلما ركنت ضعفت.
والحكاية عن انتظام جيش سليمان وحشره بهذه السورة يمهد للحديث في آخر السورة عن حشر الناس يوم القيامة أمام الله مالك الملك ذي القوة والجبروت؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 83]، ليعلم الناس أن الملوك في الدنيا لا يخلدون، ولو كانوا أنبياء وصالحين ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87].
قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ ﴾؛ أي: لما أتى الجيش على وادي النمل حصلت قصة، والنمل حضارة من الحضارات القائمة على مدار التاريخ، ويبني مستعمرات ضخمة تحت الأرض بالنسبة لحجم النمل قد يسكن فيها ملايين أو عشرات الملايين من النمل في المستعمرة الواحدة، وكأن مستعمرة النمل دولة بأكملها، ويُبنى لها طرق وسكك وبيوت، كل ذلك حمل العلماء الذي اكتشفوا تلك المستعمرات على الانبهار.
والتعبير بوادي النمل يدل على أن النمل يبني حضارة هائلة وأودية عظيمة تحت الأرض، وهذا ما اكتشفه العلماء، اكتشفوا أن للنمل قرى مبنية وفق مقاييس معمارية في منتهى الدقة والإتقان على شكل ممالك يتوفر فيها كل متطلبات العيش من حماية ورعاية وأمن واستقرار، وقد بُني معظمها تحت الأرض وعلى شكل وديان وتشغل مساحات واسعة من الأرض يقدرها العلماء بثلاثين فدانًا حسب آخر اكتشاف علمي لهم وبعمق (10) أمتار، حيث تكون درجة الحرارة مناسبة له طيلة أيام السنة، وقد زود الله النمل بمهارة فائقة لصيانة أعشاشه من كل ضار[13]، وأعطاه خلقه وشكله وزوَّده بالأجهزة المناسبة ثم هداه إلى العمل الذي يتناسب وحياته دون ملل أو كلل، قال تعالى: ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50].
قوله: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ذكر القرآن قول النملة نقرؤه في القرآن إلى يوم القيامة؛ مما يدل على حرص الإسلام على نقل الطاقة الإيجابية من النمل إلى البشر ليقتدوا بهذه النملة التي دلت قومها على ما يحميهم من سليمان وجنوده أثناء سيرهم.
وهذه الإيجابية لن نلحظها فقط في النملة؛ وإنما في الهدهد كذلك، فكل جيش سليمان يعيش في حالة معنوية مرتفعة، وكل واحد منهم يقوم بواجبه نحو المجتمع الذي يعيش معه، ولا يبخل على غيره بالإرشاد أو النصيحة، والنملة أدركت أنه جيش سليمان وعرفته، كما عرفت أنه لا يقصد إيذاءهم، وفي ذلك دليل على وعي الحشرات من حولنا بنا وبحركتنا؛ بل وتمييز الطيب من الخبيث منا، وأعذرته بأنه إن وقع من أحد جنوده ما تخاف منه، فهو ولا شك بدون قصد، ولن يشعر بها لضآلتها؛ إذ لو شعر لامتنع عن إيذائها، فالمسلم لا يؤذي حتى نملة، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِن الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِن الْأُمَمِ تُسَبِّحُ))[14].
قوله: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾: لم تعلم النملة أن الله علَّم نبيَّه سليمان كيف يسمع صوتها، فلما سمع مقالتها انبهر بنعمة ربه عليه، الأمر الذي أشعره بواجب الشكر والاستزادة منه، فالانبهار بنعم الله إذا اتصل بالشكر يؤدي إلى رقة في القلب وراحة في البال، ويحث على الاجتهاد في الذكر، فيزداد المسلم بنِعَم الله إيمانًا.
والتبسُّم خُلُق الأنبياء، ويعني الفرح دون مبالغة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ)[15]، وذكر ابن جزي سبب تبسمه فقال: (تبسَّم لأحد أمرين: أحدهما سروره بما أعطاه الله؛ والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإن قولها هم لا يشعرون: وصف لهم بالتقوى، والتحَفُّظ من مضرة الحيوان)[16].
قوله: ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ [النمل: 19] [17]، قال ابن قتيبة: (الأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء، ويقال: فلان موزع بكذا؛ أي: مولع به) [18]، قال ابن القيم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موزعًا بالسؤال؛ أي: مولعًا به)[19]، قال الزمخشري: والمعنى (أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرًا لك)[20].
وهكذا لا يؤجل المسلم شكر نعمة ربه عليه، فهو يشكر الله على كل حال، وقبل أن تنقضي لذته بالنعمة، وهكذا يحتاج الشكر إلى إعانة المُنْعِم على المنْعَم عليه، وهكذا يشعر المؤمن بالفرحة بأن الله أعانه على الشكر كما أنه يفرح بنعمة الله عليه.
قوله: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ [النمل: 19]، قال الرازي: (ولما كان الإنعام على الآباء إنعامًا على الأبناء؛ لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن، لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء)[21]، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))[22].
قوله: ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ (التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ)[23]؛ أي: يستمر عمله الصالح بلا انقطاع حتى يلقى الله فيرضى عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسله قبل موته))، قيل: وما عسله قبل موته؟ قال: ((يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضى عنه))[24]، (فشبه الله عمله الصالح بالعسل، وكأنه انغمس فيه، فأصبح معسولًا به) [25].
قوله: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾، فالأنبياء ورغم قرب منزلتهم من الله، فإنهم يفتقرون جميعًا إلى رحمة الله تعالى، والأعمال قاصرة عن إدراك الجنة لولا رحمة الله تعالى، وهكذا دأْبُ الصالحين، فيظهر تأدبهم في دعاء الله، كما كان عبدالله بن مسعود يكثر أن يدعو بهؤلاء الدعوات (ربنا أصلح بيننا واهدنا سبيل الإسلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتُبْ علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قائلين بها، وأتممها علينا)[26].
القصة الثانية:
سليمان والهدهد:
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 20 – 28].
قوله: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ من واجبات القائد للجيش أن يقوم بالتفتيش الميداني بنفسه، ونبي الله سليمان كقائد عليه أن يتفَقَّد جنده كعادة القادة العسكريين، والطير هم أحد جيوشه، فلما تغيب الهدهد عن الحشد سأل عنه، وذلك يبين دقة النظام الذي أسسه سليمان لحشد الطير؛ إذ لو لم يكن جيشه منظمًا لما استبان الغائب من الحاضر.
قوله: ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ فسليمان في هذا الموقف يحكم جنده بقوانين عسكرية، وليست مدنية، والقوانين العسكرية تختلف بالكلية في أغراضها ووسائلها عن القوانين العادية، ذلك أن القوانين العادية تسير الحياة المدنية، وتسعى لتحقيق مزيد من التحضُّر والرقيِّ، بينما القوانين العسكرية تحافظ على غايات ضرورية تتعلق بأمن البلاد برمتها، ولا بد وأن تكون الأوامر العسكرية قائمة على السمع والطاعة، ولا مجال فيها للاعتذار أو المجاملة؛ ولذلك كانت العقوبات العسكرية شديدة القسوة عن الجزاءات الإدارية أو الأحكام المدنية، بل والعقوبات الجنائية في الحياة المدنية.
والعقوبة التي أعلنها سليمان للهدهد بسبب تخلُّفه عن الصفِّ عند الجمع تصل للإعدام، وذلك سائغ في القوانين العسكرية، وإلا لما كان للجيش انضباط ولانفرط عقده، وفي ذات الوقت كان سليمان يتَّسِم بالمرونة؛ أي: إنه جعل هناك سببًا للإعفاء من العقوبة، وذلك يتوقف على درجة الاستخبارات التي جاء بها من تخلف عن الجمع، أي إنه إذا كان له عذر غير مقبول فسوف يعذب عذابًا شديدًا، وإن كان ليس لديه عذر مطلقًا فالجزاء عندئذٍ الذبح؛ لمخالفة الأوامر العسكرية، فإن كان له عذر فلا بد وأن يكون عذرًا مقبولًا حتى يعفى من العقاب، بمعنى أنه في إطار العمليات العسكرية لا بد وأن يسهم هذا العذر في تطوير هذه العمليات، وتحقيق أهداف استراتيجية أو نقل معلومات استخبراتية ذات دلالات مهمة من الناحية العسكرية.
قوله: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾: هنا انتبه الهدهد لعظم المسئولية الواقعة عليه وعظم الجزاء الذي يحيق به، فبدأ الهدهد حديثه مع سليمان بمفاجأة غطت على تحقيق سليمان في مسألة تخلفه عن الصف، وبدأ حديثه بثقة بالغة، وأعلن في تَحَدٍّ ظاهر للملك سليمان: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾؛ أي: إن لديه معلومة استخبراتية ذات شأن عظيم، وأكد على أنه لم ينقل له خبرًا مشكوكًا في صحته، أو يحتاج لتحري سليمان عن صدقه، فقال: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾، فما كان من سليمان إلا أن استمع إلى الهدهد بإنصات، (فالقائد الناجح لا يستهين بأصغر معلومة تأتي إليه من أصغر جندي، فهو يعظم قيمة المعلومة وكأنها سوف تكون سببًا لهداية أمة بأكملها)[27].
قوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 23 – 26].
استرسل الهدهد في نقل الخبر بتفاصيله وتقييمه للموقف بدقة بالغة، ويستبين من حديثه أنه لا يكتفي بالنقل وحسب بل والتحليل مع النقل، كذلك بالنقد مع التحليل، وهكذا يكون البيان محكمًا، ما يعني أن جنود الإسلام لا بد من تدريبهم على الفهم ودقة النقل والوصف والتحليل والنقد والنصيحة، ولا يخلو حديثهم من الدعوة لتوحيد الله.
فقوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ يدل على أن امرأة تتولى ملك سبأ هو ما أثار استعجاب الهدهد، لا لأن المرأة غير مؤهلة لتولي القيادة، فتلك مسألة أخرى ليس المقام هنا الحديث عنها، فقد أثبتت في هذه القصة جدارتها بإدارة البلاد، ولكن لأن هذا الأمر قلما يحصل، ويخالف المجرى المعتاد للأمور لا سيَّما وأن للرجال قوة تفوق المرأة في الأمور العسكرية على وجه الخصوص، فكان هذا الوضع بدايةُ إثارةِ انتباه الهدهد، حيث لم ينازعها في ملكها رجل من الرجال، ولم يكد بها امرأة من النسوة، فكيف جمعت امرأة هذه القوة في يدها، وقلما يحصل ذلك.
وقوله: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كناية عن استتباب حكمها، وأنها أضحت بمنأى عن قتال الأعداء، والمؤامرات الداخلية، بل وتفرغت للاقتصاد والتنمية وترفيه شعبها.
وفي قوله: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ كناية عن بلوغ الغاية في إدارة البلاد حتى اتسع عرشها لدرجة العظمة التي ينبهر بها الناس.
قوله: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ تأسف الهدهد لما وجده في تلك الحضارة المادية من بعد عن الله، بل وضلال عن عبادة الله، وهكذا يظهر وجه الضعف في هذه المملكة، فقد استحوذ عليهم الشيطان، فصَدَّهم عن سبيل الله، وهكذا لم تهتدِ ملكة سبأ، ولا قومها للدين الحق، ومن هنا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة))[28]، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَال:َ (لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً)[29].
ويعزى هذا النقص في قيادة ملكة سبأ لمملكتها رغم نجاحها الباهر في إدارة البلاد من الناحية الاقتصادية والعسكرية بل الإدارية والاجتماعية أنها غير مؤهلة للقيادة الدينية؛ ولهذا لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة؛ ولذلك جعل الشرع الإمامة في الصلاة للرجل، وليس للمرأة، والدولة ليست بمعزل عن الدين، فقيادة الدولة لا بد وأن يتولاها من يقدر على إمامة الناس في الصلاة، وهذا كان دأب المسلمين من قبل، فسياسة المسلمين لدنياهم ليست بمعزل عن شئون آخرتهم، وهذا ما يميز المسلمين عن غيرهم.
قوله: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25] استنكر الهدهد ما فعلوه بصرف النظر عن موطن الزلل أو الخطأ من الناحية السياسية، فالأصل أن يهتدي البشر لله تعالى دونما حاجة لأي رسالة أو نذارة، فالكون كله دال على وحدانية الله تعالى، والكون كله يدين لخالقه، فالهدهد من الطيور التي تتبع مواطن المطر وأماكن الماء والحَب، وهكذا اهتدى الهدهد بعلامة ظاهرة لله سبحانه، وهو أن الله تعالى يخرج له الحَب من الأرض والمطر من السماء[30]، فكيف بملكها أوتيت كل شيء ولم تتفكر يومًا أن الله هو الذي آتاها ذلك كله.
قال ابن تيمية: (الْإِقْرَار بِالْخَالِقِ وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا)[31]، كما استدل الهدهد على الله بتلك الشواهد المادية، فإنه استدل عليه -كذلك- بشواهد غيبية مستقرة في إيمانه هو بأن الله تعالى يعلم ما يخفيه الناس وما يعلنوه، وذلك أمر يدل على أن الطائر استشعر رقابة الله تعالى عليه وعلى الناس أجمعين، وإحاطته بكل شيء حتى أصبحت تلك المراقبة أحد الشواهد التي يستدل بها؛ أي: ما يحتاج إلى إثبات هو الدليل ذاته لقوة يقينه.
قوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 26] وذلك دليل على عقيدة الألوهية بعدما استقر في وجدانه حقيقة الربوبية، فالإيمان بأن الرب هو الإله المستحق وحده للعبودية هو كمال الاعتقاد الصحيح في الله، والعجيب أن الهدهد اهتدى إلى عرش ربه العظيم الذي ضل عنه كثير من البشر، فهو بعقله الصغير وجد عرش ملكة سبأ فوصفه بالعظمة، لكنه بعقيدته السليمة علم أنه عرش ربه أعظم فوصفه بالعظيم ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ وعرفه بالألف واللام ليميزه عما ذكره في حق ملكة سبأ بأسلوب التنكير ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾.
قوله: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]؛ أي: رغم تأكيد الهدهد له لم يصدقه ولم يكذبه؛ لأنه في موضع تهمة، ولا بد من أدلة لنفي التهمة عنه، والمستفاد من ذلك أن الإنسان مهما أوتي من العلم، فإنه لا يحيط بكل العلم ولو كان ملكًا نبيًّا، فلم يحط سليمان بما أحاط به الهدهد، رغم أن الله آتاه ملكًا لا ينبغي لأحد من العالمين.
كذلك لا بُدَّ للقائد ألا يتعجَّل الفهم، ولا بد وأن يتثبَّت من الخبر، لا سيَّما إذا كان هذا الخبر سوف يؤدي إلى تحرُّك الجيوش؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))[32]، وذلك ما حدا بعلماء الأصول إلى تأليف قاعدة فقهية بعنوان (اليقين لا يزول بالشك)، وهو ما حدا بعلماء الأصول العمل بالاستصحاب عندما لا يجدون دليلًا يحكم المسألة، فيعملون بما علموا به من قبل استصحابًا للحال السابق، فإذا كان الأصل في الفطر السلامة والإسلام، فيجب العمل بهذا الأصل حتى يثبت الدليل؛ ومن ثم لم يثبت التهمة ولم يصدق الهدهد، وفي ذات الوقت لم ينفِ عن قوم سبأ تهمة الشرك، ولم يكذب الهدهد؛ وإنما تريث حتى يقوم بالتجربة والاختبار.
قوله: ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 28]، هذا ما فعله سليمان هو ضرب عصفورين بحجر واحد، فبإرسال هذه الرسالة يتثبت من كلام الهدهد من خلال رد فعلهم على رسالته، ومن جهة أخرى اتخذ خطوة إيجابية تجاه هذه المملكة ليخاطبها بصفته نبيًّا قبل أن يكون ملكًا، وهو ما سوف نراه في القصة الثالثة.
القصة الثالثة:
سليمان وملكة سبأ:
قال تعالى: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 29 – 44].
قوله تعالى: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ جمعت الملأ حولها ولم تخف الأمر عنهم في سياسة تدل على ذكائها وفطنتها، واستشعارها أهمية التفكير الجمعي، فبدلًا من أن تفكر بمفردها، فكرت وهي بين أهل الشورى من حولها، ثم وصفت الكتاب بما يليق به، فلم تسخر منه كما يفعل المتكبرون، وإنما وصفته بأنه (كِتَابٌ كَرِيمٌ) بما يجعل المسألة المطروحة أمام أهل الشورى قد وُصفت توصيفًا دقيقًا لا تحامل فيه على أحد، الأمر الذي يضمن أن يخرج الرأي من أهل الشورى سديدًا بناءً على هذا التوصيف السليم، ووصفها للكتاب بأنه كريم يحمل معنى النفاسة والرقي، ولعلها استدلت على ذلك مما هو مكتوب فيه وتصديره بقوله: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ لا سيَّما وأن الذي يعلن هذه البسملة هو أعظم ملك في الأرض سليمان بن داود، ولم تنف عنه وصف الكرم رغم الرسالة التحذيرية المذكورة فيه: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، فهي رسالة تحذيرية مختصرة أفادت معاني كثيرة، ومما أفادت به أن سليمان هو الأعلى، ولا ينفع أن يكون ملكان في أرض واحدة دون أن يعلو أحدهما على الآخر، فكان الأولى أن يستسلم الأقل شأنًا إلى الأعلى منهما حقنا للدماء ومنعًا للقتال بينهما؛ ولذلك استشارت الملأ حولها؛ لأن القرار هنا لا بد وأن يشارك فيه الجميع.
قوله: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ قال ابن جزي: (يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين أو يكون من الدخول في الإسلام)[33]، فبالمعنى الأول يبين أنه يريدهم ألا يمنعوه أن ينشر الإسلام في بلادهم، ويعرفهم بالله، فلا يصدُّوا عن سبيله، وبالمعنى الثاني أن يدخلوا هم في الإسلام مباشرة، وقبل أن يشرع في نشر دعوته لهم بالتفصيل، وحذرهم من شيء واحد؛ وهو أن يستعلوا عليه بجنودهم فيحصل بينهم حرب لا خلاص منها إلا بالغالب والأعلى، وليس ذلك هو ما يريده سليمان بل حذرهم من ذلك، أي إن نبي الله سليمان أوضح نيَّته في رسالته: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، فالمصلحة بينه وبين ملكة سبأ ليست مادية، وإنما لأجل إعلاء كلمة الله الرحمن الرحيم، فهي رحمة الإسلام ينشرها في أرجاء الأرض، ولا يحول دون نشرها إلا القوم المستكبرون، فإن كانت من المستكبرين فلا بديل عن الخيار العسكري (الجهاد في سبيل الله)، وإن لم تكن منهم، فالحلول والخيارات كثيرة.
قوله: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ هذه الاستشارة نابعة من طريقتها التي هي مقتنعة بها في إدارة البلاد، وأن الشورى ليست مجرد أمر مستحسن، وإنما هي أمر تُقطَع به كثير من الأمور الشائكة، وتُحسَم به كثير من القضايا المعلقة، وهم شاهدون على هذه الإدارة الحكيمة؛ بل إن الشورى تعطي للقرار الصادر قوة أكثر وشرعية واضحة، فلا يمكن أن يعترض على قرارها أحد وقد تم التصديق عليه من المجلس الأعلى للشورى، والذي يجمع قيادات الدولة العظام ومسئولي الأجنحة والعمليات العسكرية، (فلا خاب من استخار، ولا ندم من استشار)[34].
قوله: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ قرر مجلس القيادة والشورى وارتأى تفضيل المواجهة العسكرية استنادًا إلى قوتهم وتاريخهم العسكري المشرف، ولكنهم ولاحترامهم للملكة وإيمانهم بسياستها الحكيمة تركوا الأمر في يدها، لعلها تفضل خيارات أخرى غير عسكرية.
وهكذا تجتمع القيادة العسكرية والسياسية في يد امرأة واحدة رغم أن المجلس العسكري وجد تهديدا بليغا من رسالة سليمان وفضل العمل العسكري عن العمل الدبلوماسي والسياسة الدولية، وذلك احترامًا منهم لمبدأ التخصص، فليس معنى أن المجلس العسكري يجمع القوة العسكرية أنه يجمع المعلومات الاستخباراتية العامة الكافية لإدارة البلاد؛ ولذلك فوض أمر تحديد القرار المناسب للملكة، فمن يعلم أكثر هو من بيده القرار، وهؤلاء القادة استخباراتهم عسكرية، والملكة استخباراتها عامة، ومن يملك المعلومة يدير الموقف برمته.
قوله: ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾، هنا ظهرت فطنة الملكة، فلم تنكر ما قاله القادة العسكريون، بل أكدت عليه، واستشهدت بالتاريخ في ذلك، كما أكدت على أن مخاوفهم هي ذات مخاوفها، وأنها تخشى أن يؤدي الاستسلام لسليمان لمخاطرة عظيمة، فيفسد قريتها، ويذل أهلها، وقد صدقها القرآن في تخمينها بقوله سبحانه: ﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾؛ أي: إن الملوك يفعلون ذلك ولا بد؛ لأن كل ملك يطغي على ملك غيره، كما قال القرآن: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]، لكن سليمان بخلافهم فهو ملك نبي.
لكنها بفطنتها أوضحت لهم حيلتها، وأنها سوف تسبقهم بخطوة؛ أي: تسبق الخيار العسكري بخيار دبلوماسي، وأوضحت الأسس التي تقوم عليها المفاوضات الدبلوماسية، فلكي تحسم أمرها مع سليمان اختارت أن تختبره باختبار بسيط، حيث أرسلت له هدية مع رسولها، فإن رد بهدية مثلها؛ فذلك دليل على أن تقديم الخيار السياسي أفضل من العسكري، وإن لم يرد بهدية أو لم يقبلها؛ فذلك دليل على تصميم سليمان على الخيار العسكري، فليحذر جيشها ويستعد.
وسياسة الملكة هذه تطابق سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((تهادوا تحابوا))[35]، فهي لم تندفع كما اندفع ساستها وقادة البلاد، وإنما أمهلته مهلة تستبين من خلالها نيته في الإصلاح أو الإفساد والسلب والتدمير، كما أنها وبكيدها قد تخدعه بعد ذلك فتنقلب عليه في اللحظة المناسبة، فهي بذلك لم تستبعد الخيار العسكري بالكلية، إنما احتفظت به، ولكنها لم تستعجل في إنفاذه وبالإمكان استنفاد الخطوات السياسية قبله، وهكذا يفعل قادة الدول حيث يستعلي بعضهم على بعض عندما تواتيهم اللحظة المناسبة، ولا تكون الهدنة إلا لأجل تحقيق مصالح مشتركة.
قوله: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ هنا اشتاط سليمان غضبًا؛ إذ اعتبر هذه الهدية رشوة غرضها صده عن سبيل الله تعالى، فالسياسة الآثمة تصد عن سبيل الله تعالى أكثر من الحروب الغادرة، وكم من فتوحات إسلامية ضاعت لانخداع أهلها بحيل ومكايد الأعداء السياسية، فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا إِلَى الْيَمَنِ، فَجَاءَ بِشَوَارٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَتَوَفَّى مَا جَاءَ بِهِ جَعَلَ يَقُولُ: هَذَا لِي، وَهَذَا لَكُمْ، قَالُوا: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَيَّ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ [36]، وفي رواية: (فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيجيىء فيقول: هذا لي، وهذا أهدى إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه، فلينظر هل تأتيه هدية أم لا، والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحد منكم بشيء إلا طيف به يوم القيامة، يحمله على عنقه، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو ثورًا له ثوار، وربما قال: يتعر، قال: ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي أبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت ثلاثًا)[37].
فإن قيل يقبلها لأجل أمته، فيوزعها على الفقراء أو المستحقين من أهل الصدقة، أو يجعلها في أعمال الخير، يرد على ذلك بأن ذلك جائز إذا لم يكن القصد من الهدية السكوت عن منكر أو المساهمة فيه، وليس ثمة منكر أشد من تعمية الناس عن الله، وتضليلهم عن عبادته، وليس القصد هو إجبارهم على الإيمان؛ وإنما إزالة الموانع التي حالت دون بلوغ الإسلام لهم.
قوله: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ رد هديتهم ولم يقبلها؛ بل اعتبرها إهانة له، بل هي رشوة لمنعه من إيصال هذا الدين لقومها، ووظيفته إيصال هذا الدين وتبليغه للناس، سواء أسلموا أو لم يسلموا، المهم أن يصلهم البلاغ.
ولذلك جاء رده بالتهديد العسكري المباشر، فلا صبر للدعاة على مكر الأعداء الصادين عن سبيل الله، قال ابن عاشور: (أبَى سليمان قبول الهدية؛ لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه، ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله: ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ فتبين له قصدها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بث سلطانه على مملكة سبأ)[38].
وهكذا نفهم معنى جهاد الطلب في سبيل الله، فسليمان سوف يحرك جنودًا لا قبل لهم بها في رسالة تهديدية لهم، ويزيد من التهديد لهم بإخراجهم أذلة من قراهم، بل وهم صاغرون؛ وذلك لأن كل لحظة تعيشها مملكة سبأ بعيدة عن عبادة الله وعن منهج الله لا بد وأن يكثر فيها الظلم والفساد، ولو طالت المفاوضات والمساومات مع أهل السياسة، لظل الحال كما هو؛ بل أسوأ، ولا سبيل لتغييره غير تحريك هذه الجنود، فليس أسوأ من أن يظل أهل الحق والباطل يتساومون ويتفاوضون على دين الله، بل الأمر لا يحتمل إلا أحد أمرين لا ثالث لهما – وذلك حال التمكين – إما تخليتهم الطريق للدعاة لينشروا الإسلام في بلادهم أو يجابهوا المجاهدين، وهم في تخليتهم الطريق للمسلمين إما أن يسلموا أن يدفعوا الجزية كناية عن الصغار وعدم الحاجة حمل السلاح ليتولى المجاهدون حمايتهم، كما بينت ذلك سورة التوبة.
قوله: ﴿ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]، أثير تساؤل (ترى ما الذي قصد إليه سليمان عليه السلام من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته).
من هنا نفقه سياسة الإسلام في إبهار الناس به، فالإبهار أحد الوسائل الدعوية لتبليغ هذا الدين؛ إذ كيف يُقبِل الناس على الإسلام دون أن يروا ما يُبهرون به، ولما كانت حضارة سبأ تتميز بالرقي والعرش العظيم أبهرهم سليمان بأن أتى بعرشها لديه، ودون حاجة لخوض جولات عسكرية حتى يستولي عليه.
وهكذا يسترق نبي الله سليمان ملكة سبأ بل وعرشها كله ليكون ذلك سببًا لأن تدخل الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ))[39]، فهو لم يقيدها في سلسلة وإنما أسر ملكها كله لديه، وعاملها معاملة الإسلام كما في قوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].
قوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]، ومن دواعي الانبهار أن سخَّر الله له الجن، ودون حاجة لإرضائهم واسترضائهم بالكفر بالله، وإنما سخرهم له بالإسلام، فأراد الله تعالى أن يظهر للناس فضله وتكرمه على نبيِّه، وهو أحد من خلقه ليعلموا أن في الدنيا عجائب لا تنتهي، وكلها تدل على قدرة الله تعالى، وأن الإنسان مهما تعاظمت حضارته فإنها حقيرة أمام أبعاد الكون الفسيح، فمن خلق الله من يملك القوة أكثر من الإنسان والتخفي، فلا يغتر الإنسان بقوَّته، وقد خلق الله خلقًا أسرع منه وأكثر تمكنًا منه، كما أراد الله تعالى أن يبهر الجن أنفسهم بقدرته التي أودعها في بعض خلقه من الإنس الذين هم أكثر تمكنًا من الجن بفضل ما آتاهم الله من علم الكتاب.
قوله: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾، دليل على أن الله تعالى أعطى كنوزًا من العلم يفتح بها على من يشاء من عباده، يدرك بها مكنونات من القدرة ليس لأحد أن يصل إليها إلا من تفَضَّل الله عليه بفتوح العارفين بحكمته، قال العلماء: (صار جَلْب هذا الشيء من مكانٍ إلى مكان، من اليمن إلى أرض سليمان عليه السلام في فلسطين، صار جَلْبُهُ ليس من آيات الأنبياء ولا من براهين الأنبياء، فصار في حق الذي أُوتي علمًا من الكتاب كرامة)[40].
ولعله ذلك لمعرفة العبد بالله، وذلك هو العلم الذي آتاه الله نبيَّه داود وسليمان، ولكنه هنا أعطاه لعبدٍ من عباده لم يذكر اسمه، ولم يصل إليه علم سليمان، ولعل ذلك هو العلم باسم الله الأعظم- والله أعلم- الذي إذا سئل به أعطى وأجاب، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة وآل عمران وطه))[41]، سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ)[42]، من ذلك نفهم أن الإنسان مهما علا بحضارته، فإن حضارته قاصرة عن إدراك قدرة من أتاه الله العلم، فالإسلام دين غلب جميع الحضارات، وأبهر جميع الملوك والإمبراطوريات.
قوله: ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾، هنا فطن سليمان للابتلاء، فهو من جهة لم يؤت هذه النعمة، وإنما أعطاها الله لرجل عنده، وقد سخَّره الله له، وليس ذلك إلا لأجل الاختبار، فذلك يتطلب منه مزيد من الشكر، فإن شكر فقد أدى ما عليه من واجب، وإن لم يشكر فقد كفر بالنعمة، وهو نوع من الجحود لعطاء المنعم، ونسيان لفضله، والله الغني الكريم،كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعطي عطاء فقدر أن يجزي به فليجز به، ومن لم يقدر فليحسن الثناء فإن لم يفعل فقد كفر النعمة))[43]، وهكذا يسخر الله الدنيا لأهل الحق؛ لأنهم لا يبغون غير الحق.
وحقيقة الشكر- بعد اعتراف الشاكر بنعمة ربه عليه – ألَّا يصرفها في غير طاعة ربِّه؛ ولذلك لم يسخر سليمان الجن لمصالح شخصية، وإنما لأجل النفع العام، واستمر على هذا النهج حتى مات، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].
قوله: ﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾، أراد سليمان أن يبهر الملكة ويختبرها، ليعلم قدرتها على الاهتداء إلى الإسلام بعد الانبهار بنعمة الله عليه، فإذا استكبرت وكتمت الحقيقة بأن سليمان استطاع بقدرة الله تعالى أن يأتي بعرشها فإنها لن تهتدي إلى الاعتراف بحق الله عليها وتدين بدين الإسلام، فإن لم تستكبر وأقرت بذلك، فذلك أحرى أن تهتدي للإسلام كذلك، فالملوك يأبون الاعتراف بالهزيمة، وهذه المرأة تتباهى بعرشها فإذا أُتِي به إلى سليمان، فذلك دليل على إعجازها، فإذا سلمت بهذه المعجزة التي أيَّد الله بها الرسل، فذلك توطئة للتسليم بالإسلام ذاته، وقد أجابت بما خُيِّل لها، إذ قالت: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾؛ ذلك لأنه قام ببعض التغيير فيه، بحسب تعليمات سليمان وأوامره ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾، حتى يكون استدلالها منطقيًّا بأوجه الشبه، فلو أتى به بغير تغيير وتنكير، لكان التسليم منها بهذه الحقيقة تسليم المنكسر الذليل، وسليمان يريدها أن تسلم ليس من باب القهر والذلة؛ وإنما من باب التدبُّر والتفكُّر، وقد كان، إذ لم تكابر واعترفت بأوجه الشبه ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ فهذا توصيف دقيق يدل على صدقها وعدم كتمانها الحق.
قوله: ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ هذا قول سليمان، قال ابن عاشور: (إن حُمِل على ظاهره أن قومه بني إسرائيل كانوا أسبق في معرفة الحكمة وحضارة الملك من أهل سبأ؛ لأن الحكمة ظهرت في بني إسرائيل من عهد موسى، فقد سنَّ لهم الشريعة، وأقام لهم نظام الجماعة، وعلمهم أسلوب الحضارة بتخطيط رسوم مساكنهم وملابسهم ونظام الجيش والحرب والمواسم والمحافل، ثم أخذ ذلك يرتقي إلى أن بلغ غاية بعيدة في مدة سليمان، فبهذا الاعتبار كان بنو إسرائيل أسبق إلى علم الحكمة قبل أهل سبأ)[44].
وتذييل الآية بقوله: ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ يدل على أن الحضارة لا تمنع من الإسلام، وأن الإسلام لا يعرقل الحضارة، وإنما يدل عليها، ويحافظ على استمرارها، ويساعد على نموها إلى درجة فريدة لا مثيل لها ولا نظير، فلم تكن أبدًا حضارة تقارن حضارة المسلمين في أي عصر من العصور متى كانوا مستسلمين بقلوبهم، وكل جوارحهم لله رب العالمين.
قوله: ﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾؛ أي: إنها ورغم ما آتاها الله من الحكمة والعلم والرقي الكافي لأن تصل إلى الله، إلا أنها ضلَّت الطريق لأجل قومها، حيث لم تعمل العقل فيما ورثته من عادات وتقاليد ممقوتة منهم، وهم كانوا قومًا كافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) [45].
وهكذا نرى أثر النشأة في تعمية الناس عن الإسلام، فبالرغم من الحضارة التي وصلت إليها بلادهم، وبالرغم من ذكائها وفطنتها، ورغم تحليها بروح الإنصاف والعدل إلا أن عادات قومها الدينية حملتها على عبادة غير الله، وهكذا تغلب العاطفة العقل، فعاطفتها مرتبطة بقومها، وعقلها يميل إلى التوحيد، ولكنها غلبت العاطفة على العقل فضلت من هذا الباب، والقرآن كثيرًا ما ينادي الكفار لكي يغلبوا العقل على العاطفة ليستبصروا الحق، ويهتدوا إليه، كما في قوله: ﴿ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
بذلك نفهم الدور السياسي للدعاة إلى الله والدور العسكري للمجاهدين في سبيل الله، فدورهم محصور في إيصال هذه الدعوة دون تشويه للناس، وتخلية الطريق إليها من كل مانع، ومن هذه الموانع السلطة الأبوية الظالمة، والعادات الجاهلية المقيتة، والسيطرة العسكرية القمعية، هذه جميعًا تقوض الفطرة بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ((فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ))؛ أي: مسخ العقيدة، وتبديل الفطرة، وطمس معالم هذا الدين، وتعمية الناس عنه، ﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾؛ ولذلك كان على الدعاة إلى الله مجاهدة الصادين عن سبيل الله، فإذا حصل ذلك أزيلت حجة الناس على الله بعد الرسل ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]، فالدعاة إلى الله والمجاهدون هم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس إلى يوم القيامة.
قوله: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ﴾ استكمل سليمان الاختبار، ولم يكتفِ بإجابتها التي لم تقطع بها، أرادها أن تختبر بنفسها قصره، لتعلم أن ما آتاه الله خير مما آتاه، وأن ما آتاها رغم الكفر بالله لا يقارن بما أتاه الله بسبب الإسلام، وفي ذلك دلالة دعوية عظيمة؛ وهي وجوب أن يكون الداعي إلى الله ليس أقل من المدعو في النعم الدنيوية، فكما أتى الله طالوت بسطة في الجسم والعلم وكان ذلك سببًا لتوليه قيادة الجند، أتى موسى عليه السلام سلطان يجابه به سلطان فرعون، وأتى سليمان ملكًا يجابه به ملك ملكة سبأ، وهكذا يأتي الخطاب الإسلامي من الأعلى إلى الأدنى، وتلك هي إشكالية الدعاة إلى الله؛ إذ يظن كل من هداه الله للإسلام أنه مؤهل لأن يخاطب فرعون الأمة، وليس ذلك بصحيح، فليس كل الناس يخاطبون فرعون، وإنما موسى وهارون وحدهما، وليخاطب الباقين من يناسبهم من أعمارهم وحسبهم ونسبهم، وهكذا يتعلم الدعاة إلى الله الحنكة في الدعوة، وكيفية استقبال الملوك والتخلق بأخلاق الإسلام عند مخاطبتهم، وإلا فالنفور منهم سبب للنفور من الإسلام.
قوله: ﴿ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44] ظنت أن الصرح به بلل من الماء، فحسرت ملابسها عنه كي لا تبتل، في دلالة إلى أن الملكة تزهو بطول ملابسها لا بقصرها، وقد أراد سليمان أن يبين لها حقيقة الأشياء التي تظنها على غير حقيقتها، فكما أنها ظنت أن الصرح به لجة، وتأكد ذلك من فعلها بأن كشفت عن ساقيها، فكذلك دعوة الإسلام، قد تظنها ليست خيرًا، فتنأى بنفسها عنها، لكنها إذا خاضت فيه وجدتها ممردة بالقوارير، بذلك عَلَّم سليمان ملكة سبأ كيف تحكم على الأمور لا بظاهرها ولكن باختبارها، قال القطان: (قال لها سليمان: إن ما تظنِّينه ماءً ليس بالماء، بل هو صرح أملسُ مكوَّن من زجاج، فاندهشت من ذلك؛ إذ علمت أن مُلكها لا يساوي شيئًا بجوار ملكِ سليمان)[46].
والظاهر من هذه الآية أنها كانت تغطي ساقيها فلم يكن تبرُّجها إلا حال حذرها من الماء لما كشفت عن ساقيها، وهذه إشارة جميلة من القرآن لكرامة الملكة التي يكون الأصل في زيها أنه يغطي أكثر مما يكشف، وأنه بالطول الذي يصل إلى الأرض حتى تحذر من أن يبتل بالماء، وذلك بالرغم من أنها كانت لا تزال على الكفر، قال سبحانه: ﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾، ولذلك كان إنكار سليمان عليها أن نبَّهها إلى أنه صرح ممرد من قوارير حتى يتسنى لها تغطية ساقيها التي كشفتاها، فلم يطل النظر ويسرق الوقت لرؤيتها وهي تمشي كاشفة لقدمها، وهو أدب جميل من نبي كريم، وهو الأمر الذي حدا بها إلى أن قَالَتْ: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44] (إذ استشعرت خلق الإسلام، وأن نبي الله سليمان لم يسترعه كشفها عن ساقيها، ولم يلفت انتباهه ملكها، وإنما سارع بملحوظته هذه، فكان ذلك داعيًا إلى الإيمان بالله تعالى ودين الإسلام الذي يسارع بتغطية المرأة والاهتمام بها كإنسان بشري دونما نظر إلى جمالها وملكها، وبصرف النظر عن معتقداتها والدولة التي تنتمي إليها) [47].
قوله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هنا أثمرت سياسة الإبهار التي اتبعها سليمان مع الملكة، فهو إبهار أخلاق قبل أن يكون إبهار حضارات ومعجزات، وقد أقرت بفضل الله ونعمته على سليمان، وضلالها إذ ظلمت نفسها باتباع دين قومها، فأعلنت إسلامها مع سليمان لله رب العالمين.
(ولفظ المعية (مع) أفاد أنها أسلمت طوعًا واختيارًا وليس عن إجبار أو مذلة)، ولم تقل أسلمت لله مع سليمان؛ لأن الذي أرشدها إلى الله تعالى سليمان [48].
وهكذا يسلم الملوك باعتزاز حيث أرشدهم لله ملك مثلهم، وهذا من فقه الدعوة، فهو أنجع وأسرع، وليس بشرط.
[1] رواه البخاري، ج 1، ص 31، رقم 19.
[2] أبو عبدالمحسن: موسوعة الرد على الصوفية، ج 211، ص 90.
[3] صحيح البخاري، ج 1، ص 34.
[4] تفسير ابن كثير، ج 6، ص 181، هذه المقالة هي ما كتب عمر بن عبدالعزيز.
[5] فتح القدير، ج 4، ص 185.
[6] بحر العلوم، ج 3، ص 283.
[7] تفسير الفخر الرازي، ج 1، ص 3458.
[8] تفسير الفخر الرازي، ج 1، ص 3458.
[9] رواه ابن ماجه، ج 1، ص 259، رقم 219، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج1، ص 43، رقم 182.
[10] التحرير والتنوير، ج 19، ص 235.
[11] الكشاف، ج 5، ص 66.
[12] أيسر التفاسير للجزائري، ج 3، ص 132.
(في جبال (بنسلفانيا) إحدى الولايات الأمريكية اكتشف أحد العلماء أحد أكبر مدن النمل في العالم، وقد بني معظمها تحت الأرض، وتشغل مساحات واسعة منها، حفر النمل فيها منازله تتخللها الشوارع والمعابر والطرق، وكل نملة تعرف طريقها إلى بيتها بإحساس غريب، وتتكون كل مستعمرة من المرافق الحيوية الآتية لديمومتها، والمرافق هي مواضع دخول النمل وخروجه، وفي هذه المواضع تقوم مجموعة من النمل بحراسة هذه المداخل، ولا يسمح بدخول أي جسم غريب إلَّا أعضاء المملكة، حيث يتم التعرف عليهم بمواد كيميائية تختص بها فقط أعضاء المملكة، وتختلف من مملكة إلى أخرى، ومن العجيب أن النمل رفع مدخل العش فوق مستوى سطح الأرض خوفًا من الأمطار والمياه، مع العلم أن العش تحت سطح التراب.
أولًا: نظام المرور عند النمل: يقول عبدالدائم الكحيل: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] إن هذه الآية تدل على أن النمل يتمتع بنظام جيد للمرور، حيث نجد إحدى النملات تعمل شرطي مرور تنظم السير وتوجه الإنذارات لدى وجود أي خطر.
لقد أمضى الباحث (Graham Currie) السنتين الماضيتين في دراسة ظاهرة تنظيم المرور عند النمل وكيف يستطيع مجتمع النمل تنظيم حركته لتجنب الفوضى أو الهلاك، وقال بعد هذه الأبحاث: (إن النمل يتفوق على البشر في تنظيم حركة المرور لديه، وهو يعمل بكفاءة عالية حتى أثناء الزحام، بل إن النمل يستطيع التحرك في مجموعات كبيرة والتوجُّه إلى مساكنه خلال لحظات دون حدوث أي حادث أو اصطدام أو خلل (موقع عبدالدائم الكحيل للإعجاز العلمي في القرآن والسنة – نظام المرور عند النمل، ص 2).
والنملة التي تنظم المرور لها طريق خاص بها (طرق سريعة) لا تسلكه بقية النملات، وهذا الطريق تستخدمه النملة لتوجيه بقية النملات، وهناك طريق في الوسط تسلكه النملات المحملة بالغذاء والحبوب والمواد القابلة للتخزين، أما النملات الفارغة فلها طريق على الجوانب (طرق سريعة) لأن حركتها تكون أسرع من النملات المحملة.
ثانيًا: مكان حفظ البيض للنمو: يتميز هذا المكان بحرارة لا تتعدى (38) درجة، وهي درجة الحرارة المناسبة التي يفقس فيها البيض، فتنتج ملكة النمل عددًا كبيرًا من البيوض يقدر بالملايين، ومن رحمة الله بهذه البيوض الضعيفة والصغيرة والتي لا يكاد يشعر بوجودها أنه سبحانه وتعالى زود النملة بالقدرة على إفراز مواد مطهرة ومعقمة تخرج من قنوات دقيقة، لتحفظ هذه البيوض سليمة من أي بكتيريا، أو أي عدوٍّ آخر.
ثالثًا: مكان الدفاع الجوي: تتخصص مجموعة من النمل بوظيفة حراسة وحماية مملكة النمل من الحشرات الطائرة المضرة، وتتخذ مواقع عالية تكون على قمة المملكة – أي: أعلى مرتفع – فيقوم الحرس في هذه المواقع عند شعوره بأي خطر جوي ممكن بإطلاق مادة كيميائية حمضية خاصة على تلك الحشرات المهاجمة على المملكة، وهذه المادة أطلق عليها العلماء: (d’ecide formique) يحتفظ بها النمل في داخل بطنه لاستعمالها عند أي خطر تتعرض له المملكة من الجو.
رابعًا: غرف الحراسة الأرضية: تقوم مجموعة من النمل ببناء غرف الحراسة بالقرب من ممرات الدخول، وذلك حتى يكون النمل الحرس على قرب واستعداد لأي خطر مفاجئ يهدد كيان المملكة، وتتصرف تلكم النمل؛ كتصرف الحكومات بوضع نقاط حراسة على حدود دولها منعًا من تسلُّل المتسللين إلى داخل أراضيها بغرض التخريب والعمالة، فهذا نوع من الذكاء الذي وهبه الله عز وجل للنمل.
خامسًا: غلاف خارجي لحماية المملكة من الأعداء: يقوم النمل بوضع غلاف يحيط بالمملكة من الخارج مهمته المحافظة على هذه المملكة من تسرب المواد الضارة أو الحشرات الصغيرة إلى داخل المملكة وتعكر صفو رعاياها.
سادسًا: إسطبل لحلب البقر: يكون مكان الإسطبل على شكل غرف يتم بناؤها من قبل مجموعة من النمل العاملات بحلب نوع من اليرقات الخاصة التي جلبتها إلى المملكة من الخارج لاستخراج نوع خاص من العسل يُسمَّى (عسل النمل)، ويطلق العلماء على هذه اليرقات: (البقر)؛ لأن النمل تقوم بجلب هذا البقر. ومن هذه اليرقات (بق النبات) تلك الحشرة الصغيرة التي تعيش على النبات، ويصعب استئصالها؛ لأن أجناسها كثيرة، فيرسل النمل الرسل لتجمع له بيوض البق حيث تعتني به وترعاه حتى يفقس ويخرج الصغار، وعندما تكبر تدر هذه اليرقات سائلًا حلوًا يتألف من مواد سكرية يُسمَّى عسل النمل، ويقوم على حلبه جماعة من النمل لا عمل لها إلَّا حلب هذه الحشرات بمسها بقرونها، وتنتج هذه الحشرة (48) قطرة عسل كل يوم، وهذا ما يزيد على مائة ضعف عما تنتجه البقرة إذا قارنا حجم الحشرة بحجم البقرة.
سابعًا: مخزن ادخار اللحوم: يتخصص قسم من النمل العاملات لتخزين وجمع وادخار الحشرات التي يتم اصطيادها لغرض أكلها فيما بعد.
ثامنًا: مخزن ادخار الحبوب: يتخصص بعض النمل العاملات بجمع الحبوب وطحنها لاستخراج الدقيق لخبزه فيما بعد. وعملية تخزين الحبوب في مملكة النمل يتصف بعلمية واختصاص قل نظيرهما في عالم الحيوان. وتفصيل ذلك:
أن لأعضاء مجتمع النمل طرقًا فريدة في جمع المواد الغذائية وتخزينها والمحافظة عليها، فإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه حركته برجليها الخلفيتين ورفعته بذراعيها، ومن عادتها أن تقضم البذور قبل تخزينها حتى لا تعود إلى الإنبات مرة أخرى، وكي يسهل عليها إدخالها في مستودعها، وهناك بعض البذور التي إذا كسرت إلى فلقتين فإن كل فلقة يمكن أن تنبت من جديد كما عليه بذور (الكزبرة)؛ لذلك فإن النمل يقوم بتقطيع بذرة الكزبرة إلى أربع قطع كي لا تنبت، وإذا ما ابتلت البذور بسبب مطر أو غيره أخرجتها إلى الهواء والشمس لتجف.
ويضيف لنا الدكتور رويال دينكسون (ROYIL DEENKCON) الذي ظل يدرس مدن النمل حوالي عشرين عامًا في بقاع مختلفة من العالم، فوجد نظامًا لا يمكن أن يراه أحد في مدن النمل، فقد رأى النمل وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلَّا خنافس صغيرة رباها النمل في جوف الأرض زمنًا طويلًا حتى فقدت بصرها بسبب الظلام، هذه الأبقار ستكون لها طعامًا في يوم من الأيام.
رابط الموضوع: وادي النمل.
[14] رواه مسلم، ج 11، ص 297، رقم 4157.
[15] رواه البخاري، ج 19، ص 42، رقم 4627.
[16] التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، ج 1، ص 1316.
[17] قال ابن عاشور: (وأوزع: مزيد “وزع” الذي هو بمعنى كف كما تقدم آنفًا، والهمزة للإزالة؛ أي: أزال الوزع؛ أي: الكف. والمراد أنه لم يترك غيره كافًّا عن عمل، وأرادوا بذلك الكناية عن ضد معناه؛ أي: كناية عن الحث على العمل. وشاع هذا الإطلاق فصار معنى أوزع أغرى بالعمل. فالمعنى: وفقني للشكر؛ ولذلك كان حقه أن يتعدى بالباء، فمعنى قوله: ﴿ أَوْزِعْنِي ﴾ ألهمني وأغرني)؛ التحرير والتنوير، ج 19، ص 241.
[18] الماوردي: النكت والعيون، ج 4، ص 117.
[19] شفاء العليل، ج 1، ص 57.
[20] الكشاف، ج 5، ص 69.
[21] تفسير الرازي، ج 12، ص 23.
[22] رواه مسلم، ج 8، ص 405، رقم 3084.
[23] تفسير أبي السعود، ج 6، ص 139.
[24] رواه ابن حبان، ج 2، ص 54، رقم 342.
[25] في هذا المعنى الزمخشري: الفائق في غريب الحديث والأثر، ج 2، ص 429.
[26] رواه البخاري في الأدب المفرد، ج 1، ص 220، رقم 630، وصححه الألباني: صحيح الأدب المفرد، ج 1، ص 243، رقم 491/630.
[28] رواه النسائي في سننه الكبرى، ج 3، ص 465، رقم 5937، وصححه الألباني: الجامع الصغير، ج 1، ص 936، رقم 9356.
[29] رواه البخاري، ج 21، ص 497، رقم 6570.
[30] ذكر المفسرون معنى الخبء عن قتادة وسعيد بن المسيب وغيرهما (تفسير ابن أبي حاتم، ج 11، ص 106) (الدر المنثور ج7، ص437) (الواحدي، ج1، ص 655).
[31] مجموع الفتاوى، ج 6، ص 73.
[32] رواه البخاري، ج 9، ص 283.
[33] التسهيل لعلوم التنزيل، ج 1، ص 1322.
[34] جمع الجوامع للسيوطي، ج 1، ص 20842.
[35] رواه البخاري: الأدب المفرد، ج 1، ص 208، رقم 594، وحسنه الألباني: الجامع الصغير، ج 1، ص 532، رقم 5315.
[36] أبو بكر الشيباني: الآحاد والمثاني، ج 3، ص 562، ورواه ابن خزيمة.
[37] رواه ابن خزيمة، ج 4، ص 53، رقم 2339.
[38] التحرير والتنوير، ج 19، ص 262.
[39] رواه البخاري، ج 10، ص 200، رقم 2788.
[40] الشيخ صالح بن عبد العزيزآل شيخ، إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، ج 46، ص 25، لأبي جعفر الطحاوي.
[41] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 684، رقم 1861، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة، المجلدات، ج 2، ص 245، رقم 746.
[42] رواه ابن ماجه، ج 11، ص 316، رقم 3847، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج 2، ص 329، رقم 3111.
[43] رواه الحارث في مسنده، زوائد الهيثمي، ج 2، ص 858، رقم 913.
[44] التحرير والتنوير، ج 19، ص 267.
[45] رواه البخاري، ج 5، ص 182، رقم 1296.
[46] تفسير القطان، ج 3، ص 40.
[47] انظر مؤلفنا: حقوق المرأة وواجباتها في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ص 67، دار النهضة العربية.
[48] قال عون بن عبدالله: سأل رجل عبدالله بن عتبة: هل تزوج سليمان بلقيس؟ فقال: انتهى أمرها إلى قولها: ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قيل: يعني لا علم لنا وراء ذلك؛ (تفسير الألوسي، ج 14، ص 490).