{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (5)


تأملات في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9] رقم (5)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعدُ:

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم إقامة حدود القصاص كالسرقة والقتل وغيرها، فإن الإنسان إذا غضب وهم أن يقتل إنسانًا آخر فتذكر أنه إن قتله قُتِل به، خاف العاقبة فترك القتل، فحيَّ ذلك الذي كان يريد قتله، وحيَّ هو لأنه لم يقتل، فيقتل قصاصًا، قتل القاتل يحيا به مما لا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179].

ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديمًا وحديثًا قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم بكتاب الله؛ لأن القصاص رادع عن جريمة القتل، كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفًا. وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛ لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلام ساقط، عار من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»[1].

وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع، وأنها اليمنى، وكان ابن مسعود وأصحابه يقرؤون «فَاقْطَعُوا أيمانهما».

والجمهور أنه إن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم يعزر؛ كما جاء في الحديث: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»[2] كما هو معروف في الأحاديث.

وليس قصدنا هنا تفصيل أحكام السرقة، وشروط القطع، كالنصاب والإخراج من حرز، ولكن مرادنا أن نبين أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم.

وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره، واجتناب نهيه، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني – فمدت أصابعها الخائنة إلى مال الغير لتأخذه بغير حق، واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر، وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح يد نجسة قذرة، ساعية في الإخلال بنظام المجتمع، إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة، كالعضو الفاسد الذي يجر الداء بسائر البدن، فإنه يزال بالكلية، إبقاءً على البدن، وتطهيرًا له من المرض، ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ارتكاب معصية السرقة، مع الردع البالغ بالقطع عن السرقة.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: «بَايِعُونِي علَى ألا تُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا، ولَا تَسْرِقُوا، ولَا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ، ولَا تَأْتُوا ببُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بيْنَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ، ولَا تَعْصُوا في مَعروفٍ، فمَن وفَى مِنكُم فأجْرُهُ علَى اللَّهِ، ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا فَعُوقِبَ في الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إلى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عنْه وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ»[3]؛ ا.هـ

وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «فهو كفارة» نص صريح في أن الحدود تطهر المرتكبين لها من الذنب.

والتحقيق في ذلك ما حقَّقه بعض العلماء من أن حقوق الله يطهر منها بإقامة الحد، وحق المخلوق يبقى، فارتكاب جريمة السرقة مثلًا يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى؛ لأن السرقة علة موجبة حكمين، وهما القطع، والغرم. كَالْقَطْعِ.

قال في مراقي السعود:

وَذَاكَ فِي الحُكْمِ الكَثِيرُ أَطْلَقَهْ

كَالقَطْعِ مَعْ غُرْمِ نِصَابِ السَّرِقَةْ

مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: لا يلزمه الغرم مع القطع، لظاهر الآية الكريمة، فإنها نصت على القطع ولم تذكر غرمًا.

وقال جماعة: يغرم المسروق مطلقًا، فات أو لم يفت، معسرًا كان أو موسرًا، ويتبع به دينًا إن كان معسرًا.

وقال جماعة: يرد المسروق إن كان قائمًا، وإن لم يكن قائمًا رد قيمته إن كان موسرًا، فإن كان معسرًا فلا شيء عليه ولا يتبع به دينًا.

والأول مذهب أبي حنيفة، والثاني مذهب الشافعي وأحمد، والثالث: مذهب مالك.

وقطع السارق كان معروفًا في الجاهلية فأقره الإسلام، وعقد ابن الكلبي بابًا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة، فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب، وذكر ممن قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عدي بن سهم وغيرهما، وأن عوفًا السابق لذلك؛ انتهى.

وكان من هدايا الكعبة صورة غزالين من ذهب، أهدتهما الفرس لبيت الله الحرام، كما عقده البدوي الشنقيطي في نظم عمود النسب بقوله:

وَمِنْ خَبَايَاهُ غَزَالًا ذَهَبُ
أَهْدَتْهُمَا الفُرْسُ لِبَيْتِ العَرَبِ

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد، وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبدالرحمن بن سمرة؛ ا.هـ.

قال مقيده – عفا الله عنه -: ما ذكره القرطبي رحمه الله من أن المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها أولًا، هي مرة بنت سفيان خلاف التحقيق، والتحقيق أنها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبدالأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قتل أبوها كافرًا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها وقع في غزوة الفتح، وأما سرقة أم عمرو بنت سفيان بن عبدالأسد ابنة عم المذكورة، وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها، ففي حجة الوداع، بعد قصة الأولى بأكثر من سنتين.

فإن قيل: روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ[4]، وَفِي لَفْظِ بعضهم: قيمته ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ[5].

وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»[6]، والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدًّا، مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية، ودية الذهب ألف دينار؟ فتكون دية اليد خمسمائة دينار، فكيف تؤخذ في مقابلة ربع الدينار؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك.

فالجواب أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، هو الذي نظمه المعري بقوله:

يدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسجد فُديت
ما بالها قُطّعت في ربع دينارِ

وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظمًا ونثرًا، منها قول القاضي عبدالوهاب مجيبًا له في بحره ورويه:

عِزُّ الأمَانَةِ أغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا
ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافَهْم حِكْمَةَ الْبَارِي

وقال بعضهم: لما خانت هانت. ومن الواضح أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة، وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن، بأن الشرع إنما قطع يده لِسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة اهـ.

فانظر ما يدعو إليه القرآن: من مكارم الأخلاق، والتنزه عما لا يليق، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، فانظر هذا الحط العظيم لدرجته، بسبب ارتكاب الرذائل.

وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصة دون غيرها من الجنايات على الأموال، كالغصب، والانتهاب، ونحو ذلك.

قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر، ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله:

وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين.

وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس، فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكًا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس؛ لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي.

وجوابه: أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها. وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام اهـ بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.

قال مقيده – عفا الله عنه -: الفرق بين السرقة وبين الغصب ونحوه الذي أشار إليه المازري ظاهر، وهو أن النهب والغصب ونحوهما قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأن الأمر الظاهر غالبًا توجد البينة عليه بخلاف السرقة، فإن السارق إنما يسرق خفية بحيث لا يطلع عليه أحد، فيعسر الإنصاف منه، فغلظت عليه الجناية ليكون أبلغ في الزجر. والعلم عند الله تعالى.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكرًا كان أو أنثى، وجلد الزاني البكر مائة جلدة ذكرًا كان أو أنثى.

أما الرجم: فهو منصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم، وهي قوله تعالى: «الشيخ والشيخة إذا زنَيَا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم».

وقد قدمنا ذم القرآن للمعرض عما في التوراة من حكم الرجم، فدل القرآن في آيات محكمة: كقول الله تعالى: ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 41]، وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران: 23] – على ثبوت حكم الرجم في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم لذمه في كتابنا للمعرض عنه كما تقدم.

وما ذكرنا من أن حكم الرجم ثابت بالقرآن لا ينافي قول عليرضي الله عنه، حِينَ رَجَمَ المَرْأَةَ يَومَ الجُمُعَةِ، وقَالَ: «قدْ رَجَمْتُهَا بسُنَّةِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»[7]؛ لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها. ويدل لذلك قول عمررضي الله عنه في الحديث الصحيح المشهور: «فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ »[8] الحديث.

والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان، لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه.

والحاصل: أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى؛ لأن الزاني لما أدخل فرجه في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، وتقذير الحرمات، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني. والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله. ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة، وشر أمثاله عن المجتمع، ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورة التي ارتكب، وجعل قتلته أفظع قتلة؛ لأن جريمته أفظع جريمة، والجزاء من جنس العمل.

وقد دل الشرع المطهر على أن إدخال الفرج في الفرج المأذون فيه شرعًا يوجب الغسل، والمنع من دخول المسجد على كل واحد منهما حتى يغتسل بالماء. فدل ذلك أن ذلك الفعل يتطلب طهارة في الأصل، وطهارته المعنوية إن كان حرامًا قتل صاحبه المحصن؛ لأنه إن رجم كفر ذلك عنه ذنب الزنى، ويبقى عليه حق الآدمي، كالزوج إن زنى بمتزوجة، وحق الأولياء في إلحاق العار بهم كما أشرنا له سابقًا. وشدة قبح الزنى أمر مركوز في الطبائع، وقد قالت هند بنت عتبة وهي كافرة: ما أقبح ذلك الفعل حلالًا! فكيف به وهو حرام، وغلظ عقوبة المحصن بالرجم تغليظًا أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة؛ لأن المحصن قد ذاق عسيلة النساء، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن، فلما كان الداعي إلى الزنى أعظم، كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم.

وأما جلد الزاني البكر ذكرًا كان أو أنثى مائة جلدة: فهذا منصوص بقوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]؛ لأن هذه العقوبة تردعه وأمثاله عن الزنى، وتطهره من ذنب الزنى كما تقدم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ما يلزم الزناة من ذكور وإناث، وعبيد وأحرار في «سورة النور».

وتشريع الحكيم الخبير عز وجل مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ولا نشك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاءً وفاقًا[9].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] صحيح البخاري برقم (3475)، وصحيح مسلم برقم (1688).

[2] صحيح البخاري برقم (6789) وصحيح مسلم برقم (1684) واللفظ له.

[3] صحيح البخاري برقم (18)، وصحيح مسلم برقم (1709) واللفظ للبخاري.

[4] صحيح البخاري برقم (6795)، وصحيح مسلم برقم (1686).

[5] صحيح البخاري برقم (6796)، وصحيح مسلم برقم (1686).

[7] مسند الإمام أحمد (2/374) برقم (1185)، وقال محققوه: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الصحيحين.

[8] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (6830)، ومسلم برقم (1691).

[9] أضواء البيان للشنقيطي رحمه الله (3 /509-518).



Source link

أترك تعليقا
مشاركة
التسحيج والمدح في ميزان الشرع
تفسير: (بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)