اغتنام العشر الأواخر بالأعمال الصالحة (خطبة)
اغتنام العشر الأواخر بالأعمال الصالحة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [ النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [ الأحزاب: 70 – 71]، أما بعد:
فإن أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، تفكَّروا بمرور الليالي والأيام، وسرعة زوالها وانقضائها، إنه لأمر محسوس وملموس، ومشاهد أن تتأمله بوضوح وجلاء، تستخدم في ذلك العقل الذي وهبك الله عز وجل إياه، وتنظر في تقلُّبات الدهر وسرعة تقلُّبه وزواله، ولا شك أننا سائرون مع أعمالنا، فالأيام لا تنتظر وإنما تمر مرًّا سريعًا.
تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظرُ فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ولا زائلٌ هذا المشيب المكدَّرُ |
بالأمس القريب كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان، يستقبلون هذا الزائر العظيم، يستقبلون الصيام والقيام وقراءة القرآن، مستبشرين بهلال شهر رمضان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وها هم عن وشيك يودِّعون هذا الزائر يودِّعون هذا الشهر الكريم، يودعونه ويفارقونه رغمًا عنهم، وهو لا شك مرتحلٌ، لكن الناس في ذلك على قسمين، فهناك مودعٌ يودِّعه مع كل ألَمٍ وأسًى، وهناك مودعٌ لرمضان يريد أن يتخلص من أغلاله.
فيكون الناس على مرتبتين اثنتين:
أما المرتبة الأولى، فقد طُويت فيها صحائف أعمالهم؛ من صلاة وصيامٍ، وقراءة قرآن، وبرٍّ للوالدين، وصلة للأرحام، وإطعامٍ للجوعى – مِن أراملَ ومساكينَ، وأيتامٍ – أعمالٌ كثيرة قاموا بها خلال شهر رمضان، فهنيئًا لمن كان هذا حاله، إنه والله محسودٌ على هذا العمل، لقد أرضى الله عز وجل، لقد بادر بالأعمال الصالحة.
وأما الفريق الثاني، إنما كانوا في شهر رمضان ينتظرون زواله وانقضاءه، فربما مرت خمسة أيام، فقال: بقِي من الشهر خمسة وعشرون يومًا، فلا يدري متى يُفطر ولا يدري متى ينصرف عنه شهر رمضان، فلقد اجتمع هؤلاء في يوم العيد مثلًا، لكن البون شاسع بينهما، بين مَن أقبَل على الله في شهر رمضان، وبين من كان إقباله مؤقتًا ينتهي بانتهاء رمضان، وقد قال بعض الصالحين: بئِس القوم الذين لم يعرفوا الله إلا في رمضان.
فيا معاشر المسلمين، إن من الناس مَن فاجأهم الموت قبل أن يصوموا رمضان، ومن المسلمين مَن فُجعنا بهم خلال شهر رمضان، ذاك يموت كما يقال بنوبةٍ قلبية، وآخر بحادث مروري مروِّع، وموت الفجأة ما أكثره في أيامنا هذه، صروف الدهر وحوادث الزمان، ونزول ملك الموت عليه السلام مؤذِنٌ بزوال هذه الدنيا وانقضائها، فهل من معتبر يعتبر بذلك؟ أم أنها الغفلة قد علت على قلوبنا، ﴿ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].
فأُخاطب العقول، أُخاطب الأسماع والقلوب، أُخاطب أولي الألباب – أن من كان عنده تفريط وتساهل، فلا زال في الشهر بقية من ليالٍ وأيام، فبإمكانك أن تسابق وأن تسارع؛ كما قال ربنا: ﴿ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة148]، وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
فيا أيها المسلم العاقل، لا بد أن تعرف أنك في شهر رمضان، وأنك في آخره في العشر الأواخر، تلكم العشر التي هي أفضل أيام السنة، كان عليه الصلاة والسلام يجتهد فيها يوقظ أهله، ويسهر ليله، يقرأ القرآن ويصلي صلاة القيام، وهو العبد المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وكان يعتكف في رمضان في العشر الأواخر، ينتظر ليلة القدر لِما فيها من الشرف، والكثير من المسلمين اليوم غفلوا عن أمر الاعتكاف، وغفلوا عن أمر القيام، فكان في ذلك تساهل وأمزجة في صلاة القيام، ذاك يصلي ركعتين ثم ينصرف، والآخر أربعًا، وذاك ساهٍ غافل لا يحضُر، مع أنه مسلم يريد رضا الله والدار الآخرة.
فيا أيها الكيِّس الفطن، لا زلت في وقت الإمهال نذكرك بفداحة ضياع هذه العشر الأواخر، ولكن لا زال في العمر بقية، لا زلت في العشر الأواخر من رمضان، فأقبِل على ربك أولًا بالتوبة النصوح، وألا تكون توبة موقوتة بخروج شهر رمضان، ثم تحدِّث نفسك بالرجوع إلى الذنب ثانيةً، وإنما توبة نصوح فيها الإخلاص لله والصدق مع الله، وفيها الندم والإقلاع والعزم على عدم الرجوع، فأبشِر بعد ذلك برضا ورضوان وعتقٍ من النيران؛ قال ربنا سبحانه: ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
فرصة بين يديك أن تقول للمعاصي وداعًا، ولرُفقاء السوء وداعًا، وللغفلة وداعًا؛ لتستخدم عقلك وتستخدم ما وهبَك الله من المعرفة والعلم، لتقبل على الله إقبالًا صحيحًا.
هذا أمر لو خرجت منه برمضان، فاعلم أنك مغبوط ومحسود؛ أعني التوبة النصوح، إنه أمرٌ عظيم لا يقتحمه إلا أفذاذُ الرجال، أولئك الذين أرضوا الله وأسخطوا الشيطان وأولياء الشيطان، يوم أن ودَّعوا الغفلة والسهو، وأقبلوا على ربهم بقلوب خاشعة وجوارحَ مستسلمة، فكان لسان حالهم: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
توبة نصوحة لا رجوع للذنب مرة ثانية، هذه إرغامٌ للشيطان وإرضاءٌ للرحمن، وهكذا أيضًا سعادة لك يا عبد الله، يوم أن تُقبل على ربك فتُرضيه في العشر الأواخر من شهر رمضان، تتوب من التفريط بترك الصلاة، تتوب من عقوق الوالدين، من أذية الجار، من أمور محرَّمة أنت تعرفها، فأنت تقرَّبت إلى الله بتركها، فلا تظُن هذا عملًا قليلًا، والله إنه عظيم يوم أن تترك ذلك كله مبتغيًا الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، فحينئذٍ تبشَّر بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)[1]، (ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)[2].
وهكذا أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنَّ إذا اجتُنب الكبائر)[3].
فهذه أول خطوة وأعظم خطوة تخطوها يا عبد الله، لتجد الراحة والله والطمأنينة، والله إنك لتجد الاستراحة والحياة الهادئة في نفسك يوم أن تخلع منك أوسمة الشيطان ووساوس الشيطان، لتقول لها: وداعًا، لا حاجة لي بك أبد الآبدين، فحينئذٍ أبشر برضا وبعتق من النار، وبرضا من الرحمن، أبشر بالخير كله يا مسلم، ولا ينبغي أن تكون توبتك تجربة، إن وجدت من خير الدنيا وأرزاق الله، وإلا رجعت إليها مرة ثانية، فاعلَم أن المؤمن في ابتلاء واختبار، إن صبر رفَعه الله وإن لم يصبر خفَضه الله سبحانه وتعالى؛ كما قال ربنا: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
ثم اغتنام ما بقِي من شهر رمضان بالمرابطة في المسجد، والإكثار من قراءة القرآن الكريم، والإكثار من الاستغفار، والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم تتحرى ليلة القدر وهي في أوتار من العشر الأواخر من رمضان، تتحرى هذه الليلة الشريفة التي يقول فيها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)[4].
ولقد امتدح الله هذه الليلة، فقال جل وعلا: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ *سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر:1 – 5].
فتأمل في مطلع هذه السورة، فمن فضائلها أن القرآن نزل في هذه الليلة من عند الله إلى بيت العزة من سماء الدنيا[5]، فهذا شرف رفيع لهذه الليلة ﴿ إنا أنزلناه ﴾؛ أي: إن القرآن الكريم أنزله الله في ليلة القدر؛ كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
فالقرآن نزل في رمضان في ليلة القدر، وهي ليلة من ليالي رمضان أشرف ليالي رمضان، وأشرف ليالي السنة والزمان، ثم سماها الله ليلة القدر لأمرين اثنين:
لأنها ليلة ذو قدر رفيع وشرف عظيم، ولأنه يقدَّر فيها مقادير العباد لعام كامل من أرزاق قوم، وحرمان آخرين، وإماتة قوم وإحياء آخرين، فهي ليلة القدر من القدر والتقدير، ومن الشرف والتعظيم.
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، ثم عظَّم الله شأنها، فقال: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾[القدر: 2]، ثم بيَّن الله علة ذلك التعظيم، فقال: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾[القدر: 3]، هذه الليلة خير من ألف شهر، وذلك بفضيلتها، فهي تعدل عبادة ثلاثة وثمانين عامًا، فمن قامها فقد حاز خيرًا عظيمًا، ومن ضيَّعها فقد حُرم خيرًا عظيمًا.
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 2، 3]، ثم بيَّن الله ما يكون فيها، فقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ [القدر: 4]، فما السر في ذلك؟ ليلة تتنزل فيها الملائكة، والملائكة لا ينزلون إلا بالرحمة والبركات وبالخير الكثير، فهي ليلة تتنزل فيها الأملاك، ومن هؤلاء جبريل، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ [القدر: 4]؛ أي: بأمر ربهم، ﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾[القدر: 4، 5]؛ أي: إنها مسلَّمة من كل سوء، لا فيها عصيان ولا فيها رمية بشهب نار على شيطان، ولا فيها شيء من السوء، إنها سلِمت من كل آفة، وهذا السلام والسلامة فيها يكون حتى مطلع الفجر، فهي من بعد صلاة العشاء، وتستمر إلى الفجر، وإن الكثير من المسلمين ربما اعتقدوا فيها اعتقادات باطلة، ونظروا إلى جوانب مادية منها، وهذه الليلة لا تعني شيئًا من ذلك، وإنما هي ليلة تعبُّدية، لكن الخير فيها كثير، وأول خير فيها هو خير الآخرة، ومن سأل الله من خير الدنيا، أعطاه الله سبحانه وتعالى من خزائنه؛ قال سبحانه: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].
فمن أراد الجنة، فخزائنها بيد الله، ومن أراد العز في الدنيا، عزة مال وجاهٍ وشرف، سأله من الله سبحانه وتعالى، فالخير بيد الله سبحانه وتعالى كله، فلقد كان صلى الله عليه وسلم مع ما غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، يرجو أن ينال شرف هذه الليلة، ولقد اعتكف في بعض الرمضانات عشرين يومًا، يريد أن يحظى بهذه الليلة المباركة، فمن كان قد وفَّقه الله للاعتكاف، فليعلم أنه على خيرٍ، ومن لم يعتكف فليتحرَّ ليلة القدر، ولا ينبغي له أن يخصِّص ليلة بعينها، كما هو شأن بعض الناس يحرصون على ليلة سبعة وعشرين، فالأدلة في ذلك متكافئة لا يستطيع عالم أن يرجح أنها في ليلة سبعة وعشرين، لوجود الخلاف في المسألة، ففيها أكثر من ثلاث وأربعين قولًا، ولقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخبر أصحابه بليلة القدر، وأن يعيِّن لهم تلك الليلة، والحديث ثابت في صحيح البخاري، فاختلف رجلان – تلاحا رجلان – فقال صلى الله عليه وسلم: (إني خرجتُ لأُخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمِسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)[6].
فكوننا لا نعلم ليلة القدر بعينها في أي ليلة هي، فذلك فائدة عظيمة، وذلك أن يتسابق الناس ويتسارع ويشمِّروا ويجتهدوا كلهم، من الذي يحظى بليلة القدر، فهي بمثابة مسابقة كل واحد أراد أن يسابق الآخر، وأن يسارع من أجل أن يحظى بالجائزة، فهي جائزة من الله سبحانه وتعالى، وهبة لمن شَمَّر وسارَع من أجل أن يحظى بها، فينبغي على المسلم أن يكون حريصًا يقوم في أوتار العشر وفي غير أوتار العشر الأواخر، يحاول أن يقرض نفسه رصيدًا من العمل الصالح، فما دام في وقت الإمهال وما دام قادرًا، فإن بعض الناس يفرِّط بحياته في وقت الشباب، فمتى ما احدودب ظهره راجع حسابه، ورجع إلى الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يستطيع أن يقوم الليل، أو أن يكثر من العمل الصالح، فقد اهتدَّ بدنه كله، فلا يستطيع أن يقوم بما كان يستطيعه في وقت الفتوَّة والصحة والعافية.
فيا معاشر المسلمين، هذه أيامٌ مباركة وليالٍ فاضلة، فطوبى لمن اغتنمها، وويل لمن فرَّط وضيَّع، فإنه يعض على أصبع الندم، ولا يلومنَّ أحدٌ إلا نفسه حين لات مندم، فينبغي للمسلم أن يكون متعظًا بغيره، وأن يتأمل في تقلُّبات هذا الزمان، فالذين رحلوا أنت منهم قريب مرتحل، وهكذا أيضًا يلحق الأول بالثاني واللاحق بالسابق، وهكذا شأن الليالي والأيام؛ قال سبحانه: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8].
اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الصائمين القائمين، واغفر لنا ذنوبنا يا إله الأولين والآخرين.
هذا ما قلته لكم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
معاشر المسلمين، اتقوا الله سبحانه وتعالى، واعلموا أن أعظم ثمرة تخرُج بها في شهر رمضان أو من شهر رمضان، هو تقوى الله سبحانه وتعالى؛ كما قال عزَّ مِن قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وتقوى الله سبحانه وتعالى المراد بها فعل المأمور وترك المحذور، فمن وفَّقه الله لصيام صحيح في شهر رمضان، فليعلم أن الله طالبه بالتقوى، ومعنى ذلك أنه يلازم الطاعة لزومًا صحيحًا، يحافظ على الصلوات في جماعة، فمن علامة صحة قبول الصيام أن تكون مستقيمًا في رمضان، وأن تكون مستقيمًا بعد انصراف شهر رمضان، فمن كان هذا حاله، فليعلم أن صيامه مقبول وأن الله قد رضي عنه، أما من خرج رمضان ثم عاد إلى ما كان عليه من الذنب والمعصية، فليعلم أنه لعَّاب، وأنه ليس معجزًا لله سبحانه وتعالى، فالله قادرٌ على أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر، لكنه سبحانه وتعالى يُمهله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته)، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102][7]، فالله سبحانه وتعالى قادرٌ وقاهرٌ ومنتقمٌ، لكنه يُملي ويمهل سبحانه وتعالى.
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا ولا يزل مهما هفا العبد عفا يعطي الذي يخطي ولا يَمنعه جلاله من العطا لذي الخطا |
فمن كان على ذنبٍ ورب العالمين يسوق إليه الأرزاق، فلا يظن أن ذلك اصطفاء، وأن الله يحبه أو ليس قادرًا عليه، فالله سبحانه وتعالى يعطيه من النعم، من أجل أن تشتد الحجة عليه يوم القيامة، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر فكم من رجل خرج من بيته وكان يظن أنه بعيد من الله وأن الله لا يستطيع أن يقهره ثم بعد ذلك كان أمره بين الكاف والنون فما هي إلا لحظات وإذا بالاتصالات أنه في غرفة الإنعاش؛ يعني إن عاش وإلا فسيموت، ثم بعد ذلك كان الموت محققًا، وهكذا دواليك، وهكذا شأن هذه الدنيا!
فيا أيها المسلمون، اغنموا ما بقي من شهر رمضان، ثم بعد ذلك نذكِّركم بما افترض الله عز وجل عليكم من زكاة أموالكم، وقد تقدَّم ذلك في الخطبة المتقدمة، ثم بعد ذلك ما يتعلق بزكاة الفطر، وهي صاع من شعير أو من تمر أو من زبيب على الفقراء والمساكين من المسلمين، فمن كان عنده قوت يومه وجَب أن يخرج زكاة الفطر، وإذا طالبت الدولة بزكاة الفطر مالًا، وجب عليك أن تعطيها وأن تسمع وتطيع؛ لأنها دولة مسلمة، لكن لا يجزئ ذلك، فبقي حق الفقير ذمة في عنقك، فالسنة أن تخرج زكاة الفطر ليلة العيد، لكن ربما حصل التفريط، ربما حصل التساهل، ربما لم تتمكن، تحصل لك ظروف ليلة العيد، فلا بأس أن تخرجها قبل العيد بأسبوع أو بأربعة أيام، تُخرجها إلى الفقير الذي ترى أنه فقير، فعلى كل واحد صاع، والمراد بالصاع أربعة أمداد على كل فرد من أفراد الأسرة الصغير والكبير[8]، ما عدا الجنين الذي في بطن أمه فليس عليه شيء من زكاة الفطر[9]، هذه تدفع للمسلمين؛ ليُغنيهم الله سبحانه وتعالى، ثم كذلك نشفع للفقراء والأرامل والأيتام، فمن كان يعلم أسرة فقراء وأيتامًا وأراملَ، فليعطيهم مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، فلا بأس أن تعطيهم في هذا الشهر، أعطهم من الغذاء، أعطهم من الدواء، أعطهم من الكساء.
فيا مسلم، لو تعلم ما لك عند الله عز وجل من الأجر والثواب، ومن الرضا والرضوان يوم أن تُدخل سرورًا على قلب أسرة منكسرة، فتجبر كسرهم في هذا الشهر المبارك، تتأمل كم فيها من الأطفال ثلاثة أو أقل أو أكثر، ثم تعطيهم كسوة العيد، كم يكون لك من الأجر حينما تدخل السرور على قلب هؤلاء، أتظُن أن ذلك يضيع عند الله، كلا وربي لا يضيع منه شيئًا؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30].
فالله لا يضيع أجرك أبدًا، فبما أنك تُفرح أولادك، تكسوهم كسوة العيد، فهناك من المسلمين من هو محروم، ثم أيضًا نتذكر بهذه المناسبة حالة إخواننا الذين يشاطرون العقيدة ويشاطروننا رحم الإخاء، إخواننا في أرض فلسطين، إخواننا في أرض العراق، في كثير من بلاد المسلمين، ما الذي قدَّمناه لهؤلاء، بقي أن نرفع أكفَّ الضراعة، وأن ندعو لهم في هذه الليالي والأيام أن يدحر الله عز وجل عدوَّهم من الأمريكان ومن اليهود الغاصبين، ومن دول الكفر التي اتَّحدت على ضربتهم، فهذه أمانة في أعناقكم يا معاشر المسلمين، إذا كنتم لا تستطيعون أن تدعموهم بالمال وبالرجال وبالعتاد، فبقي عليكم دعوة صالحة في جُنح الليل ترفعونها إلى قبلة السماء.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء جناح الليل لا يبقي ولكن له أمد وللأمد انقضاء |
معاشر المسلمين، اتقوا الله سبحانه وتعالى، وتوبوا إلى ربكم في هذا الشهر الكريم، فلا زالت أبواب الجنة مفتحة وأبواب النار مغلقة كلها، صُفدت الشياطين، نادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، فمن فاته التوبة في رمضان، فليعلم أنه قرين للشيطان، وقد اتخذه خلًّا وندًّا ووليًّا، فمن كان لا يستطيع أن يرغم الشيطان وقد انهزم في رمضان، فهو في غير رمضان أجبنُ وأحقرُ من أن يتوب.
فرصة يا عباد الله أن ترضوا الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر الكريم.
أسأل الله أن يثيبنا وإياكم، وأن يتقبَّل منا ومنكم صالح الأعمال، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا هَمًّا إلا فرَّجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسَّرته، اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير، وكُفَّ عنا كل ضيرٍ يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الصائمين القائمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم اقسِم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا وانصُرنا على من عادانا.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ هَمِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم اقبَل صيامنا وصلاتنا، اللهم اقبل أعمالنا كلها، اللهم وفِّقنا لإتمام شهر رمضان ونحن بصحة وعافية يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا نغتنم ما بقي من الصيام والقيام، ووفِّقنا لقيام ليلة القدر.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
اذكروا الله يذكُركم، واشكروه على نعمه يزدْكم، ولذكرُ الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.
[1] متفق عليه: البخاري (38, 1802, 1910) ومسلم (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] متفق عليه: البخاري (37, 1904, 1905) ومسلم (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه مسلم (233/16) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] متفق عليه: البخاري (35, 1802, 1910) ومسلم (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] روي هذا عن ابن عباس موقوفًا؛ كما عند النسائي في الكبرى (7991) والحاكم (2881, 4216)، وصحَّحه ووافقه الذهبي، ولفظه: [فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلًا].
[6] رواه البخاري (49, 1919, 5702) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[7] متفق عليه: البخاري (4409) ومسلم (2583) عن أبي موسى رضي الله عنه.
[8] لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري (1432, ومواضع) ومسلم (984) قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة
[9] ولكن يستحب إخراجها عنه لفعل عثمان رضي الله عنه.