{ إن الدين عند الله الإسلام }
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 19، 20].
﴿ إِنَّ ﴾: للتوكيد والحصر ﴿ الدِّينَ ﴾ الدين: يراد به «العمل»، كما في قوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]؛ أي: لكم عملكم ولي عملي، وكما في قوله: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
ويراد به «الجزاء» كما في قوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4].
والمراد به في هذه الآية «العمل»، يعني: إن الدين الذي هو عبادة الله والعمل له، هو الإسلام، وما يدان لله تعالى به؛ أي: يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات.
قال ابن عاشور: “والدين: حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على: «مجموع عقائد وأعمال يلقنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب»، ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس.
وسمي الدين دينًا؛ لأنه يترقب منه متبعه الجزاء عاجلًا أو آجلًا، فما من أهل دين إلا وهم يترقبون جزاءً من ربِّ ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاههم عنهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقال أبو سفيان يوم أُحُد: اعْلُ هُبَل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله، لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئًا. وأهل الأديان الإلهية يترقبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، فأول دين إلهي كان حقًّا وبه كان اهتداء الإنسان، ثم طرأت الأديان المكذوبة، وتشبهت بالأديان الصحيحة، قال الله تعالى- تعليمًا لرسوله-: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6].
وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 76]؛ أي: شريعته، فما كان له أن يأخذ أخاه في حكم مَلِك مصر؛ لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق؛ بل جزاؤه الضرب وتغريم مِثْلَي المسروق لا الاسترقاق، إلا أن مشيئة الله اقتضت هذا التدبير والاحتكام إلى شريعة إخوة يوسف القاضية برِقِّ السارق.
﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ يعني: إن المرجع في كون هذا الشيء دينًا أو غير دين هو الله – عز وجل- فالعندية عندية الاعتبار والاعتناء، وليست عندية العلم.
﴿ الْإِسْلَامُ ﴾: ملة الإسلام.. إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتِّباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهته -عليه أفضل الصلاة والسلام- فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبَّل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ﴾.
والإسلام هو التعبد لله تعالى بما شرع، حال قيام الشريعة. وهذا الإسلام بالمعنى العام، أما الإسلام بالمعنى الخاص -وهو المراد هنا- فهو التعبُّد لله بشرع محمد.
والدليل على هذا التقسيم من القرآن أن الله تعالى وصف إبراهيم بأنه كان حنيفًا مسلمًا. وقال عن ملكة سبأ: ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، وقال يعقوب لبنيه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وقال عن التوراة: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾ [المائدة:٤٤]، والآيات في هذا كثيرة.
والإسلام عَلَم بالغلبة على مجموع الدين الذي جاء به محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أطلق على ذلك الإيمان أيضًا؛ ولذلك لُقِّب أتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد به هنا، وهو تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند، إذعانًا عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأن الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطِّراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنه اعتقاد قلبي؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ [آل عمران: 20]، ولأن الإسلام لا يكون إلا عن اعتقاد؛ لأن الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة.
قال ابن عاشور: “وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها، فالحصر مؤول: إما باعتبار أن الدين الصحيح عند الله، حين الإخبار، وهو الإسلام؛ لأن الخبر ينظر إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلها حقائق في الحال، ولا شك أن وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية من خلط الفاسد بالصحيح، ما اختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدمه من الأديان لم يكن بالغًا غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، وهذا المعنى أولى محملي الآية؛ لأن مفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تجاه بقية الأديان الإلهية أتم”.
ثم قال: “أظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبق لها سابقة سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذٍ على شيء من جهات الأرض؛ ولكنها أمة سلَّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدين بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم، ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا الحق الصريح، والعلم الصحيح، من مثله آية على أن ذلك وحي من الله نفح به عباده.
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مبنية على الفطرة بمعنى ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] فبهذا الأصل؛ أصل الفطرة، كان الإسلام دينًا صالحًا لجميع الأمم في جميع الأعصر”.
وهنا ننبه أن كثيرًا من الكُتَّاب اليوم إذا تكلموا عن اليهودية والنصرانية والإسلام، يقولون: هذه الأديان السماوية. فيظن السامع أن دين اليهود قائم، وأن دين النصارى قائم، كقيام دين الإسلام. وهذا لا يصح، فإن هذه الأديان أديان سماوية بلا شك، لكنها حُرِّفت، وبُدِّلت، وغُيِّرت ونُسِخت ببعثة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليست دينًا يرتضيه الله اليوم؛ بل المتمسكون بها كفار، لا يعدُّون من المسلمين.
وربما توهَّم بعض العامة أن اختلاف هذه الأديان كاختلاف المذاهب الإسلامية، يعني كاختلاف مذهب الشافعي، ومالك، والإمام أحمد وأبي حنيفة، وهذا خطأ عظيم؛ لأنه من زعم أن هناك دينًا قائمًا بعد بعثة الرسول – عليه الصلاة والسلام- فهو كافر، فإن دينه نسخ جميع الأديان، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].
والمراد بالإسلام هنا الدين كله بجميع شرائعه الظاهرة والباطنة، فليس قسيم الإيمان المذكور في حديث جبريل عليه السلام؛ بل المراد به ما يعمُّ جميع الشرائع.
فالصلاة من الإسلام، والزكاة من الإسلام، والتوكُّل على الله من الإسلام، والخوف منه من الإسلام، وهكذا جميع شرائع الدين من الإسلام.
يقول ابن عاشور: فأصل الفطرة دين الإسلام الذي كان فيه في تسعة مظاهر خادمة له ومهيئة جميع الناس لقبوله.
المظهر الأول: إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقاد لا يشوبه تردد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع له اختيارًا، ثم لتصير تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلق بها ثم بحمل جميع الناس على تطهير عقائدهم حتى يتحد مبدأ التخلق فيهم: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64].
وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة، خوفًا من لا شيء، وطمعًا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزة النفس، وأصالة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثارًا لا يشبهه في دين آخر؛ بل إنك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلا قليلًا.
المظهر الثاني: جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرق إليه إلا أنه لم يوفِّه حقَّه؛ بل كان معظم اهتمامها منصرفًا إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
المظهر الثالث: اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات، وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعيًا لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلا بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلا بالجدل والخطابة، ومنهم المترهب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلا القوارع والزواجر.
المظهر الرابع: أنه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وفي القرآن: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وفي الحديث الصحيح في البخاري: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي)) فذكر ((وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))، وقد ذكر الله تعالى الرسل كلهم، فذكر أنه أرسلهم إلى أقوامهم.
والاختلاف في كون نوح رسولًا إلى جميع أهل الأرض، إنما هو مبني: على أنه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الأرض، ألا ترى قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ [هود: 25]، وأيامًا كان احتمال كون سكان الأرض في عصر نوح هم من ضمهم وطن نوح؛ فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.
المظهر الرابع: الدوام ولم يدَّعِ رسولٌ من الرسل أن شريعته دائمة؛ بل ما من رسول، ولا كتاب، إلا تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.
المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويترك التفريع لاستنباط المجتهدين، وقد بين ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، لتكون الأحكام صالحة لكل زمان.
المظهر السادس: أن المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أن التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها خواطر الشرور؛ لأن الشرور، إذا تسرَّبت إلى النفوس، تعذر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين: طريقة مباشرة، وطريقة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ))؛ [البخاري ومسلم].
المظهر السابع: الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على نوع المصلحة، مع تطلُّب إبراز ذلك التشريع في صورة لينة، وفي القرآن: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وفي الحديث الصحيح: ((أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ))؛ [البخاري] ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ))؛ [البخاري]، وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدة؛ فلذلك لم تكن صالحةً للبقاء؛ لأنها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يُناسِبُها ما قُدِّرَ مَصِيرُ البشر إليه من رقة الطباع وارتقاء الأفهام.
المظهر الثامن: امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلا تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتحاد الأمة في العمل والنظام.
المظهر التاسع: صراحة أصول الدين، بحيث يتكرر في القرآن ما تستقرى منه قواطع الشريعة، حتى تكون الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة.
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾ [آل عمران: 19]، ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم؛ لأن كلمة “جاء” مؤذنة بعلم مُتلقَّى من الله تعالى، يعني أن العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدهم عن الاختلاف في المراد، إلا أنهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى.
والمعنى أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته، ولكن كان عن علم حقيقي، وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن والحروب وضياع الدين البغي والحسد؛ إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية الدنيوية لها دون غيرها، وبذلك يفسد أمر الدين الدنيا، وهذه سنة بشرية تورَّط فيها المسلمون بعد القرون المفضلة أيضًا، والتاريخ شاهد.
يقول أبو حيان في «البحر المحيط»: “﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾ [آل عمران: 19] الذي هو سبب لاتباع الإسلام، والاتفاق على اعتقاده، والعمل به، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد، والاستئثار بالرياسة، وذهاب كل منهم مذهبًا يخالف الإسلام حتى يصير رأسًا يتبع فيه، فكانوا ممن ضل على علم”.
﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي: بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بُغْض البَعْض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقًّا.. كل واحد منهم يقول: إن دينك باطل، فتفرَّقوا وتمزَّقوا.
وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارًا يتضمن بيان سببه، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدين الذي هم عليه يومئذٍ من الاختلاف.
ونظير هذا قوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وقوله: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].
واختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم؛ أي: اختلاف أهل كل مِلَّة في أمور دينهم؛ كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا، وكيف صار لكل مملكة من المملكتين تدَيُّن يخالف تَدَيُّن الأخرى، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح، وفي رسوم الدين، ويكون قوله: ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ حالًا ﴿ بَغْيًا ﴾؛ أي: بغيًا متفشيًا بينهم، بأن بغى كل فريق على الآخر.
ويشمل أيضًا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم: هو حق، وقال فريق: هو مرسل إلى الأميين، وكفر فريق، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ ﴾.
وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معانٍ:
• منها التحذير من الاختلاف في الدين؛ أي: في أصوله، ووجوب تطلُّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف.
• ومنها التنبيه على أن اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق، فهو تعريض بأنهم أساءوا فَهْم الدين.
ومنها الإشارة إلى أن الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان:
أحدهما: اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 113]، وثانيهما: اختلاف كل أمة منهما فيما بينها، وافتراقها فرقًا متباينة المنازع. كما جاء في الحديث: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) يحذر المسلمين مما صنعوا.
• ومنها أن اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض.
• ومنها أنهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراض عنه بغيًا منهم وحسدًا، مع ظهور أحقيته عند علمائهم وأحبارهم، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 146، 147]، وقال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]؛ أي: أعرضوا عن الإسلام، وصمموا على البقاء على دينهم، وودوا لو يردونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم، حسدًا على ما جاءكم من الهدى بعد أن تبيَّن لهم أنه الحق.
ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني، حذف متعلق الاختلاف في قوله: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ ليشمل كل اختلاف منهم: من مخالفة بعضهم بعضًا في الدين الواحد، ومخالفة أهل كل دين لأهل الدين الآخر، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحة الدين.
وهذا الاختلاف كما وجد في الأمم السابقة، وُجِدَ في هذه الأمة؛ نجد بعض العلماء يخالف الآخرين، ثم يجعل من هذا الخلاف خلاف قلب؛ فتتنافر القلوب وتتشتَّت، فمن كان على ذلك ففيه شبه من اليهود والنصارى.
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ ﴾: هذا عام في كل كافر بآيات الله، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم.
والكفر بآيات الله يدور على أمرين: «الجحود والتكذيب»، «والاستكبار والعناد».
فالجحود والتكذيب: كما فعل المشركون مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكما فعل أعداء الرسل من قبل.
والاستكبار والعناد بحيث يعلم الحق ثم يستكبر عنه ويعاند، كما هو كفر إبليس، وبين الكُفْرين تلازم، فإن المكذب مستكبر، والمستكبر وإن لم يكذب بلسانه، فهو مكذب بعمله؛ لأنه لم ينقَدْ لأمر الله.
﴿ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾: الكونية والشرعية.
فالكفر بالآيات الكونية: أن ينكر أن الله عز وجل هو الذي خلقها، أو أن يعتقد بأن الله تعالى شريك فيها، أو أن يعتقد بأن الله تعالى مُعينًا فيها.. كل هذا كفر بالآيات الكونية، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾: جواب الشرط، وهي جملة خبرية يقصد بها التهديد. فلا يشغله شيء عن آخر ولا يُعييه إحصاء ولا عدد.
والسرعة تكون في الزمن والتقرير: أما في الزمن فإن الدنيا مهما طالت فهي سريعة الزوال، وكذلك أيضًا سريع الحساب يوم القيامة، فإن الله تعالى يفرغ من الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]، والقيلولة تكون في نصف النهار. وهذه سرعة الحساب.
أما السرعة في التقرير فيحاسب الإنسان ويناقش؛ لكن لكل صفة، فالمؤمن لا يناقشه الله عز وجل، ولكنه سبحانه وتعالى يقرره بذنوبه، ويقول: عملت كذا في يوم كذا في يوم كذا فيقر.
وأما حساب الكُفَّار يحاسبون فيقفون على أعمالهم، ويخزون بها والعياذ بالله، ويقال: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
وقد لمحت الآية إلى أن هذا الاختلاف والبغي كفر؛ لأنه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم، وإلى نكران دين الإسلام؛ ولذلك ذيَّله بقوله: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾.
وقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ تعريض بالتهديد؛ لأن سريع الحساب إنما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته، والحساب هنا كناية عن الجزاء؛ كقوله: ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي ﴾ [الشعراء: 113].
﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾: جادلوك وخاصموك في التوحيد بحجج باطلة واهية، وأكثر استعمال الفعل “حاجَّ” في معنى المخاصمة بالباطل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾ [الأنعام: 80]، وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 258]، فالمعنى: فإن خاصموك خصام مكابرة.
وفيه التفات إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ ﴾: فاختصر الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم، داعيًا إياهم إلى الإِسلام الذي عرفوه وأنكروه حفاظًا على الرئاسة والمنافع بينهم.
﴿ وَجْهِيَ ﴾: وعبَّر بالوجه عن جميع ذاته؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع، وهو الذي يكون به الانقياد وعدمه؛ ولهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدًا؛ لأنه يضع أشرف أعضائه على موطئ الأقدام.
﴿ لِلَّهِ ﴾؛ أي: أخلصت عبادتي لله وحده، لا شريك له ولا نِدَّ له ولا ولد ولا صاحبة له، فالمراد بالوجه هنا: «القصد»، فإذا أسلم الإنسان وجهه الله، قبل كل ما يخبر الله به وامتثل بكل ما يأمر به، وانتهى عن كل ما نهى عنه؛ فهو مُسلِّم وجهه لله.
فهذه طريقتي، وأمرت أن أبلغكم، وقد بلغتكم، وليس عليَّ أكثر من ذلك: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272].
وفيه أن هؤلاء الذين يحاجون الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يحتاجون إلى كبير عناء في الرد عليهم؛ لأنهم يحاجون على أمر واضح؛ ولهذا أمره الله أن يقول: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾، فإن أسلمتم فهو لكم، وإن لم تسلموا فعليكم.
ويتفرع على ذلك أن من علمت أنه إنما يحاجك لقصد نصر قول، ولو كان باطلًا، فلك أن تعرض عنه؛ ولتقل: “هذا ما أدين الله به”، “وهذا ما أستسلم له”، وتدعه؛ لأنه معاند مكابر، وليس أهلًا؛ لأن تدخل معه في محاجة أو خصومة.
فالقصد أن الآية متاركة وإعراض عن المجادلة؛ أي: اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بيانًا، وأني أتيت بمنتهى المقدور من الحجة فلم تقتنعوا، فإذا لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجتكم إياي إلا مكابرة وإنكارًا للبديهيات والضروريات، ومباهتة، فالأجدر أن أكفَّ عن الازدياد.
قال الفخر: فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج يقول: أما أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي.
وقيل: هو تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، قال أبو مسلم الأصفهاني: إن اليهود والنصارى والمشركين كانوا متفقين على أحقية دين إبراهيم عليه السلام إلا زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتبع مِلَّة إبراهيم في قوله: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 123]، أمره هنا أن يجادل الناس بمثل قول إبراهيم: فإبراهيم قال: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [الأنعام: 79]، ومحمد عليه الصلاة والسلام قال: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ﴾؛ أي: فقد قلت ما قاله الله، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك، فكيف تنكرون أني على الحق، قال: وهذا من باب التمسُّك بالإلزامات وداخل تحت قوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
وقوله: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ﴾ كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبَّروا مطاويها فيهتدي الضالون، ويزداد المسلمون يقينًا بدينهم.
وفيها بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة، وتختصر المقاولة، ويسهل عرض المتشكِّكين أنفسهم على هذه الحقيقة، ليعلموا ما هم عليه من الديانة.
وبينت هذه الكلمة أن هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه؛ فإن اسمه الإسلام، وهو مفيد معنًى معروفًا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم.
قال ابن عاشور: وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكًا له، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله، وتحت هذا معانٍ جمَّة هي جماع الإسلام: نحصرها في عشرة:
المعنى الأول: تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألَّا يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك؛ لأن المشرك بالله غيرَ الله لم يسلم نفسه؛ بل أسلم بعضها.
المعنى الثاني: إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله، ولا يقدم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.
الثالث: إخلاص القول لله تعالى، فلا يقول ما لا يرضى به الله، ولا يصدر عنه قول إلا فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على حسب المقدرة والعلم، والتصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].
الرابع: أن يكون ساعيًا لتعَرُّف مراد الله تعالى من الناس، ليجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنهم مرسلون من الله، وتلقيها بالتأمل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة، بدون تحفز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقي الدعوة، ولا إعراض عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.
الخامس: امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرُّسُل الصادقين، والمحافظة على اتِّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره.
السادس: ألَّا يجعل لنفسه حكمًا مع الله فيما حكم به، فلا يتصدَّى للتحكُّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض؛ كما حكى الله تعالى: ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ [النور: 48، 49]، وقد وصف الله المسلمين بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، فقد أعرض الكُفَّار عن الإيمان بالبعث؛ لأنهم لم يشاهدوا ميتًا بُعِث.
السابع: أن يكون متطلبًا لمراد الله مما أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله: يتطلبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنه مراد الله، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقُّه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
الثامن: الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القول فيه بغير سلطان ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50].
التاسع: أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضًا، وجماعاتها، ومعاملتها الأمم كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.
العاشر: التصديق بما غيب عنا، مما أنبأنا الله به من صفاته، ومن القضاء والقدر، وأن الله هو المتصرف المطلق.
﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾: على ديني، فيقول كمقالتي، وعلى ما جئت به من العقيدة والقول والعمل، وعلامة المتبع للرسول -عليه الصلاة والسلام- حقًّا، هو الذي إذا قيل له: قال رسول الله، صار كقول من يقال له: قال الله. وإذا قيل له: فعل رسول الله، لم يعدل بفعله فعل أحد من الناس.. هذه حقيقة الاتباع.
وكما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾: هذا مما يدل على أن الواو في ﴿ حَاجُّوكَ ﴾ يشمل: اليهود، والنصارى -ومنهم نصارى نجران- والمشركين الأميين وهم العرب، وسموا أميين نسبة إلى «الأم»؛ لأن عامتهم جهال قليل فيهم من يقرأ ويكتب، إذ لم يأتهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومنهم من أخذ العلم -أي علم الرسالات الإلهية- عن النصارى، مثل: ورقة بن نوفل.
﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾: والاستفهام هنا يُراد به الأمر، يعني: قل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أسلموا، فهو مثل قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108] يعني: فأسلموا.
وقيل: بل المراد أنه ينادي عليهم بالبلاهة، يعني: أأسلمتم بعد هذا البيان وهذا الوضوح، أم أنكم بلهاء لم تفقهوا حتى الآن، ولم تسلموا مع ظهور المعنى ووضوحه، وهذا المعنى أبلغ من المعنى الأول.
فأما المشركون فبُعْدهم عنه أشد البُعْد ظاهر، وأما النصارى فقد ألهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى، فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسسوا الدين على حسب ما يلذ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم.
وأما اليهود فإنهم وإن لم يشركوا بالله فقد نقضوا أصول التقوى، فسفهوا الأنبياء، وقتلوا بعضهم، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله، وغيَّروا الأحكام اتباعًا للهوى، وكذبوا الرُّسُل، وقتلوا الأحبار، فأنَّى يكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون النظر في دلائل صدقه.
﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾: فإن التزموا النزول إلى التحقق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا، ولم يبق إلا أن يتبعوك لتلقي ما تبلغهم عن الله؛ لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله.
والمعنى إن أسلموا بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظاهرًا وباطنًا، فقد اهتدوا هداية التوفيق، وسلكوا طريق الهداية؛ لأن الهداية نوعان:
هداية دلالة: وهذه شاملة لكل أحد؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24]، لا بد أن يهدي الله سبحانه وتعالى كل أمة.
وهداية التوفيق: وهذه خاصة بمن هدي بالإسلام في كل زمان ومكان بحسبه. فمن اهتدى هداية التوفيق فهو محل المدح والثناء، وأما الأول الذي اهتدى هداية الدلالة فمعناه علم الحق، فهذا إذا خالف الحق كان أشد ذمًّا ممن لم يعلم الحق.
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: أعرضوا عن الإسلام فلم ينقادوا بظواهرهم ولا ببواطنهم، فقد أديت ما عليك من البلاغ.
﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾: فلا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك؛ إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم، والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة.
وفيه وجوب تبليغ رسالات الله وشريعته على من آتاه الله علمًا بهذا الوحي، خلفًا لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه لا يجب على الداعية إلا البلاغ فقط، وأن المرء يقوم بما يجب عليه، ولا يُسْأَلُ عن عمل غيره.
﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: مُطَّلِع عليهم أتَمَّ الاطِّلاع، فهو الذي يتولَّى جزاءهم وهو يعلم أنك بلغت ما أمرت به. عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23] وما ذاك إلا لحكمته ورحمته.
والبصر هنا: بصر الرؤية، وبصر العلم، فالله تعالى بصير بالعباد (بالرؤية)، لا يخفى عليه شيء منهم. (وبالعلم): لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته -صَلوات الله وسلامه عليه- إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة، أنه بعث كتبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امتثالًا لأمر الله له بذلك.
وقد روى عبدالرزاق عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ))؛ [رواه مسلم].
وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ))؛ [أحمد]، وقال: ((كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً))؛ [البخاري].
وروى الإمام أحمد عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أن غلامًا يهوديًّا كان يَضع للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضُوءه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يا فُلانُ، قُلْ: لا إله إلا الله) فَنَظَرَ إلَى أبيه، فَسَكَتَ أبوه، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ، فَقَالَ أبُوهُ: أطِعْ أبا الْقَاسِم، فَقَالَ الْغُلامُ: “أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلا الله، وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ”، فَخَرَجَ النَّبَيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ))؛ أخرجه البخاري في الصحيح.