اختلاف درجات العلماء في الفهم والفقه


اختلاف درجات العلماء في الفَهْمِ والفِقْهِ



الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه؛ أما بعد:

فمن الضوابط التي تَعْصِمُ الإنسان من الزَّلَلِ والخطأ أن يعلم أن العلماء ليسوا سواءً، حتى في العلم الواحد والفن الواحد، فهناك المتعمِّق المدقِّق المحقِّق الذي أحاط بأكثر جوانب هذا العلم، فكان ما يعرِفه فيه أكثر مما يجهله، مما يجعل لكلامه وتحقيقه قيمةً كبرى، ومنهم من قصر عن ذلك المقام بدرجة أو درجتين، وهكذا.

 

وأسباب ذلك ترجع إلى الاختلاف في درجة الإدراك والنظر والفَهم، وأيضًا في درجة الاطلاع والتحصيل والمعرفة، فرُبَّ شخص أُوتِيَ من الذكاء حظًّا وافرًا، ومن حسن الفهم نصيبًا كبيرًا، فأمكَنَهُ استيعابُ أكبر قَدْرٍ من هذا العلم أو ذلك، وبرَع فيه حفظًا وفقهًا، أو توفَّرت لديه من إمكانية لقاء المشايخ والرحلات الطويلة، وتفرُّغه وخلوِّ ذهنه من شواغل الدنيا، ما تمكَّن معه من التفرُّغ لطلب العلم، وجَمْعِهِ من صدور الرجال وبطون الكتب بشكلٍ لم يستطِعْهُ غيره من أقرانه وزملائه، ولا شكَّ أن لكلِّ هذا أثرَه على سلامة رأيه، وغَلَبَةِ الظن في إدراكه لمعاني هذا العلم أو ذاك.

 

وهذه المسألة ليست خاصة بالمتأخرين، بل هي ملازِمةٌ لجميع عصور الإسلام، بما فيها عصر الصحابة؛ إذ لم يكن الصحابة رضي الله عنهم في درجة واحدة من الحفظ والعلم، والفَهم والتفرُّغ، بل كانوا يختلفون في ذلك؛ قال ابن عبدالبر: “لا أعلم أحدًا من الصحابة إلا وقد شذَّ عنه بين علم الخاصة واردة بنقل الآحاد أشياء حفظها غيره، وذلك على من بعدهم أجوز، والإحاطة ممتنعة على كل أحد”[1].

 

فإذا حصل هذا للصحابة فغيرهم من التابعين أولى بذلك، ثم من بعدهم من الأئمة والعلماء إلى يوم الناس هذا، مع ما يُلاحَظ من تناقص هذه المرتبة في الإحاطة جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر، فلا يمكن لأحدٍ أن يدَّعِيَ الإحاطة بالعلوم كلها.

 

وبناءً على ذلك، فقد يحدُث أن يغيب عن العالم الفقيه – مهما علا كعبه في العلم ورسَخَ فهمه فيه – حديثٌ لم يبلُغْه، أو بلغه، ولكن غفل عنه لسببٍ ما.

 

ومن الأمثلة على ذلك ما غاب عن بعض الأئمة الكبار كمالكٍ والشافعي وغيرهما.

 

فمن ذلك ما ورد عن ابن وهب أنه سمع مالكًا يُسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس، قال ابن وهب: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سُنَّة، ثم ساق له حديثًا يرويه بسنده إلى المستورد بن شداد القرشي، قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلُكُ بخِنْصَرِهِ ما بين أصابع رجليه))[2]، فقال مالك: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قطُّ إلا الساعة، قال ابن وهب: ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع[3].

 

وذكر ابن عبدالبر أن مالكًا صار يتعهَّد ذلك في وضوئه[4].


[1] الاستذكار لابن عبدالبر (1 /36).

[2] رواه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب: غسل الرجلين، والترمذي، كتاب أبواب الطهارة، باب: ما جاء في تخليل الأصابع (1/57)، ورواهُ غيرهما من حديث المستورد بن شداد القرشي؛ [انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (1 /36)].

[3] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1 /31)، الإرشاد للخليلي (1 /399-414)، سنن البيهقي الكبرى (1 /76)، سير أعلام النبلاء (9 /233).

[4] الاستذكار لابن عبدالبر (1 /18).







Source link

أترك تعليقا

مشاركة
شرح كتاب قواعد الصفات عند أهل السنة والجماعة (الفرق بين الأسماء والصفات) (المحاضرة الرابعة)
رحمة الإسلام عند تطبيق الحدود الشرعية